مجلة الرسالة/العدد 564/رأى الأستاذ توحيد السلحدار

مجلة الرسالة/العدد 564/رأى الأستاذ توحيد السلحدار

مجلة الرسالة - العدد 564
رأى الأستاذ توحيد السلحدار
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 04 - 1944



في كتابي: (الوعي القومي) و (دراسات عن مقدمة ابن

خلدون)

أهدي أحد الفضلاء في لبنان هذين الكتابين القيمين إلى صديقنا

الأستاذ الكبير محمد توحيد السلحدار، فلما قرأهما كتب إليه

كتاباً جاء فيه:

ذكرت في بعض ما كتبت (للرسالة) أن من أصحاب الفكر والذوق للمعاني من قال: إن الثقافة وعي أطراف صالحة من أثمار العقول، العلمية والفنية والأدبية، بها يلتفت المثقف إلى المبادئ والأسباب والقوانين، ويرشد قومه إلى الأصلح لحالهم، والأنقع لترقيتهم، والأخلق بالإنسانية

وكتاب (الوعي القومي) لبادعه الفاضل، الدكتور قسطنطين ذريق، أستاذ تاريخ الشرق بالجامعة الأمريكية في بيروت، ثمرة شهية من أثمار الثقافة الجدية، ومثال رائع يتجلى فيه معناها

هو كتاب يبين حال الشرق العربي الحاضرة بعجرها وبجرها، ويعرف وسائل التخلص منها، ويهديه - إذا هو أراد أن يهتدي - سبل الأهداف والمثل العليا والحياة بين الأحياء، وبحثه على سلوكها

ولقد جمعت أجزاءه ووحدت توجيهاته الحكيمة فكرته الأساسية مركزة في عنوانه المحكم البليغ، مرفرفة على كلامه السهل الممتنع الرفيع من أول البحث إلى آخره، حيث هدأ القلم، وحيث تفجرت من سنه حرارة وطنية وعاطفة إنسانية

قواه صاحبه بروحه العلمي ووضوح حجته، وجمله بنور بصيرته وبراعته الكتابية الفنية وبكياسته في التمهيد للنقد وبيان العلل، ولطف مدخله في النصيحة. وقد شف كلامه عن عمق إيمانه بحقائق دعوته، وحبه البين لأثمار العقول، حبا يكسب تلك الثقافة التي وصف، وكلما أحرزنا حظاً منها تكشفت لنا الأهداف القومية والمثل العليا التي لم يتورط ف تعريفها الآن، لحكمة لم يرد بعض النقاد أن يدركها

أضف إلى ذلك فضل أخلاقه الكريمة من عفة لسانه في صراحته، ومن نزاهته عن التعصب والتحزب، وصدقه وإخلاصه في الدعوة للوعي القومي، وكرامته وتواضعه تواضعاً يهبه العلم والأدب والتربية

استقصي واستوعب، وشخص الداء ووصف الدواء، شارحاً دعوته في إيجاز نير، حتى يرى من لا يرى، ويعلم من لم يعلم، ويفهم من لم يفهم، ويعمل من لا يعمل على مصلحة قومه

(في الوعي القومي) آية للزمان ومدعاة إلى الاطمئنان على مستقبل نتمناه، سواء أكان بعيداً كل البعد أم قريباً كل القرب

من أجل ذلك كله قد لا أكون مبالغاً إذا أنا زعمت أن هذا الصنيع الأساسي النفيس، المبتكر بوحدته ومميزاته ومرماه وظهوره في الشرق العربي في إبان الحاجة إليه، هو أجل كتاب بين الكتب العربية التي وضعت منذ أطفأ الدهر نور هذا الشرق

أما الأستاذ الكبير، ساطع بك الحصري، فقد أبدع كذلك في (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) إذ جاءت مصداقاً لتقريره (أن الطرافة في الدراسات لا تتأنى من جدة الموضوع وحده، بل قد تتولد من طرافة الطريقة والاتجاه أيضاً)، فإنه خدم قومه باتجاهه العلمي، وعرف الأصول التي اهتدى بنورها في دراسة المقدمة، وكان البادئ في العربية بدراستها على الطريقة العلمية فيما أعلم

ذكر، مثلاً، أن كل عالم ومفكر يشاطر بوجه عام معاصريه أكثر أخطائهم، ولذا فإن منزلته (لا تتعين بملاحظة جميع الآراء الصائبة والخاطئة المنبثة في كتاباته ومؤلفاته المختلفة، بل تتقرر بملاحظة الآراء المبتكرة التي يسمو بها على معاصريه، والحقائق الجديدة التي يضيفها إلى المكتسبات الفكرية البشرية، والخدمات التي يقوم بها بهذه الصورة في سبيل تقدم الأفكار والعلوم)؛ وعرف طرائق النقد الداخلي والنقد الخارجي والنقد التفسيري؛ ولاحظ أن مباحث المقدمة قسمان: (المباحث الأساسية. . . تحوم حول علم العمران وأسس التاريخ مباشرة)، و (المباحث الاستطرادية التي تأتي تمهيداً للأبحاث الأصلية أو إتماماً لها)؛ وأن عمل ابن خلدون في هذه (لا يتعدى حدود النقل والجمع، والعرض والتلخيص، والترجيح والتسجيل؛ أما تلك فتظهر فيها قدرته الابتكارية وعبقريته الحقيقية)

وضع الأستاذ (أبو خلدون) دراساته على أصول الطريقة التي ذكر أسسها في شرح نظراته في آراء ابن خلدون ونظرياته. فنبه، مثلاً، إلى أن صاحب المقدمة استعمل كلمة العصبية (لغير معناها في المعاجم والاستعمالات الحالية)؛ واستعمل كلمة العرب (بمعنى البدو الأعراب)، فأدى ذلك إلى (أخطاء عظيمة) في فهم مقاصده، وأظهره (بمظهر التحامل على العرب، وحمل بعض الشعوبيين على الاستشهاد به، كما دفع بعض القوميين إلى الهجوم عليه)

وكشف الأستاذ المفضال خطأ الذين (ظنوا أن ابن خلدون يعزو أهمية كبيرة إلى البيئة الجغرافية، كما زعموا أنه يعتبر الدين أهم عوامل الاجتماع)؛ وأيد بالبحث والموازنة أن ابن خلدون أحق من الغربيين (باسم مؤسس فلسفة التاريخ أو علم التاريخ) و (بلقب مؤسس علم الاجتماع)؛ وأظهر مكانة هذا العالم العربي في نظر علماء الغرب

جمع المؤلف التحرير أشتات كل رأي لابن خلدون من أبواب المقدمة وفصولها بعد أن نظر في الفصول المنسية في الطبعات المصرية والبيروتية للمقدمة، وهي موجودة في الترجمتين التركية والفرنسية المطبوعة في باريس؛ وقابل هذه الآراء والمبتكر منها بما سبقها وبما جاء بعدها من آراء تتعلق بفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، وعين ابتكارات ابن خلدون وبين (كنه نظريته في العصبية، وآراءه الأساسية في الحياة الاجتماعية البدوية والحضرية)؛ فجاءت نظرته في المقدمة نظرة ناقد مثقف بصير

ألا إن فضل ساطع بك الحصري هو، على الخصوص، في الطريقة العلمية التي اتبعها في دراساته، وفي اتجاهه وأسلوبه الفني في الإحياء الثقافي، وفي قدرته على القيام بهذا العمل الدقيق النافع الذي توخاه، وصنيعه النفيس دليل على تقديره وإجلاله لتراثنا العربي العظيم، وعلى تحقيقه النظر فيه واجتهاده في تفهيمنا إياه ونحن في حاجة ماسة، ليست تنتهي في زمن قريب المدى، إلى مثل هذا النوع من الكتابة والتأليف. وذلك وجه من أوجه الإحياء الذي يدعو إليه (الوعي القومي) لإيقاظنا من سباتنا العميق.

محمد توحيد السلحدار