مجلة الرسالة/العدد 57/أزمة الكتاب ومصير الكتب

مجلة الرسالة/العدد 57/أزمة الكتاب ومصير الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 08 - 1934



للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان القرن التاسع عشر عصر الآلات والاختراعات الصناعية، فحلت الآلة مكان اليد العاملة في معظم الصناعات، وحرم ملايين العمال من العمل اليدوي، وساد البؤس في الطبقات العاملة، واستمر هذا التطور طول النصف الأخير من القرن الماضي حتى استقرت الصناعة أخيراً على قواعدها الجديدة، وحل العمل النفي والآلي مكان العمل اليدوي.

واليوم نشهد انقلابا عظيما آخر في مصير الإنتاج العقلي؛ فقد كان (الكاتب) حتى أوائل هذا القرن أهم وانفس غذاء علي للطبقات المثقفة، وكانت قراءة الكتب المختارة أسمى وأمتع وسائل التربية والتهذيب والرياضية العقلية، ولكن التطورات العلمية والأدبية والاجتماعية التي حدثت منذ الحرب الكبرى كان لها اثر كبير في تطور الذوق الأدبي أو بعبارة أخرى في قيمة الكتب وفي مركز القراءة وميول القراء. وليس من ريب في أن الكتاب قد فقد اليوم كثيرا من سحره وقيمته المادية والاجتماعية، وقل الإقبال كثيرا على اقتنائه وقراءته، ولكن ذلك لا يعني أن منسوب القراءة قد هبط، فالقراءة بالعكس قد كسبت من هذا التطور بصفة عامة، وزاد منسوبها بلا ريب تبعا لازدياد نسبة المتعلمين في مختلف الأمم؛ وإذا كان الذوق الأدبي قد تطور وخسر الكتاب القيم كثيرا من قرائه، فان أولئك القراء تحولوا إلى ألوان جديدة من الأدب الحفيف والى قراءة الصحف والمجلات. والواقع أن الصحافة أول وأقوى العوامل الجديدة التي آثرت في مركز الكتاب ومدى انتشاره. ففي ربع القرن الأخير تقدمت الصحافة تقدماً عظيماً، وغزت كل ميادين التفكير والعلوم والفنون، ولم تبق دوريات خبرية فقط؛ ومعظم الصحف اليومية السياسية، في جميع الأمم، تخصص للأدب والنقد والعلوم والفنون والمسرح والاقتصاد والمالية والرياضة صحفا خاصة حافلة بمختلف البحوث والشذور القيمة، هذا عدا القصة الصغيرة اليومية، وعدا الرواية المسلسلة، وعدا الصور الكثيرة؛ ثم هنالك المجلات الأدبية والعلمية، الأسبوعية والشهرية، وقد بلغت مدى عظيما من التقدم والذيوع، وأضحت مسرحا لأعظم الاقلام، ومعرضا لمختلف البحوث وأهمها. وتمتاز المجلة على الكتاب بتنوع مادتها، فهي تجمع بين الفصول الأدبية والع والسياسية، والقصة والمسرح والأزياء، ويكاد كل عدد منها يكون كتابا مستقلا بذاته، وهي دائما متنوعة متجددة ترضي مختلف القراء والأذواق بأكثر مما يرضي الكتاب الموحد الفكرة والموضوع، والصحافة الأدبية هي بلا ريب اشد خصوم الكتاب ومنافسيه، واشدها تأثيراً في مركزه ومدى انتشاره لأنها تبدو في بعض ألوان من الكتاب، وتأخذ بالسهل الموجز منها، حتى انك لترى أحياناً موضوعات وبحوثا خطيرة تشغل في الكتاب مجلدا أو مجلدات تلخصها المجلة في فصل لا يتجاوز عدة صفحات، وربما كان ملخصها مؤلف الكتاب ذاته؛ هذا إلى ما تتوخاه المجلة من اختيار الموضوعات الشائقة والأساليب السهلة التي تغري كثيراً من القراء على تفضليها على الكتاب.

هذه المنافسة الأدبية القوية كانت وما تزال شديدة الوطأة على الكتاب، ولم يكن في وسع الكتاب أن ينافسها، لأنها تجري طبقا للعوامل النفسية وطبقا لتطور الظروف الاجتماعية؛ أضف إلى ذلك المسالة الاقتصادية اعني مسالة الثمن، فالصحف والمجلات تعرض بضاعتها الأدبية على الجمهور بأثمان بخسة يستطيع إن يؤديها الملايين، معتمدة في ذلك على كثرة انتشارها وما تجنيه من أجور الإعلانات. ولكن الكتاب القيم لم يستطع حتى اليوم وليس في الإمكان ان ينزل إلى هذا المستوى. نعم حاول كثير من المؤلفين والناشرين أن يسايروا هذا التطور في الذوق الأدبي، فعمدوا إلى إخراج الكتب السهلة الموجزة، والى معالجة الموضوعات العلمية الخطيرة في أساليب خفيفة عادية مما يعرف اليوم بتبسيط العلوم، وهي طرية تعالج بها اليوم اخطر واعقد الموضوعات العلمية في الصحف والمجلات، وان كانت لا تؤديها دائما بما يجب من الدقة والتحقيق، وكذلك عمد كثير من المؤلفين والناشرين إلى إخراج الموضوعات الخطيرة العلمية والسياسية والاجتماعية وغيرها في ملخصات صغيرة، وفي فصول متناثرة، أو إلى جمع القطع المختارة في كتاب وأحد ليكون له بذلك ما للمجلة أو الصحيفة من التنوع، وعمدوا فوق ذلك إلى إخراج هذه الكتب في طبقات شعبية رخيصة لتكون في متناول جميع الطبقات، ومن المعروف أيضاً أن كثيراً من كتاب القصص العالميين يخرجون اليوم كتبهم في طبعات شعبية عديدة، ويتحرون اختيار القصص والحوادث المثيرة والشائقة، وكثير منهم يفضل كتابة القصص الشرطية، وقطع السينما لأنها تدر عليهم أرباحا حسنة. والخلاصة ان الكتاب اضطر تحت ضغط هذه المنافسة الشديدة التي شرحناها أن يتطور نوعا وان يساير الذوق الأدبي والظروف الاجتماعية الجديدة. ولكنه مع ذلك لا يزال بعيداً عن أن يسترد مركزه أو يقاوم هذا التيار الجارف الذي يهدد مركزه وقيمته وتقاليده وقد غدت السينما والراديو من اشد خصوم الكتاب، ففي السينما تلخص أو تمسخ أمهات القصص حتى يمكن إخراجها في صور تلائم الجمهور، ولا يقع الجمهور منها إلا على الجانب القصصي، ولا يلمس شيئا من قيمتها الأدبية أو الفنية الهامة، وتذاع فيه ملخصات عن معظم المباحث والموضوعات الخطيرة التي تعني بها الحركة الفكرية، ومزيته في انه ينقل ذلك كله للسامع وهو جالس في مكانه الوثير في المقهى أو المنزل، لا يكلفه عناء القراءة، وخطره على الكتاب والحركة الفكرية في أن الإذاعة الموجزة السهلة تمسخ معظم الموضوعات العلمية والأدبية التي تتناولها، وتصرف بذلك ملايين السامعين عن قراءتها وتتبعها في مصادرها القيمة.

وفي ظل الطغيان السياسي الذي يسود اليوم بعض الأمم المتمدنة تواجه الحركة الفكرية ويواجه الكتاب اشد المخاطر والأزمات، ففي بلاد كإيطاليا وألمانيا وتركيا وبولونيا وروسيا تسودها النظم (الدكتاتورية)، وتخمد الحريات السياسية والفكرية، تصطبغ الثقافة والتفكير بنفس الألوان التي يفرضها الطغيان وتقتضيها مصلحته وغاياته السياسية؛ وحيثما تنعدم حرية الفكر، تخبو حركة التأليف الحر وتغدو الصحافة والمفكرون والكتاب طوعاً أو كرها جنود النظام القائم، ويطارد المفكرون الأحرار، وتطارد كتبهم بلا رافة؛ وفي ظل هذه الأنظمة الطاغية، التي يزعم فيها الطغاة وأعوانهم انهم يعبرون عن رغبات الشعب وأماله وتفكيره، يختفي الإنتاج الفكري القيم ويتحول إلى نوع من الأدب الذليل الخاضع، يشيد جله بالطغاة ونظمهم ومبادئهم وأعمالهم. وقد شهدنا من مناظر هذا الاضطهاد الفكري في العهد الأخير ألوانا شنيعة في ألمانيا، في ظل الطغيان الهتلري، حيث طورد جميع المفكرين والكتاب الذين لم يسايروا الطغيان الجديد ولم يرتضوا فظائعه، ففر منهم من فر خارج ألمانيا، وقتل من قتل، واعتقل من اعتقل؛ وشرد كثير من أقطاب الأدب الألماني المعاصر، وحظرعلى دور النشر الألمانية أن تتعاقد معهم أو تنشر لهم شيئا، ومنعت كتبهم من التدأول، واحرقت كتب كثيرة في أوائل عهد النازي في شوارع برلين على نحو ما كان يجري في العصور الوسطى على يد محاكم التحقيق؛ والخلاصة إن الإنتاج الأدبي في ألمانيا قد أصيب في عهد الطغيان الهتلري بضربة مميتة، وأضحت الثقافة الألمانية والأدب الألماني الحاضر والصحافة الألمانية الحاضرة صورة متماثلة مملة للمبادئ والنظريات والآراء التي يفرضها الطغيان السياسي يمر الإنتاج الأدبي دائما بهذا الدور، ويصاب التأليف بمثل هذا العقم والتماثل ويواجه الكتاب اشد المحن.

وهنالك أخيرا روح العصر؛ فعصرنا عصر سرعة ورياضة، والسرعة تدفع كل الناس بلا هوادة، وشغف الرياضة يستغرق اهتمام الشباب وفراغه؛ فلا يجد من الوقت أو الرغبة ما يحمله على التماس القراءة، ولا سيما القراءة الرزينة الهادئة. وإذا أتيحت للشباب فرصة القراءة اليوم فماذا يقرأ؟ الكتب أو المجلات الخفيفة، المبتذلة غالبا، لأنه لا يقرأ وإنما يقرأ للهو فقط، ولا يريد أن يبذل جهودا عقلية في استيعاب كتب الثقافة الرفيعة، وهذه الروح السيئة بلا ريب، من أقوى العوامل في صرف أنظار الشباب عن الكتاب.

وهل نحن بحاجة للقول بان جميع ما قدمنا من العوامل والظروف ينطبق على سير الحركة الفكرية والإنتاج الأدبي في مصر كل الانطباق؟ إن الكتاب يواجه في مصر نفس الأزمة الخطيرة التي يواجهها في جميع الأمم المتمدنة؛ وقد صرفت الصحافة والمجلات الأدبية والقصصية ولا سيما المجلات الخفيفة والماجنة أنظار الشباب عن القراءة الرزينة المفيدة؛ وافسد الأدب المبتذل، ولا سيما الأدب الجنسي ذوق الشباب وعقليته، فأنحط مستوى تفكيره وتقديره؛ وأضحى الكتاب القيم لا يجد بكل أسف بين الشباب كثيرا من الأنصار. أضف إلى ذلك ظرف مصر الخاص وهو انتشار الأمية فيها، وضعف نسبة المتعلمين إلى حد لا يزال يزري بكرامتها، ولولا إن الشعوب التي تتكلم العربية التي نكتب بها في مصر تبلغ زهاء سبعين مليوناً، لكان خطب الإنتاج الأدبية العربي مضاعفاً؛ ومع ذلك فالمعروف أن الكتب العربية القيمة تواجه اشد الأزمات، وان الكتاب الذي لا يطبع منه سوى ألفي أو ثلاثة آلاف نسخة يمكث أعواماً طويلة قبل أن تنفذ نسخه بين السبعين مليوناً من الشعوب التي تتكلم العربية والخلاصة أن الكتب تواجه اشد أزمة عرفتها في العصر الحديث. وقد تتفاقم هذه الأزمة، ويزداد ذيوعه كساداً، ولكن الكتاب لا يمكن مع ذلك أن يختفي أو يموت. ذلك أن الكتاب قد ولد مع المدنية الإنسانية، ولبث مدى العصور اقدس متنفس للذهن البشري، وما دام الذهن البشري ينتج ويعبر عما يجول فيه، فلا بد من التجائه إلى الكتاب، وقد مر الإنتاج الفكري ومرت الكتب خلال العصور المظلمة بمحن شديدة، ولاذت بالاختفاء أيام الغزوات البربرية في عهد الهون والوندال، ولبثت في الأمم الأوربية مدى قرون تقبع في ظلمات الاديرة، ولم تجد متنفساً وملاذاً إلا في الدول الإسلامية، في ظل المدنية الإسلامية الزاهرة؛ واستمرت محاكم التحقيق (التفتيش) عصورا تجد في مطاردة التفكير الإنساني وفي مصادرة الكتب وحرقها؛ ولكن هذه الخطوب والمحن كلها لم تخمد جذوة التفكير الإنساني، ولم تقض على حياة الكتاب؛ وخرج الكتاب ظافرا من هذه المحن، وجاءت المطبعة في فجر العصر الحديث فاستطاع بعونها أن يغمر العالم؛ ولم تقو عصور الطغيان ونظمه على مغالبة الذهن البشري؛ فإذا كان الكتاب يجوز اليوم أزمة فكرية اجتماعية، نظرا لتطور الحياة والاختراعات العلمية، فتلك أزمة مؤقتة، سوف يتاح للكتاب أن يتغلب عليها متى استطاع أن يهيئ نفسه للسير مع الظروف الجديدة في ألوان لا تغض من قدره ورفيع مكانيه.

محمد عبد الله عنان المحامي