مجلة الرسالة/العدد 570/رسائل التعليقات للرصافي

مجلة الرسالة/العدد 570/رسائل التعليقات للرصافي

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 06 - 1944



للأستاذ دريني خشبة

لم يكن أحب إلي من أن أكتب عن الرصافي الشاعر الذي أحبه كما أحب هذه النخبة الكريمة من شعراء العراق الشقيق، لا الرصافي الفيلسوف الذي يدعونا إلى دين جديد!

ولم يكن أحب إلي من أن أترك القلم للصديق الأعز، أخي الدكتور زكي مبارك، لأن القضية قضيته، والموضوع موضوعه، وهو الذي فتح علينا باب هذه الفلسفة الجديدة التي أخذ الرصافي يدعونا إليها من دار السلام

لكن الدكتور زكي مبارك يخاصم الزيات اليوم تلك الخصومة التي لا سبب لها، ويخاصم الرسالة تلك الخصومة التي لا سبب لها كذلك. . . إنه مخاصم الزيات ومخاصم الرسالة لأنهما أطلقا العنان لحرية النشر وحرية الفكر وحرية المجادلة، وأرادا أن يسجلا هذه الصفحة الخالدة من صفحات حرية البحث التي كان الدكتور علماً من أعلامها، بما أثبت في كتبه الكثيرة الجريئة من أفكار وآراء، وهي أفكار وآراء تمس ديننا وتمس لغتنا، بل هي تخوض فيهما خوضاً. . . أفأن رأى أحد مفكرينا من ذوي الغيرة على الدين واللغة أن بعض هذه الآراء قد جار عن القصد، وجاء مالئا يديه بالبرهان وبالدليل، أو بما يؤمن هو أنه البرهان وأنه الدليل، على بطلان ما ذهبنا إليه، غضبنا. . . وتركنا مجادلنا يقول كل شئ، ولا نقول نحن شيئاً؟

إن الدكتور زكي مبارك غاضب لأنه لم يكن ينتظر أن يهاجم في ميدانه الذي هو الرسالة. . . ولقد كنت أغضب مثله حينما أراني أهاجم، بل أتهم، في الرسالة التي أعدها ميداني. . . وكانت حجة الأستاذ صاحب الرسالة أنه كثيراً ما نادى بأن الرسالة:

تعبر بإخلاص عن روح النهضة المصرية

وتجمع على وحدة الثقافة أبناء البلاد العربية

وتصور مظاهر العبقرية للأمة العربية

وأن مجموعة أعدادها ديوان العرب المشترك، وكتاب الشرق الجديد، وسجل الأدب الحديث، ودائرة معارف عامة. . .

وأنه لذلك يؤثر أن تكون الرسالة دائماً سجلاً صادقاً لاحتراب الأفكار في مصر وفي الش العربي بحيث يجد فيها مؤرخو العالم بعد ألف سنة صورة حقيقية لما كان يجري في هذه الأقطار من جدل يدل على الحياة، ونضال يثبت الشخصية. . . وكانت حجة الزيات الأخرى أن الرسالة تناولت بالنقد كل كتابها الأماثل، وأن الدكتور زكي مبارك نفسه كان أحد مغاوير هذا النقد، فلم يكد يسلم من قلمه أحد ممن لهم في تحرير الرسالة الجهاد المشكور. لكن النقد الذي كان الدكتور يشب ناره لم يكن نقداً يمس الدين ويمس العقائد، كهذا النقد الذي وجهه إليه أخيراً أحد الكتاب الأفاضل الغير. والذي كان سبباً في تنكر الدكتور للرسالة ولصاحب الرسالة

ويعد. . . فحسبنا خروجاً على موضوع هذه القضية التي تسبب في إثارتها الدكتور زكي مبارك بكتابيه العظيمين اللذين لم يؤلف مثلهما كثيراً لا في مصر، ولا في الشرق العربي ألا وهما:

1 - في التصوف الإسلامي

2 - النثر الفني

ولعلي لا أثير سخط أحد بوصف هذين الكتابين بالعظمة، وبالرغم مما يحملانه من أوجه النقص التي أشار إليها غير واحد من الكتاب والتي وصفتها لأخي الدكتور زكي مبارك أول ما لقيته بالقاهرة في العهد الأخير بأنها - أي أوجه النقص هذه (بقع!) كبيرة كان يحسن بالأستاذ أن يتحاشاها حتى لا تقلل من قيمة كتابيه الجليلين. . . وكان هذا قبل عامين على ما أذكر. على أنه ليس هنا - أو ليس الآن - موضع التحدث عن آيات الخلود في هذين الكتابين. . . لأننا نكتب هذا الكلام بمناسبة ذلك الكتاب المفاجئ الذي وصل إلى مصر من العراق الشقيق، والذي ألفه الشاعر الفاضل معروف الرصافي، وسماه: (رسائل التعليقات) (مطبعة المعارف ببغداد سنة 1944) وجعل ثلثيه في نقد كتابي الدكتور زكي مبارك في التصوف الإسلامي والنثر الفني. . . والعجيب أن الدكتور زكي لم يطلع بعد على الكتاب الذي ألف في نقده، ولو لم أكن مشغولاً بقراءته ومناقشة ما فيه لدفعت إلى صديقي ليسمعنا رأيه فيما رماه به شاعر العراق من تهم أشهد بين يدي الله أنه برئ منها، وإن خانه التعبير فكتب ما يشتم منه هذا الذي أخذه عليه ناقدوه

وقبل أن نعرض آراء الأستاذ الرصافي نعلن أننا نقدس حرية الفكر ما لم ترم إلى شر، وما لم تكن نتيجتها بلبلة أفكارنا والعصف بمعتقداتنا، وهدم المعايير الأخلاقية الكريمة التي زودنا بها ديننا الذي هو أعز علينا وأكرم من فلاسفة العالم

وقبل أن نعرض آراء الأستاذ الرصافي نعلن أننا نؤمن بالله هذا الإيمان الفطري الساذج الذي قذفه الله في قلوبنا، وأنار به بصائرنا. وأن الله هو خالق تلك الأكوان كلها، فالله شئ والأكوان كلها شئ آخر. وليس الله مجموعة من القوانين الطبيعية كما يقول الفلاسفة. وإيماننا هذا الساذج الفطري هو الذي يصحبنا في تفكيرنا دائماً وهو لسهولته ويسره لا يشغلنا كثيراً، ولا يقذف بنا في تلك المهامه التي تورث الخبال، ولا تثمر إلا الضلالة، وهو لسهولته ويسره يصرفنا إلى ما هو أجدى من أمور هذه الحياة التي يملأها الجد. . . ونحن بهذا الإيمان الساذج الفطري الذي نطيع به الله ونحب به رسوله، والذي ندعو الله أن يزيده في قلوبنا رسوخاً أكثر تمدينا من الذين يرموننا بالجمود، فما أرسل الله رسله إلا لمحاربة الجمود وهداية الناس إلى الحق واليقين

وقبل أن نعرض آراء الأستاذ الرصافي أيضاً، نذكر ما أخذ على الأستاذ من الجرأة في العقيدة، والتحلل مما جاء به النبيون أو تأويله بما يلائم أفكاره، ولا يزال القراء يذكرون هذا الذي نشرته الرسالة عن عقيدته سنة 1935 (8 يوليو العدد 105 - السنة الثالثة) نقلاً عن الأستاذ أمين الريحاني الذي يقول:

(إن للرصافي رأياً في الوحي الشعري غريباً: هو لا يؤمن بالوحي، أو بالحري الوحي المنزل، إنما يعتقد أن القوة الشعرية في الإبداع، تتعلق بقوة الباه في الجماع! وأن الضعف الذي يعتري القوة الواحدة يتصل بالأخرى، إذن لابد من التوازن بينهما. . . بل هو ضروري. . .

(. . . ثم ذكر (أي الرصافي لأمين الريحاني) النبي محمداً وهو في نظر معروف شاعر عظيم. . . على أن أجمل قصائد النبي، أي أجمل السور القرآنية، إنما هي التي جاء بها في عهد الاعتدال الجنسي، يوم لم يكن له غير خديجة زوجاً، أما بعد وفاة خديجة، فقد أصبح محمد مزواجاً، وكانت قصائد - السور - في هذا العهد مثل نسائه، أي دون ما تقدم ومنهن

(فقد كتب الرصافي سيرة النبي محمد، وأطلعني عليها مخطوطة بيده، في سبعة دفاتر من الدفاتر المدرسية، فما أدهشني منها ما فيها من العلم والتحقيق، لأن مصادر الموضوع متوفرة لمن شاء معالجته، وأحسن البحث والموازنة، إنما أدهشتني القوة النافذة والمقدرة على التحليل والاستخراج، والتفلسف في عقائد لا تستقم بغير الإيمان والجرأة والصراحة مع الاتكال على العقل والعلم فيهما

(فقد استخدم في سيرته المصباح الذي استخدمه العلماء الأوربيون في نقد التوارة - أي مصباح النقد الأعلى الذي ينير العلم بنور العقل والمقارنات التاريخية. ومما يزيدك إعجاباً بالرصافي أنه لا يحسن لغة أجنبية، فقد ركن في كل ما حلل وأول واستخرج واستنتج إلى اجتهاده الخاص، وإلى علومه الواحدة العربية

(وإنك لتدرك الروح في مصنفه هذا إذا علمت رأيه بالله، فقد قال لي مرة: إن الآية: لا إله إلا الله، لا معنى لها، ويجب أن تبطل، أو تبدل بالآية: لا إله إلا الوجود، أي أن الكون هو الله، هي عقيدة البانيتزم، أي الحلول، وهو فيها على اتفاق والزهاوي. وقد يهمل وينسى كثير من شعر الرصافي في المستقبل، وتظل سيرته النبوية من الكتب التي تقرأ وتكتنز

وقد علقت الرسالة على هذا اللغو تعليقاً كريماً، فذكرت أن حكومة العراق صادرت كتاب الريحاني لمثل هذا الهتر، وأن الرصافي قد يقول شيئاً من هذا الكلام في ساعة لهوه ليطوى في بساط الشراب، لا لينشر على الناس في كتاب. . . الخ)

لقد تعمدنا أن نطيل الاقتباس لأن الرصافي عاد فردد هذه الأراجيف في كتابه الجديد الذي لم يصادر، وينبغي ألا يصادر، فالمصادرة سلاح رث لا يجمل استعماله في هذا العصر الذي يأخذ بحرية الفكر. . . وسترى كيف تبطل هذا اللغو بعد عرض آراء الأستاذ الكبير. . .

(يتبع)

دريني خشبة