مجلة الرسالة/العدد 570/من اقتصاديات ما بعد الحرب

مجلة الرسالة/العدد 570/من اقتصاديات ما بعد الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 06 - 1944



مستقبل القطن المصري

للأستاذ زكريا بك حجاج

مدير مراقبة القطن ومنع خلطه

1 - تأثير السعر على الإنتاج

تأثير السعر في الإنتاج الزراعي - شواهد من الماضي - خطورة انكماش الأسعار - الدعوة إلى تثبيت أسعار السلع الزراعية في الحرب والسلم - مقترحات لتسهيل ذلك - اقتراح إنشاء صندوق للقطن.

مشكلة الإنتاج الزراعي هي مشكلة السعر؛ فكل منها يتأثر بالآخر تأثراً كاملاً دائماً. والخطأ في تدبير مشكلتهما في دولة ما قد يفضي إلى خرابها، ولقد أطاحت هذه المشكلة في إنجلترا قبل الحرب الحالية بثلاثة وزراء للزراعة

وتذبذب قيم واضطراب الأسعار كانا السبب المباشر للتدهور الزراعي الذي مني به العالم بين سنتي 1920، 1940، إذا استثنينا الفترات القصيرة التي تحسن الإنتاج فيها لعوامل عارضة قصيرة الأجل

ومثل تلك الحالة ما وقع بعد الحروب النابوليونية، وما حدث غب الحرب الأمريكية الأهلية (1873 - 1880)

ونصيب مصر من ويلات تدهور الأسعار فيما بين الحربين الماضية والحاضرة كان نصيباً كبيراً. فقد كانت أسعار بعض المحاصيل المصرية لا تفي بنفقات زراعتها، وكان بعضها يظل ملقى في الحقل حتى يدركه التلف ولا يجد من ينقله إلى الأسواق لأن تكاليف النقل كانت - على ضآلتها - تثقل المنتج وتجر عليه خسارة محققة

وما زالت في الأذهان ذكريات قاسية عن التدهور الذي أصاب أسعار القطن في موسم 1931 - 1932 والقمح والذرة في سنة 1932 والبصل في سنة 1937

عاش الفلاح خلال تلك الفترة معيشة ضنكا، وأصبح المار بالقرى لا يكاد يرى الجنيه إلا مع آحاد، بل لقد حدث بعضهم صادقاً أنه إبان اشتداد الأزمة سنة 1931 لم تقع عينه على أية عملة مدة ثلاثة أشهر

وقد ثقل على الفلاح دفع ضرائب الأطيان، وآدته الديون، فانتزعت منه المصارف والمرابون أطيانه، وبيعت بالمزاد الجبري مواشيه وآنية بيته؛ ولولا صدور تشريعات صيانة الثروة العقارية لوقع أغلب فلاحينا في الإفلاس التام

وكان من جراء ذلك أن ضعفت القوة الشرائية لدى الفلاح وهو الذي يكون 80 في المائة من مجموع الشعب، فكسدت أسواق المطالب الزراعية من آلات وأسمدة وغيرها، وخلت أسواق الملابس والحاجيات البيتية من روادها الفلاحين الذين كانوا يفيضون عليها الحياة. فنضب النشاط التجاري، وتعطلت بالتالي الأيدي العاملة، ومن ثم انتشر الفقر، وفاض القلق والاستياء في النفوس. وتطلع الناس إلى إصلاح النظم الاجتماعية أو تبديلها. وفي غمرة العوز والسخط ود بعضهم لو اشتعلت الحرب لعلها تأتيهم بخير، أو لعلها تكون أرحم بهم ذبحاً، أو لعلها تأكل الناس جملة فيستريحوا.

وحالة انخفاض الأسعار أو انكماشها أو إقامة النقد على قاعدة الذهب تقع غالباً كلما وضعت الحروب أوزارها

فالفلاح إبان الحروب يشتري ما يلزمه من بذور وأسمدة وآلات ووقود بأسعار مرتفعة جداً هي وليدة التضخم النقدي وهو يدفع أجور الأيدي العاملة على هذا الأساس، وإذا اقترض أموالاً فإن فوائدها - على الأرجح - تكون مرتفعة تبعاً للحالة

فإذا دخلت الدول المتحاربة في السلم هبطت أسعار المحاصيل هبوطاً بالغ الشدة حتى لتعجز عن تعوض بعض مصاريف الإنتاج

فلو أن فلاحاً مصرياً اقترض مثلاً في سنة 1944 مبلغ 1200 جنيه لكفاه وقت الاقتراض للوفاء بهذا الدين 150 قنطاراً، ولكن هذا القدر من القطن لن يفي بالدين إذا جاءت السلم، بل قد لا يفي ضعفه؛ وهنالك يعمد الفلاح إلى إنقاص الأجور، ويعمل على خفض قيم الإيجار. يفعل ذلك ابتغاء تفادي الخسارة أو تخفيفها، ولكن عبثاً ما يحاول، إذ يتقرر عندئذ زيادة قيمة العملة إلى ما يوازي ضعف أو ثلاثة أمثال قيمتها في وقت الحرب فيتلاحق التدهور، ويقع الفلاح في أزمات عصبية تهدم كيانه المالي، ولا يجد سبيلاً إلى سداد ديونه التي تكون قيمتها الشرائية قد زادت كثيراً عما كانت عليه وقت الاستدانة هذه الحالة الخطيرة يجب أشد الوجوب اتقاؤها حتى لا ينخفض مستوى المعيشة بعد الحرب، وتقع في حالة الانكماش التي بسطنا آنفاً مظاهرها السيئة. والذي أعتقده أن لابد لذلك من وضع نظام تثبيت الأسعار للسلع الزراعية في الحرب والسلم على السواء بحيث تكون مجزية للفلاح، أي بحيث تكفل له الربح المعقول، على أن يقترن هذا النظام بحماية الإنتاج الأجنبي أسوة بما يصنع غيرنا من الدول من مثل إنجلترا التي ظلت تحمي صناعة سكر البنجر زمناً غير قصير حتى أمكن وقوف هذه الصناعة على قدميها بلا سند

وبالنسبة للقطن المصري بالذات أقترح أن تضمن الدولة لمنتجه سعراً يحقق له الربح المناسب. ولإمكان ذلك يجب العمل على زيادة الصناعات القطنية، وذلك بتشجيعها وحمايتها من الصناعات القطنية الأجنبية كما ذكرت، مع تخفيف الضرائب عنها تخفيفاً يطرد باطراد الزيادة في الإنتاج، أي مع مراعاة (القلة التصاعدية) في فرض الضرائب

وظاهر أن هذه الحماية ستكفل امتصاص مقدار وفير من قطننا في مصانعنا، ولذلك أثره الأدبي والاجتماعي الباهر في حياتنا. بيد أن الأخذ بهذه المقترحات لا بد له من رأس مال يكفي لتمويل ثلث المحصول على الأقل، فكيف السبيل إلى هذا المال وأبواب الصرف في ميزانيتنا تكاد تلتهم كل ما يجئ من أبواب الإيراد؟

أقترح أن ينشأ لهذا المشروع صندوق خاص يدعى صندوق القطن على نمط صندوق الفرنك الذي أنشئ في فرنسا عام 1928، وتؤدي إلى صندوق القطن هذا كل المبالغ التي تمت إلى هذه السلعة بأية صلة، مثل أموال التأمين الإجباري على القطن، وجملة الرسوم الجمركية على الأقطان المصدرة، وضريبة الأرباح الاستثنائية التي تحصل من المغازل المحلية ومن بيوت التصدير، وفروق أسعار الاستيلاء على البذرة. . . الخ.

وأرى أن تبادر وزارة المالية بإنشاء هذا الصندوق من الآن ورب معترض يقول إن تدبير المال اللازم للأخذ بهذه الفكرة ليس بالأمر الهين، فنجيب هؤلاء بأن لا ضير أبداً من توفية ما يستلزمه الصندوق من مبالغ مهما تكن الوسيلة. ذلك أن الأمر أمر المحصول الأول للبلاد الذي هو عماد الاقتصاد فيها والمال - على غير ما كان يظن الاقتصاديون القدامى - يجب أن يسخر لخدمة المصالح الاقتصادية وليس العكس. وما النقد - كما يعبر - إلا خادم للبشرية وليس سيدها ومما يفيد كثيراً في حماية الأسعار من الانخفاض اتباع نظام الإنتاج والبيع التعاونيين. وقد أخذت بهذا النظام فعلاً بعض الجمعيات التعاونية فجنت منه ثمرات طيبة

هذا التثبيت لأسعار القطن - لو تم - رواج الفلاحين، ومن ورائهم باقي الأمة، وعندئذ سيجد الفلاح السبل المادية والمعنوية لزيادة إنتاجه من القطن، والمضي في تحسين نوعه، حتى يفي بحاجات الصناعة القطنية الرفيعة ومن ثم تزداد قيمة المحصول فتزداد البلاد خيراً

(2) تصريف القطن

اقتراح قيام الحكومة بوضع نماذج للقطن المصري - فوائد

وضع هذه النماذج

تدع مصر منذ قديم مهمة تصدير القطن إلى بيوت التصدير التي تتولى الاتصال بالمغازل الأجنبية، وعرض نماذج الأقطان عليها. ولسنا نعدو الحق إذا قلنا إن المنتج المصري قد يغبن كثيراً بسبب الصلات المعنوية والمادية بين هذه البيوت وتلك المغازل، ولاعتبارات أخرى غير خافية

ورأيي أن تقوم الحكومة نفسها بوضع نماذج لكل نوع من أنواع القطن المصري وفق ما تستلزمه حاجات الصناعة، ملاحظةً في ذلك درس الخصائص الإقليمية للمناطق الزراعية المختلفة في مصر ودراسة خصائص قطن كل منطقة من الناحية الصناعية أيضاً، وسيعينها على الدراسة الأخيرة أن في بلادنا الآن مغازل يستطاع بوساطتها تعرف حاجات صناعة الغزل وإجراء مختلف التجارب

وسيفيد وضع هذه النماذج في تحديد القيمة الصناعية للقطن المصري بالضبط، وسيتيح للمنتجين أن يبيعوا أقطانهم بأسعار موحدة لا غبن فيها، وسيرد عليهم هم أنفسهم النفع الذي كان يجنيه الوسطاء، وسيرفع عن القطن المصري الآصار التي كان هؤلاء يضعونها عليه. وفوق هذا فسيجلو للمصانع حالة الأقطان المصرية ويسهل عليها الحصول على حاجاتها المنوعة من مختلف الأقطان، وسيكشف الغطاء عن أسرار طلبات المغازل، تلك الأسرار الخافية إلا على بيوت التصدير الأجنبية وأرى ألا تسمح الحكومة بإنتاج أصناف من القطن تخالف النماذج التي تضعها، أي أن تمنع إنتاج أي نوع لا يستوفي مطالب المغازل. وتحقيقاً لذلك لا بأس - إذا اقتضت الحال - من قصر الزراعة القطنية عندنا على بيئات معينة.

(البقية في العدد القادم)

زكريا حجاج