مجلة الرسالة/العدد 576/العلم والعلماء

مجلة الرسالة/العدد 576/العلم والعلماء

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 07 - 1944



في رعاية الإسلام والعربية

للدكتور عبد الوهاب عزام

وقد أنشئت في أرجاء البلاد الإسلامية دور أخرى للعلم عرفت باسم المدارس ومن أقدمها مدارس نيسابور: المدرسة البيهقية، ومدرسة الأمير نصر أخي السلطان محمود. ثم جاء الوزير نظام الملك وزير السلاجقة في القرن الخامس فأنشأ مدارس كثيرة في بغداد ونيسابور وهراة وأصفهان ومرو والبصرة والموصل. وقد فتحت نظامية بغداد للدرس سنة 459، وتولى التدريس بها على مر العصور جماعة من كبار العلماء منهم:

الغزالي، وابن عساكر، وأبو اسحق الشيرازي. وأقام بها الغزي الشاعر، وتولى الأبيوردي خزانة الكتب بها

ورتب نظام الملك في مدارسه أرزاقاً للعلماء وجرايات للطلاب ليفرغوا لطلب العلم. وقد روى أنه كان ينفق على مدارسه 600 ألف دينار في السنة

وقد روى الحاج خليفة أن بعض العلماء اغتموا لبناء هذه المدارس وخشوا أن تكون ذات أثر سيئ في العلم والعلماء قال:

(على أن من تعلم علماً للاحتراف لم يأت عالماً إنما جاء شبيهاً بالعلماء، ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به. لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم. وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخسّاء وأرباب الكسل فيكون سبباً لارتفاعه

قال جيبون: إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء شأن العلم والعلماء، والإنفاق على دور العلم , ومعاونة الفقراء على التعلم، فأولع الناس بالتعليم والتعلم ما بين سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة. وقد أنفق وزير واحد لأحد السلاطين (نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء المدرسة النظامية ببغداد وجعل نفقتها خمسة عشر ألف دينار في السنة.

وكان فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن العظيم وابن الفقير. إلا أن الغني ينفق من مال أبيه والفقير يأخذ من ريع المدرسة. وكان للمعلمين رواتب كبيرة

وكثرت المدارس على مر الزمان وتنافس فيها الأمراء والكبراء. قال ابن جيير في الكلام عن بغداد: (والمدارس بها نحو الثلاثين وهي كلها بالشرقية. وما منها مدرسة إلا يقصر القصر البديع عنها وأعظمها وأشهرها النظامية. ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محتبسة تصير إلى الفقهاء والمدرسين بها ويجرون بها على الطلبة ما يقوم بهم)

ولا ننسى المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العظيم المستنصر بالله العباسي (623 - 640) ولا تزال آثارها قائمة على شاطئ دجلة. وكان يدرس بها العلوم الدينية والتاريخ والطب والحساب والمساحة. وكان يتصل بها صيدلية ومستشفى. وقد بلغ عدد الفقهاء المدرسين بها ثلاثمائة تجري عليهم الأرزاق.

وكان لكل طالب جراية من الطعام وراتب من المال. وكان من مدرسيها أبو الفرج بن الجوزي وغيره من كبار العلماء

وكانت هناك دار للاجتماعات والحفلات الرسمية كما يكون في جامعات هذا العصر أحياناً. وكان من شروط الواقف فيها أن يكون لكل مدرس في كل يوم 20 رطلاً من الخبز و5 أرطال من اللحم بالخضر والحطب وفي كل شهر 12 ديناراً، ولكل مُعيد سبعة أرطال من الخبز وغرافان من الطعام وثلاثة دنانير في الشهر، ولخازن الكتب 10 أرطال خبزاً في اليوم وأربعة لحماً وعشرة دنانير في الشهر، وللمشرف على هذا الخازن خمسة خبزاً واثنان لحماً، وثلاثة دنانير في الشهر الخ. وكان من الشروط أيضاً أن يرتب فيها طبيب مسلم حاذق يعلم عشرة من الطلاب دائماً ويعطي المرضى الأدوية بغير ثمن

تنافس أمراء المسلمين وكبراؤهم في بناء المدارس ودعوة الطلاب والمدرسين إليها، وإجراء الأرزاق الكثيرة وتيسير طلب العلم لهم. وقد عد المقريزي مما أنشئ في القاهرة إلى عصره من المدارس الكبيرة زهاء ثمانين مدرسة أقدمها المدرسة الصلاحية التي بناها السلطان صلاح الدين بجانب مسجد الإمام الشافعي بالقرافة سنة 572؛ وجعل رئيسها الشيخ نجم الدين الجنوشاني. ومما يذكر مثالاً لأرزاق العلماء في تلك المدارس ما رواه السيوطي في حسن المحاضرة أن معلوم الشيخ نجم الدين كان أربعين ديناراً في الشهر وعشرة دنانير للنظر على أوقاف المدرسة. ورتب له كل يوم سبعين رطلاً مصرياً من الخبز وراويتين من ماء النيل

وبنى القاضي الفاضل المدرسة الفاضلية بجوار داره سنة 580 ووقف بها جملة عظيمة من الكتب قيل إنها كانت مائة ألف مجلد. ومدرسة الأمير جمال الدين بنيت سنة 810 ووقف فيها لكل طالب ثلاثة أرطال من الخبز و30 درهماً في الشهر ولكل مدرس ثلاثمائة درهم

وكذلك كانت حواضر البلاد الإسلامية العربية الأخرى غاصة بالمدارس. وقد عد المؤرخون في دمشق وحدها مائة وثلاثين مدرسة وفي بيت المقدس زهاء خمسين. وقيل إنه كان في قرطبة وحدها أيام الحكم المستنصر ثمانون مدرسة

كانت تدرس بهذه المدارس العلوم الدينية والعربية والعلوم الفلسفية والطب والرياضة. وكان بكل مدرسة خزانة كتب غالباً، كما كانت بعض الدور التي بنيت لتكون خزائن كتب مدارس أيضاً. وما كان أعظم جدوى خزائن الكتب في تيسير العلم والتقاء العلماء في العصور التي لم تكن فيها مطابع تيسر للناس الكتب بأثمان قليلة وزمن يسير. وكم يحدث التاريخ عن خزائن الكتب في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة

روى ياقوت أنه كان بكركر من نواحي القُفص ضيعة نفيسة وقصّر جليل لعلي بن يحيى المنجم - وكان من العلماء المقربين عند الخليفة المتوكل، ومن بعده إلى المعتمد، وتوفي سنة 275 ودفن بسر من رأى - وكان في القصر خزانة كتب عظيمة يسميها خزانة الحكمة يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون فيها صنوف العلم. والكتب مبذولة لهم في ذلك والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى. فقدم أبو معشر المنجم من خراسان يريد الحج وهو إذ ذاك لا يحسن كبير شئ في النجوم فوصفت له الخزانة فمضى ورآها فهاله أمرها، فأقام بها وتعلم فيها علم النجوم، وقد جمع على هذا للفتح بن خاقان وزير المتوكل من الكتب أكثر ما اشتملت عليه خزانة حكمة قط، كما يقول ياقوت

ويقول ياقوت كذلك في ترجمة جعفر بن محمد الموصلي المتوفى سنة 323: (وكان له ببلده دار علم قد جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب للعلم لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معدما أعطاه ورقَاً وورِقا. تفتح في كل يوم). ويقول ياقوت عن مدينة مرو: (فارقتها وبها عشر خزائن للوقف لم أر في الدنيا مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع: إحداهما يقال لها العزيزية بناها رجل يقال له عزيز الدين من خدام السلطان سنجر، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد أو ما يقاربها - إلى أن يقول عن إحدى هذه المكاتب: (وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثره بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار. وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته، فهو من تلك الخزائن)، فهذه خزائن في مدينة مرو مكنت ياقوتا من تأليف كتبه، وحسبك بمعجميه الجامعين: معجم البلدان ومعجم الأدباء

ويحدثنا التاريخ أن أبا تمام الشاعر كان ماراً بهمذان في بعض أسفاره؛ فنزل البرد وسدت الطريق فأقام عند بعض معارفه، فجمع ديوان الحماسة من خزانة له

فهذه خزائن العلماء والكبراء من أطراف البلاد الإسلامية، فما الظن بخزائن الخلفاء والملوك في المدن الكبرى؟ لقد كانت خزائن الكتب من سنن الحضارة الإسلامية والعربية، ولا تزال بيوت الخاصة في الأقطار العربية مشتملة على خزائن قيمة. ولا تزال بقية الخطوب من تلك الخزائن تحدث أخبارها. وقد أدركنا في خزائن استامبول مثلاً مما كان في العواصم الإسلامية الأخرى

وكان الناس إذ ذاك لا يجدون الورق ميسراً رخيصاً كما نجده في هذا العصر، وكان كل كتاب ينسخ ويصحح على حدة. فغلت أثمان الكتب، وكانت النسخة من الكتاب تصحح وحدها على مؤلفها أو عالم يوثق به؛ فكان لا بد من الجهد والدأب لضبط نسخ قليلة من كتاب واحد

ولم يكن الأمر كما نرى اليوم تصحح نسخة واحدة للمطبعة فتخرج على غرار آلاف النسخ مصححة رخيصة ميسرة للفقير والغني. ومع هذا نرى الكتب المطبوعة غير مسندة إلى نسخ يوثق بها ونجدها مملوءة بالتحريف والغلط، فأين الهمم من الهمم؟ ومع هذا نرى خزائن الكتب في عصرنا أقل منها في العصور الماضية، أيام لم يكن الورق رخيصاً والمطبعة تنشر آلاف النسخ من كتاب في زمن يسير لا يزيد على زمن كتابة نسخة واحدة منه. فلعل أهل العصر يكفون من غلوائهم، ويقلون من زهوهم وإعجابهم بأنفسهم والزراية على أسلافهم

هذا الإجلال للعلم، والجد في طلبه وتيسير السبل له وتنافس الناس فيه وحرص الكبراء على إنشاء المدارس وخزائن الكتب والإنفاق على دور العلم، كل هذا أشاع العلم في أرجاء البلاد، فشمل وعم، وكانت للمسلمين حضارة كاملة ومعارف شاملة، ومؤلفات سجلت كل ما أدركه العقل وعرفته الصناعة إلى تلك العصور. وكانت الجماعة تفي بحاجاتها من العلم وفاء طبيعياً فيكثر المحصلون في الفن على قدر حاجة الأمة إليهم أو على قدر الرغبة في المعرفة والكمال دون نظر إلى المناصب، فلم يعان الناس إذ ذاك ما يعاني أهل هذا العصر من كثرة المحصلين المبتغين الوظائف وقلة هذه الوظائف

ومن الأدلة على سعة المعارف الإسلامية وشمولها كتب التراجم. كتب المسلمون تراجم شتى بعضها عام كتاريخ ابن خلكان وذيوله وبعضها خاص بطبقة من الناس كتراجم الصحابة أو تراجم المفسرين والمحدثين والفقهاء والحفاظ والرواة والقراء والأدباء والشعراء والنحاة والنسابين والمعبّرين، والأولياء والصوفية وتراجم المتكلمين والفلاسفة والأطباء والمصورين الخ، وكثرت كذلك تواريخ المدن والأقطار ومن خرجت من العلماء كتاريخ بغداد ودمشق والقاهرة. وقد أثبت صاحب كشف الظنون نحو سبعين تاريخاً للمدن. وأكثر تاريخ المدن تاريخ العلماء من أبنائها، وحسبك تاريخ صقلية لابن القطاع الذي ترجم فيه لمائة وثلاثين شاعراً من جزيرة صقلية وحدها، وتاريخ الأندلس الأدبي لابن بسام الذي سماه (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة). وهو بحر زاخر بأخبار العلماء والأدباء

وحسبنا دلالة على سعة العلم ووفرة العلماء أن المقزي صاحب نفع الطيب ترجم للسان الدين بن الخطيب، ثم استطرد إلى ذكر شيوخه فملأ مجلدين كبيرين في أخبار الوزير وأساتذته.

وكذلك فعل في كتابه زهر الرياض في أخبار القاضي عياض.

ومطالع التاريخ يستطيع أن يأتي بالمثال بعد المثال، ويقيم الحجة إثر الحجة على ما كان لأسلافنا من سيرة مجيدة، وخطة رشيدة في طلب العلم ورعايته وإكرام العلماء وتشييد المدارس والخزائن، وهي سيرة لم يحدثنا التاريخ بمثلها في الحضارات الماضية، لقد فتحنا للناس أبواباً من النظر، وهديناهم سبلاً في المعرفة والنقد والتثبت. وأخذنا إلى ما عندنا تراث الماضين وأمانة القرون الأولى فما قصرنا في الاختراع والابتداع ولا فرطنا في حفظ الأمانة ورعايتها والمنصفون يعرفون حقنا وإن أنكره الناس فنحن أعرف بأنفسنا وأبصر بتاريخنا. وسنبني على مجدنا التليد مجداً طريفاً وملئ أنفسنا الإعجاب بتاريخنا والثقة بأنفسنا واليقين بمستقبلنا، والإيمان بالله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.

عبد الوهاب عزام