مجلة الرسالة/العدد 58/القصص
مجلة الرسالة/العدد 58/القصَص
من صور الريف - قصة واقعية
الشقراء المجنونة. . .!!
بقلم محمود البكري
. . . فتاة مثقفة على خلق عظيم، تناولت من التعليم حظاً غير قليل وفيها شيء من الجمال: عينان ساجيتان، شعر يشبه أن يكون خيوطاً من ذهب. . . ثم نفس شاعرة متمردة تحس الجمال وتتذوق الأدب. . كانت (فتحية) صورة نادرة في الفتيات: امتزج فيها سمو الروح بجمال الصورة، تعلمت في وقرأت جوت ولا مارتين ودوي موسيه. فظمئت روحها إلى حب عنيف، وعرفت (سامي) فوجدت عنده رياً لروحها الصادى، فأنست إليه وهام بها، وكان حب بينهما، حب جبار قوي كأنه الإعصار لا تسيره المنافع ولا تغيره المطامع ولا توهنه أحداث الحياة، وهو فوق هذا نبيل بصورة لا تقع في الوهم، طاهر بشكل لا يتعلق به ظن.
. . . وكانا يقضيان حياة فيها حظ من الشعر والخيال: يتقابلان في الحدائق فيجلسان على العشب الندي، ويخلوان إلى نفسيهما فيأخذان في فتون من الحديث والأدب، حتى يتقدم الليل فيفترقان إلى عود. . . وكانا يتفقان على الإعجاب بالأدب الفرنسي، وينفقان في القراءة وقتاً غير قليل، ويستطيل كل منهما على صاحبها أحياناً في رقة ورفق ودعابة.
ومضى على هذا الحب سنوات ثلاث. ثم أحيط أبوها بخبره، وكان صارماً قاسياً شديد القسوة، عنيداً مسرفاً في العناد، فاستعدي فتحية فجأة. .
. . . وكان يوم الوداع ثقيل الظل سريع الخطو. . . وجاء القطار! فجاشت الدموع في صدر فتحية، ولكنها تجلدت ونهنهت عينها، وأخذت نفسها بصمت عميق، وإن كانت روحها تكتم ثورة صاخبة تضطرم في عينيها الحالمتين في ذهول واستغراق. . وكانت تخرج منديلها الأزرق الصغير من حين إلى حين فتلقط به دمعة أو دمعتين. . ثم تحرك القطار وغاب في أحشاء الطريق. فاهتدت الدموع الضالة إلى عين فتحية وغلبتها على أمرها، فاستسلمت للغريزة، وأرسلت عينيها في حرارة وغزارة وذلة وصمت. . .!! وخطبها إلى أبيها رجل كبير من أعيان الريف أوتى بسطة من المال، إلا أن بضاعته من الثقافة والعلم مزجاة، وكان يكبرها بثلاثين سنة أو تزيد!. . . مانعت وتمردت. وثار بينها وبين أبيها نقاش قصير ولكنه حاد. أيهما أشد إسرافاً في الجريمة؟ أهو لأنه يريد أن يقضي على سعادة ابنته؟! أم هي لأنها تخالف أباها في أن تتزوج رجلا لا تفهمه، وليس بينهما صلة من عاطفة أو سن أو ثقافة، وكان جدال عنيف في شيء لا يحتمل الجدال ولا يستدعي الحجة. لأنه بين لا لبس فيه ولا غموض، ولأن حق حرية اختيار الزوج لا يسخط الله ويرضى الناس، يقره العل ولا يرى القانون بأساً في أن يسمح به، ولكن الحق مهما يكن، ينكره ويلتوي به المكابرون، والمكابرون لا حيلة فيهم ولا دواء لهم. والوالد يحتال حيناً ويتطلف، ويقسو حيناً آخر ويهدد، والفتاة على كل حال تتمرد وتثور. . .!
. . . وأخيراً استقرت ثورتها وانتهت إلى مثل ما تنتهي إليه ثورات النساء في منازلنا: استسلام مغلوب.
. . . وأخيراً!! تبددت في مهب الظلم آمال، وتحطمت على شعاب العناد أحلام، وضاعت في غمرة الطمع أماني. . .
. . . وأخيراً. . . زفت فتحية التي تعلمت في إلى الرجل الذي اختير لها وأكرهت عليه إكراهاً. . .
أغدق عليها مالا وحلياً وثياباً، فلم تبهرها هذه المظاهر، ولم تكسر من حدة نفارها ولم ترد جماحها. . . كانت تبكي في اتصال ومرارة.!
وكان حب سامي لما يزل يستبد بها فينسيها في النهار الراحة والقرار، وفي الليل المنام. . . كانت تغفو أحياناً قليلة، ثم تفيق صارخة مضطربة روعتها الأشباح، وطاردتها أرواح الذكريات في إلحاح وقسوة، فراحت حياتها خليطاً مشوشاً من الصور المرعبة، كانت تحبه حبا طاغيا عنيفاً جعل حياتها في البعد عنه سلسلة طويلة متصلة من الشقاء.
حاولت جهدها أن تنسى: فكانت تخرج إلى الحقول، وتقرأ كثيراً، ولكنها كانت تفر من عذاب إلى عذاب.
وكان زوجها سخيف العقل ضعيف الرأي ضيق النظر؛ وعنده أن المرأة لم تخلق إلا لتكون ماء أو شيئاً يشبه الماء يطفئ به الرجل جذوة الحيوانية. . . فأما أن تتعلم أو تقرأ أتكتب أو تحب، فكل ذلك حياد عن القصد وجور عن السبيل، وخروج عن العرف، وانتقاض على التقاليد.
كانت الهوة بينه وبين فتحية عميقة سحيقة لا حد لها ولا غاية ولا قرار: انصرفت هي إلى حبها وذكرياتها وكتبها فاستغرقتها واستأثرت بها، فلم تجعل لشيء آخر في قلبا مستقراً ولا مقاماً.
وتولى هو إلى مزارعه وماله عن كل شيء عداها، وكان حقير النفس فقير العاطفة مجدب الشعور، لا يضطرب في نفسه إحساس ولا تعرف العواطف إلى قلبه سبيلا: كل أيامه بعد أعماله أكل ونوم. . . يمر النهار فلا يكاد يتحدث إلى زوجه بأكثر من كلمات آلية معدودة، وإن تحدث ففي شئون مزارعه وماشيته حديثاً تافهاً ضئيلا لا يدل على معنى، وإن كان يدفع السأم ويرد إلى الضجر القاتل.
ضاقت فتحية بهذه الصور المتشابهة من العيش، وأسقمها هذا اللون من الحياة المضطردة الباردة، فاندفع السأم واليأس إلى نفسها اندفاعا قويا.
وضاعت في تيه الذكريات والظلم هذه المخلوقة الشقية التي تستقبل الصباح بالدموع وتودع النهار بالدموع. . . فزعت إلى الكتب تقرؤها إذا كان وجه النهار إلى الضحى، فإذا أقبل العصر خرجت إلى الحقول مطرقة ذليلة لا تحدث إنساناً ولا تستمع إلى إنسان فتقضي وقتاً ما، ثم تأخذ طريقها الصامت إلى المنزل فتخلوا إلى نفسها في غرفتها، ثم تخرج صور سامي فتتحدث إليها وتسكب أمامها الدمع كأنها عابد في المحراب. . .!
. . . وظهر زوجها على صور سامي ورسائله، فثارت نفسه وارتد وحشاً ضاريا عاتياً ديس عرينه وأبيح حرمه واستحل حماه، وبدت في خلقه صورة جديدة، الغيرة الصارخة العنيفة. فمسخت تصرفاته كلها وصبغت حياته بلون قاتم ظالم مستبد.
العرض والشرف في الريف شيئان يهون معهما كل شيء. . .! ومضى الوحش يفكر في انتقام هائل مروع بعيد الأثر: فكر في قتلها وفي طلاقها: ولكن هذه الصور لم ترض شعوره المحنق، ولم ترو نفسه الصادية إلى الدم، لأن في كل هذا موتاً سريعاً مريحاً، ولكنه يريدها أن تموت على مهل في نزع طويل بطيء واستقرت نفسه الحائرة أخيراً على تجربة بدأها حالاً، فعمد إلى كتبها وأوراقها فجعلها وقوداً للنار، ثم أخذها هي بالقسوة وسوء الحساب: يضربها إذا كان النهار، ويهجرها إذا كان الليل، وهو فوق هذا يكلفها من أعمال المنزل مالا طاقة لها به. . .
ومضى السجان الجبار في تجربته والضحية البريئة تذبل على مهل. تمادت بها الآلام فأغرت بها اليأس، وردها اليأس إلى لون من الحسرة ملح، عميق يسوقها إلى الجنون سوقا متداركا سريعاً.!
وكل هذا قصته على أختي عن صديقتها زوج جارنا الغني.
ولأيام خلت كنت أجلس في حديقتي في ظل شجرة هرمة إلى جانب الساقية التي تنوح أبداً. . . سمعت صرخات متصلة ومتقطعة، وكلها ثائرة ومجنونة، وسمعت كلمات مبهمة مختلطة. . . صمتّ وصمتت الساقية وحسبت دموعها، ومالت الغصون على الغدير هامسة (إذن أفلحت التجربة وجنت الشقراء!!) واستأنفت الساقية نواحها. . . وأرسلت دموعها. . . على الشقراء المجنونة. . .!!
(قلوصنا)
محمود البكري القلوصناوي