مجلة الرسالة/العدد 586/القرآن في الإذاعة العالمية

مجلة الرسالة/العدد 586/القرآن في الإذاعة العالمية

مجلة الرسالة - العدد 586
القرآن في الإذاعة العالمية
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1944



اقتراح عملي جديد

للأستاذ حامد مصطفى

في هذا الميدان العظيم من دعاية صاخبة بين الأمم والجماعات، دعاية تثور وتصخب وتقوى وتشتد حتى تشمل العالم جميعه، وتأخذ بمجامع القلوب، وتفتن الألباب - في هذا العالم المائج المضطرب بالفتنة والحروب. يقف الشرق الإسلامي هادئا متثاقلا كأنه حاشية من جرم المريخ لا وسط من هذه الأرض. هدوء غريب كأنه مركز الإعصار الفارغ من حوله الحركة والهياج والدوران. إن العالم اليوم يقف على منقطع من جادة الحياة، ولابد لكل أمة أن تسير فتجتاز هذا المنقطع، وإن لم تفعل أنت بها الطريق وتعرضت للفناء. وفي هذه الفترة القصيرة من تاريخ البشرية لا تكاد تجد أمة لم تأخذ من الحياة الجديدة بنصيب، أو لم تنتفع من هذه الظروف القائمة الانتفاع الذي لم تحلم بمثله من قبل. والدعاية التي خلقتها عوامل الحرب الناشبة من أهم ما أفاد الأمم وأتاح لها التعريف بنفسها، والتقدم بما تملك من مواهب وثروة، وما تعاني من متاعب ومصاعب، وسوف لا تنتهي هذه الحرب حتى تهتدي كل أمة إلى مكانتها من العالم وقيمتها في الوجود، وتجد أحسن الحلول لمشكلاتها في السياسة والاجتماع والاقتصاد

إننا نريد من هذا الخلوص إلى موضوع جدير بالعناية والبحث، له من العناصر والظروف الحاضرة ما يوجب الالتفات إليه والاهتمام له. أعني بذلك القرآن من حيث هو كتاب عالمي يكون أساساً للدعاية إلى مبادئ الإسلام، وعرضه على العالم عرضاً يوائم أساليب العصر الحديث. فالإسلام بوصفه ديناً عالمياً، له من قواعده وأخلاقه ما يجعله سهل الفهم والقبول بين الجماعات البشرية في كل زمان ومكان. وذلك ما يسهل إعلانه والدعوة إليه. إن أحوال العصر الحاضرة تتطلب مجاراة العالم والدخول معه لا في ميدان الحرب، ولكن في ميدان السياسة والاجتماع. وإذ كان العالم اليوم يبحث عن أجدى الحلول لمعضلة الإنسانية الحاضرة. فإن الإسلام ليجد من نفسه الكفاية لعرض أنفس المبادئ التي يعتقد أن فيها ما يساعد على شرح الأزمات الإنسانية وعلاجها علاجاً يضمن لها السلامة والشفاء. ولقد جرب العالم نظريات شتى بعضها خاب وبعضها نجح نجاحاً ضعيفاً، ولكن الإس يبقى نظرية اجتماعية ثابتة، عرفتها الإنسانية قروناً، وعمل بها البشر أحقاباً طوالاً حتى ثبتت عقيدة وعملاً ومنهاجاً في الحياة، وظهر صلاحها ومواتاتها لحاجات الناس في معاشهم ومعادهم. وحري بالعالم اليوم أن يتعرف بالإسلام، ينشد منه خططاً جديدة إلى جانب ما ينشد من خطط ونظريات. وحري بالمسلمين أن يكونوا هم العاملين على تحقيق هذا القصد. وأن يسلكوا إليه هذه السبيل الممهدة التي عبدتها الحرب القائمة فجعلت منها ميداناً لكل غرض نبيل ورأي جليل. أعني بذلك الإذاعة العالمية التي تتمتع منها العربية والمسلمون بحظ لا يقل شأناً عن حظوظ كثير من الأمم الأخرى

إن على المسلمين اليوم أن يتقدموا إلى الإنسانية بمبادئ الإسلام وعقيدته، وما فيه من قواعد اجتماعية تكفل سلامة الأمم وضمان الحقوق وهناءة المعاش. فالعالم اليوم أحوج ما يكون إلى بسط نظرية الإسلام في تنظيم الكون. وكل تقصير في هذا يقع على عاتق المسلمين، ويعذر من نتائجه سائر الناس. وفي العالم اليوم من يتحرى الوسائل الشافية والعلاجات الناجعة من أي مصدر أتت، ومن أي الوسائل وردت، لا يتعصب لرأي دون رأي، ولا لنظرية دون أخرى. إذ ليس المقام تبشير بدين وإنما هو تعريف لعلاج مجرب، وقواعد مطبقة تعرض كما يعرض سائر النظريات والآراء على ألسنة الخطباء، وأقلام الكتاب في المؤتمرات وفي الصحافة وفي التأليف

والوسيلة الجامعة للتعريف بمبادئ الإسلام، القرآن نفسه، يعرض بأوسع اللغات الحاضرة، أسيرها ذكراً وأعلاها مقاماً. ولا تنافس الإنكليزية في هذا الميدان لغة ثانية. ولا نعني بعرض القرآن باللغة الإنكليزية ترجمته بها الترجمة الحرفية، إذ أن هذه معضلة يظهر أنها لم تذلل بعد. وهي إلى جانب ذلك لا دخل لها في بحثنا هذا. إننا نعني أن يؤدي القرآن بمعناه أداءً مطابقاً بحيث يفهم منه باللغة الأجنبية ما يفهم منه بنصه العربي. وذلك يقتضي اجتماع لجنة من علماء أكفاء ومترجمين مسلمين حاذقين. يجتمعون على معنى القرآن آية بعد آية، وكلما أتموا يسيراً منه فاقروه واتفقوا عليه وجه به إلى الإذاعات التي تذيع القرآن اليوم من غير انتظار إلى الفراغ من الشروع كله. حتى إذا ما تم العمل سهلاً مألوفاً بما قرئ وسمع وتردد بين الناس، وكان له انطباع عام في أذهان العالم يساعد على بسط عناصره وشرح مجمله، فتتولد بذلك النظرية التي يريد الإسلام عرضها على الناس.

ومصر وحدها هي الجديرة بهذا العمل الجليل وإليها نتقدم به. من هذه الطريقة يتعرف العالم بالإسلام، ويجد فيه من دون ما عنت، ولا إرهاق الوجوه التي قد تعجبه في علاج الأزمات. والعالم اليوم لا يجد حرجاً في السماع لكل قول والتعرض لكل رأي، يقرأ ذلك في الكتب أو ينصت له في الإذاعات أو يعرض على أنظاره في المشاهد

إن العالم اليوم ليعرف القرآن من طريق الإذاعة، ولكنه لا ينجذب إليه ولا يأبه به، لأنه إنما يطرق الأسماع بنصه العربي. وليست العربية لغة شائعة ولا هي ضرورة من ضرورات الثقافة العالمية. وكل ما يراد من إذاعة القرآن اليوم إنما هو غرض دعاويَّ بحت يقصد منه التحبب إلى المسلمين واجتذابهم بالنغمة الناعمة الساحرة. والعالم الإسلامي لا يجتني أية فائدة من هذه الطريقة التي يذاع بها القرآن، كلا ولا العالم يستفيد شيئاً من القرآن بهذه الإذاعة. وإذا نحن استمررنا على الرضاء بهذه الحصة الفارغة من الإذاعة العالمية فستنقضي الحرب، وتستغني الإذاعات الأجنبية عن القرآن. وبذلك تضيع أمكن فرصة اغتنمتها البشرية لاجتناء أكبر الفوائد وأحسن النتائج، ونضيع على العالم غروضاً قد يستفيد منها ما يؤدي إلى أفضل مما يصل إليه وهو على جهل بهذه العروض

إن في الإسلام يقيناً لعلاجاً لأزمات الإنسانية الحائرة، وإن فيه لأسساً قويمة في الحياة؛ في الدولة والتشريع. وفي الاجتماع والمعاش، وإن فيه لصلة روحية تسمو بالإنسان عن طغيان الشهوات والميول الفاسدة، وتفترض بين الأفراد وحدة عالمية لا غنى عنها لبعض دون بعض، وفي القرآن الشيء الكثير مما يهتدي الباحث المجد. فلنتقدم بالإسلام بين هذه الفروض والأسس التي تقترح لإعادة بناء العالم، والإذاعة العالمية زعيم بإبلاغ القرآن إلى كل قلب بعد أن شغلت به كل أذن. والى مصر نتوجه بهذا الرأي.

(بغداد)

حامد مصطفى

مدرس بكلية الحقوق