مجلة الرسالة/العدد 586/ذكرى عيد

مجلة الرسالة/العدد 586/ذكرى عيد

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1944



للأستاذ منصور جاب الله

تجرّمت سنون وسنون عهدت فيها قومي إذا ما أظلهم العيد، فزعوا إلى قبور تملأ الرحب، ويتيه دون حصرها البصر، فطووا هنالك الساعات الطوال يبكون آباءهم وآباء آبائهم، فإذا جنهم الليل ثووا إلى دارهم، وكأنما العيد في أنفسهم أشجان وأوصاب وآلام.

وإذ أنا طفيل لا أميز درجت على محاكاة هذه العادة، حتى أمسيت معيدا لها وتعلقت مني بالطبع، فما دلف عيد إلا وجدتني أهرع إلى المقابر أخط بين شعابها، وما أحسب أن هذه الأجداث كان لها يومئذ وحي في قلبي أو صدى في نفسي

لقد كانت النفس كابية بليدة، والطفل مادي بطبيعته لا يأخذه إلا ما تعلق بالحس ورمز إلى الفم، وكان من لطف الله بي أن جعل طفولتي ماتعة يانعة، وكفل لي في ريق الصبا الهناءة والمسرة، ومن لطفه أن خلى لي والدي وأخوتي، فلم أفجع في أصل من أصولي، ولم أرزأ في فرد من حاشيتي إلا من توفى في المهد، وسمك ستار النسيان بيني وبينه، وتراخى دون ذلك حبل الزمان

وإذ تتصل النفس بهذا، ويمد لها في أسباب المرح، وأغدو في صحبة من لذاتي متهللين مفاريح، لا يكون علي من حرج إذا زعمت أني كنت أرى قبور السابقين من أهلي وعشيرتي بعين لا ترى في الحياة إلا كل سار بهيج، وأنها كانت مني بمنزلة الأرجوحة ومقام الألعوبة، ألهو بألوانها وتزويقاتها كما ألهو بأحماض الحياة الأخرى

ولا احسبني بكيت مرة ولا اعتبرت ولا استعبرت إذ أطالع رقيم قبر تدلى صاحبه إليه لعهد قريب

لقد رأيتني من الموت بمنجاة، فما فكرت فيه، ولا استكنهته، ولا عرفت شيئا عن برزخ الموتى، ولو أني جواب في مدينة الأموات!

بيد أن شيطاني لقد ذهب في غلوائه بعيدا، فحدثني بالخلود حين أجول في مدينة الأموات أرقب صخور مقابرهم تنهشها يد الزمان، وتأتي على حجارتها وطلائها عاديات البلى، فتهدها هداً وتمهدها أجداثاً لقوم آخرين

لكنما كان يتغشاني في بعض الحين خشوع لا يستعلن لي كنهه ولا يستبين أمره، فأوقن ف نفسي بأني لا محالة مائت فمنتقل إلى غير هذه الدار، وأني ملاق حسابيه، ولا يتداخلني الشك في ثواء الجنة!

ولعل مرجع هذا إلى العقيدة، وإلى الأوالي من التلقينات الدينية، ورد كل منزع في نفس الإنسان إلى أصله ليس في العلم بكثير

وأيفعت وطر شاربي، وعراني ما يعرو الشباب عادة من اجتراء العقل ومحاولته بسط نفوذه على سائر مشاعر الإنسان ما تعلق منها بالحس، وما تعلق بالروح والمعنى، فأقلعت عن زيارة المقابر في يوم العيد، وعدلت بهذا الدافع عن جهته، وصرفته إلى ما حسبت إنه خير من مشاهدة قبور الموتى المكتئبة الباهتة، ولم تكن في ديدني لتعدو صورة من صور الحياة تغاير ما يقع عليه الحس من ألوان الصور. غير أن الكآبة رانت على قلبي فرأيتني أنزع إلى الاعتكاف في الدار طوال أيام العيد، وكأنما كنت أستحس في ذلك معنى العيد!

وطال عهد الهجر بيني وبين مدينة الأموات وأهلها الثاوين

ثم اكتاد لي الدهر مصطنعاً مع القدر مؤامرته، فأوقع بي الضربة على غرة مني، وتسلل الموت إلى أبي في موهن الليل إذ الناس رقود كأنه خشي أن يختلسه مني على أعين من الناس!

عرفت إذ ذاك معنى الموت، وفهمت إنه لحياة بداية، ولحياة نهاية، وأدركت إنه لابد مخترمي على وجه الأيام، وإن وصلت بالعمر أحقاب وأجيال وأعوام، وما اخضل عود إلا ليختضر، وما طال عمر إلا ليقتصر!

كذلك قضى الله بقضائه الحق، وخرجت يوم العيد أسعى أول ما أسعى إلى جدث والدي أترحم عليه وأقرؤه السلام، وإذ أقف منه على مقربة إذا بالدمع ينبجس ويطفر، وإذا بالصدر يشهق ويزفر، وهذه الأحشاء تغلي وتفور، وهذه الأرض ترتج بين يدي وتمور، والفؤاد مني يتواثب ويصطرع، والكبد تكاد تنشعب وتنصدع. ويا له من يوم عصيب!

ما أقسى العيد على القلب الوجيع!

يا لله لقد تغير المعنى الذي كنت أحس يوم كنت أرى المقابر إلى معنى آخر لا يتعلق به الوصف حين شهدت مقبرة أبي! وفقهت مغزى غير ما عرفت من حكمة زيارة القبور، إنها تعني رسالة الموت إلى الحياة، أو خطبة الأموات في الأحياء واستمداد معنى الحياة من الفناء

وعظتني يا أبي حياً وميتاً، ولقد والله كنت في موتك أبلغ مقالة من منطق الحياة والأحياء، ومن يأس الموت بعثت في قلبي حي الرجاء، فهمت منك في موتك ما كنت أسمعه منك في حياتك، واستوحيت من صمتك ما كنت أعرفه في كلامك، وفقهت من همودك ما ألهمتني حركتك.

كنت في الممات بليغاً مبيناً أن كاد ليقذف في روعي أني أسمع مقال خطيب، أو قصيد شاعر طويل النفس قوي الجنان

وكنت أعيب على من يبني القبور، هذه النصب يقيمونها كالأوثان، فترد الذهن إلى ما كان الأقدمون يسوون لعبادة غير الله، حتى إذا مات أبي رأيت غير ما كنت أرى بعين القلب والعاطفة، لا بعين العقل والتفكير

أقاموا له بين الأجداث قبراً فكأنما هو تذكار لقلبي وأثر لوجداني، وإذا أنا أحس لهذا الحجر القائم حقيقة تقول إنه قائم في قلبي تضمه أضالعي، وكأنه موسيقى الوجدان، أو سطر الحياة في لوحة الزمان.

لقد صار لي بين المقابر بنية، وفي أرض الأجداث سهم، وثوى أبي إلى ربه راضياً، فهو في الأموات ميت، ولكنه في نفسي حي تزجي إليه تحيتي في يوم العيد

(الرمل)

منصور جاب الله