مجلة الرسالة/العدد 591/العنصر الإنساني

مجلة الرسالة/العدد 591/العنصر الإنساني

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 10 - 1944



في كتاب (النماذج البشرية)

للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

أصدر الدكتور محمد مندور كتباً ثلاثة أضافها في الأسبوع

الماضي إلى المكتبة العربية هي (نماذج بشرية) و (في

الميزان الجديد) و (من الحكيم القديم إلى المواطن الحديث)

الأول والثاني من تأليفه، والثالث ترجمة عن الفرنسية

لمجموعة من الدراسات في الثقافة الخلقية، كتبها نفر من كبار

أساتذة فرنسا المعاصرين

وليست (النماذج بشرية) بالكتاب الغريب عن القراء فقد طالعنا بعضه مقالات في المجلات الأدبية، ظل ينشرها المؤلف تباعاً منذ عاد من أوروبا، قبل الحرب الحالية بقليل، حتى اليوم. وقد جمعها المؤلف في كتاب واحد بعد أن أعاد فيها النظر فأصلح منها، ورجع عن الكثير من آرائه وأحكامه، وفقاً لتطوره الروحي. وأضاف إليها نماذج جديدة؛ وفضلا عن ذلك فقد صدر للكتاب بمقدمة طويلة كتبتها زوجته السيدة ملك عبد العزيز خريجة كلية الآداب، وقد احتوت تلك المقدمة على دراسة عميقة لما جاء في الكتاب؛ وبما لها من نفاذ الأدبية الشاعرة، ويحكم كونها أقرب الناس إليه عرضت لشخصية المؤلف بالتحليل فكشفت لنا الستار عما يخفى علينا من خصائص نفسه الغنية الزاخرة بمختلف المشاعر الحادة والمعاني المتألقة

وبعد فما موضوع هذا الكتاب؟ أو ما هي هذه النماذج البشرية التي عرضها علينا المؤلف؟ نفر قليل من العباقرة الخلاقين أمثال: (جيته) و (دستويفسكي) و (موليير) و (هوميروس) الخ. . . هم وحدهم الذين استطاعوا بطول ما تدبروا الوجود والنفس الإنسانية؛ النفاذ إلى جوهر الحياة الإنسانية، فكشفوا الستار عن أسرار البشر وطبائعهم الأصيلة، وأودعوا أبط قصصهم هذه الأسرار وحملوهم هذه الطبائع فجاءت (نماذج بشرية) بحق كما سماها المؤلف لأنها تمثل آلافاً من البشر الذين يعيشون بيننا ويضطربون في مناكب الحياة؛ ولأنها تساهم في تجسيم المشاكل الإنسانية، تلك التي نشترك فيها جميعاً أياً كان زماننا وأياً كان مكاننا، كمشكلة السعي الأبدي لبلوغ الحق والخير والجمال، كما تصورها مأساة (فوست)، وكالصراع الدائم بين قوى الفرد وصخرة المجتمع العاتية التي لا ترحم، كما تبرزها قصة (جوليان سوريل) أو قصة الحلاق الفيلسوف (فيجارو)، وكالحب ذلك القبس القدسي الذي أودعه الله قلوب البشر والذي لم تخمد جذوته ما بقي قلب ينبض في هذه الحياة، ذلك الحب الأبدي الذي خلد حياة (دانتي) الشاعر الإيطالي بقصته مع (بيتريس) في (العهد الجديد)

فكتاب النماذج إذن وحدة متسقة لأن كل نموذج إنما هو محاولة لبلوغ العناصر الخفية في نفوسنا الإنسانية. ولهذا كانت حياة النماذج حياتنا لأنها تجاوب ما فينا من عنصر إنساني، وتعبر عما يكتنف نفوسنا من مشاعر وأهواء

وقد أدرك الدكتور مندور هذه الحقيقة الواضحة التي يرجع إليها الفضل في خلود نماذجنا على صفحات الزمن، فبعث هذه الشخصيات الروائية خلقاً جديداً مليئاً بالحياة، زاخراً بمائها. وكأن المؤلف إذ يحدثك عن نماذجه ويورد أخبارها إنما يحدثك عن شخصيات رآها، أو حيوات عاشها؛ وذلك، بما له من قدرة على بعث نماذجه من مرقدها وإكسابها واقعية حية، وتهيئة الأجواء التي عاشت فيها، واستحضار الملابسات التي اكتنفت حياتها

وقد ساعده على هذا دراسة طويلة للأدب الغربية، دراسة تستطيع أن تقف على مدى عمقها أن أنت قرأت ما كتبه عن (أوليس)، تلك الشخصية التي خلدت في الأدب اليوناني، وذلك البطل الذي تردد ذكره في الأوديسا والإلياذة، ملحمتي (هوميروس) ثم بعد ذلك بقرون في (فيلوكتيت) مسرحية (سوفوكليس) الشاعر اليوناني العظيم الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. وهل كان الكاتب يستطيع أن يلم بمعالم هذه الشخصية وتطورها إلا خلال دراسة ممحصة لهذه المسرحيات الثلاث؟ بل ولحياة اليونان بأسرها: تاريخها وفلسفتها، وفنها وأخلاقها؟ وإن القارئ ليلمس آثار هذا الجهد حين يقرأ المؤلف عن (أوليس) وكيف أودع هذا النموذج تطور اليونان الروحي من خشونة البداوة الأولى بما فيها من مظاهر الشجاعة والإقدام إلى طور الحكمة وما يسوده من مكر ودهاء؛ ثم إلى طور الانحلال الخلقي الذي يجعله المؤلف رهينا بظهور الفلسفة وما يتبعها من سفسطة وتمرد للفكر. ويقول المؤلف في ذلك (ص114):

(لا. إن أوليس لم يعد (في الأوديسا) من الصلابة بحيث كان، وقد أخذ التفكير يتغلب في نفسه على خشونة البداوة. أخذ الدهاء يسيطر على الشجاعة، أخذت الرقة تنفذ إلى صلابة قلبه. أخذ يتحضر، وهذا أمر لا عيب فيه، ولكن طريق الحضارة طريق زلق سوف تراه في الحديث آلاتي (فيلوكتيت) ينتهي برجلنا كما انتهى بالشعب اليوناني كله إلى بوادر انحلال خلقي، ستكون إحدى مظاهره ذلك الخبث القبيح الذي يصد عنه أوليس (فيلوكتيت) مسرحية سوفوكليس الروائي العظيم). ثم يقول عن أوليس في فيلوكتيت (ص114):

(تركنا أوليس وقد أصبح في الأوديسا أقدر على الدهاء مما عهدناه من قبل. وهانحن نلقاه اليوم في (فيلوكتيت) مسرحية (سوفوكليس) الشاعر العظيم فإذا بنا في القرن الخامس قبل الميلاد وإذا بنا في أثينا حيث ظهر الفلاسفة، وكثر الخطباء، وتعدد السوفسطائيون؛ فأخذت بوادر الانحلال تدب في الأخلاق. وتلك ظاهرة لها أشباهها في تاريخ كل الشعوب، فالتفكير ملكة خبيثة كثيراً ما تنتهي بالإنسان إلى تبرير كل الوسائل والتماس كافة السبل لما تسعى إليه من أهداف، فيسكت صوت الضمير، وتختفي من النفس معاني النبل التي تتوافر عادة في البداوة)

وهو يأبى أن يدع (أوليس) بعد هذه المسرحيات اليونانية الثلاث فتلمسه في الآداب الحديثة أيام نهضت أوربا من رقادها في عصر النهضة، تفتش عن تراث اليونان الخالد فتبعثه من جديد. وكان (أوليس) - وقد اجتمعت فيه عوامل الخلود - ممن استوقف الناظرين فظهر في كثير من آداب عصر البعث العلمي. فتتبعه مؤلفنا عند (دانتي) الإيطالي وعند الشاعر الفرنسي (دي بالي وأخيرا ينتهي بنا عند أوليس الكاتب الإنكليزي المعاصر (جميس جويس)

هذا هو الجهد الذي كان على المؤلف أن يحتمله كي يخرج لنا أوليس نموذجاً بشرياً في صفحات قلائل، يقرؤها آلاف البشر في يسر دون أن ينعموا النظر فيما تخفي هذه السطور من دراسة دقيقة متصلة (أوليس) إذن عصارة مركزة لتلك الآداب اليونانية التي تشربها المؤلف، وأحسب أنه لو لم يشربها لما استمتعنا بقراءة (أوليس). فنحن إذ نقرأ أوليس نحس لذة لا تزول لأن من صور حياتها عاش أعواما في ظل (هوميروس) يحسو أعذب الرحيق من ملحمتيه، وماشى تطور اليونان حتى عصر (سوفوكليس). ولأنه زار تلك المواطن التي أوردها هوميروس في ملحمتيه: شاهد بحار اليونان التي خرج فيها (أوليس) على رأس جنده، وتطلع إلى قمة (الأولمب) مقر الآلهة، وشاهد تلك المخلفات الرهيبة الساحرة، التي لا تزال تفوح منها حتى اليوم رائحة هذه المعارك الدامية بين أثينا وإسبرطة، وتنبعث منها صور الماضي السحيق وأطياف أبطال اليونان وشعرائهم وفلاسفتهم

وهكذا فالمؤلف إذ يحدثنا عن (جفروش) أو (العبيط) أو (إبراهيم الكاتب) لا يحدثنا عن شخصيات قرأ عنها في بطون الكتب بل جاء حديثه نتاج تمثله لهذه النماذج وتشربه روح خالقها. فحديثه إنما هو بعض نفسه، ومن أجل هذا استطاع أن ينقل إلى قرائه في يسر، ما أحس من مشاعر، وأن يضمن في نفوسهم ما أحدثته هذه النماذج في نفسه من أثر عميق لا يمحى

كل ذلك في أسلوب لا أجد في التعبير عن موسيقاه أحلى من قول السيدة ملك في مقدمة الكتاب: (إنها ليست موسيقى رقص محدودة متقابلة، ولكنها فيض نفس، نفس حارة غنية، موسيقى سيالة تعلو وتهبط، وتتكسر وتتراخى وتتدافع حسب نبضات الإحساس أو وثبات الفكر).

وبعد: فهذا أيها القارئ كتاب النماذج من حيث هو كتاب أدب. ولكن هل هو كتاب أدب فحسب؟ أو أراد به مؤلفه أن يكون صياغة جديدة لبعض القصص العالمي، وعرضاً تحليلياً لأبطال هذا القصص؟ اللهم إن كان هذا لجاء الكتاب دراسة فحسب ولما كان فيه خلق أو طرافة. ولكن ما يعطى الكتاب قيمته التي سيخلد بها هو انطواؤه على تيارات خفية؛ من اليسير على القارئ اللبيب تأن يدركها، تيارات نفسية هي مزيج من السخط على ما في المجتمع من شرور، وتطلع قلق لتحطيم ما فيه من أصنام، وتدمير ما يحوي من نظم عقيمة بالية. هذه التيارات اعتملت في نفس المؤلف وأقلقت روحه مذ كان شاباً غض الشباب، فلم يجد سبيلاً للإفصاح عن هذه الثورة الكامنة والتعبير عن أفكاره، ومثله السياسية والاجتماعية، إلا أن تكون هذه النماذج البشرية، هذه المخلوقات الإنسانية التي تبناها لتصور بعض جوانب نفسه وتنقل رسالته الاجتماعية إلى الجيل الجديد.

عبد المنعم عبد العزيز المليجي

ليسانس في الفلسفة