مجلة الرسالة/العدد 594/وحدة الوجود
مجلة الرسالة/العدد 594/وحدة الوجود
للبروفيسور ج. ا. بودن
بقلم الأستاذ عثمان حلمي
لكي تقترب من قضية العلم الحديثة الخاصة بنظام الكون يجدر بنا أن نرجع إلى أولئك المخترعين العظام الذين ألموا بعلم الميكانيكا أمثال جاليلو وديسكارت ونيوتن، وعلى الأخص (نيوتن) أعظمهم جميعاً.
هؤلاء المفكرون لم يكونوا ضيقي الأفق في تفكيرهم، ولا كانوا محدودي التفكير (كأولئك الذين لم يخرجوا عن دائرتهم المحدودة، فلم يصلوا بسبب بين فلسفتهم وعلمهم وبين دينهم) ذلك أنهم واجهوا هذه المسالة كاملة واشتغلوا (بالتدين الطبيعي) فكانوا بذلك رجالاً كاملين في تفكيرهم، بينما كان أتباعهم أنصافاً. فلو أنهم لزمهم ذكر الخالق ومواجهة حقيقته، لفهم الطبيعة وإدراك أسرارها، فانهم لا يحجمون عن ذكره في علومهم.
لقد قيل: إن بحث نيوتن فيما وراء الطبيعة كان غير ناضج ومبايناً لما هو معهود في طبيعة علمه. والحقيقة أن نيوتن لم يكن فيلسوفاً - بمعنى الكلمة - ولكن تقاليد الفلسفة الأفلاطونية للعصور الوسطى التي جاراها في كامبردج في أيامه، هي قريبة للعبقرية العلمية أكثر منها للفلسفة السفسطائية التي تلت نيوتن.
لقد كان في وسع هذه التقاليد أن تعترف بميلاد العلم الحديث والإدراك الميكانيكي والرياضي الذي ساق أمامه آياته القابلة للتصديق مع علاقته بهذه التقاليد.
إن الدنيا في نظر نيوتن غير مفهومة المغزى بغير وجود (الله)، وعلى ذلك، فانه لا يحجم عن ذكر الله في طبيعياته وفلكه، وهو يوضح لنا فكرته في الله من الصفات التي يصفه بها: كالأبدية، والأزلية، والقدرة على كل شيء، والعلم بكل شيء. . . وهي صفات مستعارة من علم اللاهوت في العصور الوسطى، غير أن القدرة على كل شيء من وجهة نظر نيوتن لها معناها الطبيعي المادي، كما لها معناها الروحي.
(هو قادر على كل شيء، ليس نظريا فقط، ولكن مادياً أيضاً، لأن الفاعلية لا تعيش في رأيه ولا تستمر بغير المادية، فمنه - كما يقول نيوتن - تتكون كل الأشياء وتتحرك، ومع ذلك فهي لا تؤثر فيه، وهو لا يؤوده شيء من حركة الأجسام، كما أن الأجسام لا تقوى على مقاومة قدرته على كل شيء).
وبذلك فإن وجود الله الأكبر ضروري، وبمثل هذه الضرورة هو موجود أبداً وفي كل مكان، فهو يرى، لا كما نرى، ويسمع، لا كما نسمع، ويعقل، لا كما نعقل، ويريد، لا كما نريد، أي بحال ليست بالمرة كحال الإنسان، بل بحال يعجز العقل البشري عن إدراك كنهها.
إن المرء ليعجب إذن كيف يمكن وصف الله (في الدراسات الفلسفية)، ولكن فهم نيوتن الحقيقي لله هو قريب الشبه من طبيعيات أفلاطون السابقة أكثر منها للتعاليم المدرسية اللاهوتية، فهو يقول نفس ما قاله اكسينوفانس.
فنيوتن ليس أكثر من أنشتاين، لا يعتقد (في الحركة مع الحيز)، فإن الجاذبية في نظر نيوتن ناشئة عن النواميس الرياضية، أي أنها لا توجد في اصل الأجسام.
وفي نظر نيوتن، كما هو في نظر أنشتاين، أن الحركة في الأجسام (الأفلاك والأجرام والكواكب) مثلا يشترط فيها الحيز، ولكن الحيز ليس هو الفضاء المجرد الذي ورد في العلم الحديث.
فلماذا إذن وجد نيوتن أنه من الضروري ذكر الله في العلم، يوجد السبب العام وهو (حبه للجمال) هذا الجمال الذي أثر في أفلاطون بقوته فرآه في (البساطة والنظام)، هذا الجمال الذي غمر الطبيعة فجعله يعجب بها أيما إعجاب ويجلها كل الإجلال، وقد كان ذلك أيضاً بالنسبة لنيوتن مضافاً إليه الأسباب الخاصة بما شاهده في تجاربه الميكانيكية والرياضة، فالنواميس الميكانيكية للطبيعة ليست كافية لحصر منشأ الدنيا ولا لحفظ توازنها، ولو أن الكائن يحتاج في تكوينه بهذه القوانين إلى أحقاب عديدة، فإن الأساس المادي هو (قوة الاستمرار) فالحركة تابعة للمادة إذا تحركت، و (قوة الاستمرار) هي مبدأ سلبي بموجبه تثابر الأجسام على حركتها وإلا فإنها تقف لتستمد الحركة المناسبة لقوة الدفع لها فتقاوم بقدر ما تقاوم وبهذا المبدأ فقط لن تكون هناك حركة في العالم، فقد تكون الأجسام في وضع ضروري لحركتها فينشأ وضع وهي في حركتها يعكس هذه الحركة، ومن مختلف الوضعين في الحركتين يتضح أنه من المحتم وجود الكم من قوة الدفع في العالم).
إذن هو يرى أن الحركة قد تكتسب أو تنعدم إذ يقول: ولكن بسبب تماسك الأجسام السائلة وميوعة أجزائها وضعف المرونة في الأجسام الصلبة فإن الحركة أكثر عرضة للفقد من الاكتساب وهي دائماً عرضة للاضمحلال والانحلال والتلاشي
هنا يقرر نيوتن بمفرده حقيقة التعويض الداخلي لمثل هذا الفقد، فيظن أنه ربما كان ذلك آتيا من أرواح أثيرية، فتتكاثف هذه الأرواح من الله إلى (مادة) وتسد النقص في الحركة، وهنا يلقي نيوتن ضوءاً على نظرية النشاط الإشعاعي وأنه قد يتحول إلى نشاط مادي، وإن هذا الخلق وإعادة تجديده تأخذ محلا (في الله) الذي يصفه (بالقوة التي تعيش أبداً والتي توجد في كل مكان قادرة بإرادتها على أن تحرك الأجسام بوعيها الذي لا يحد، وعلى ذلك فإنها تكون وتعيد تكوين أجزاء الوجود بإرادة لا كما تعمل بإرادتنا في تحريك أجسامنا، ومع كل هذا فإننا لا نستطيع أن نقول أن العالم كجسم لله أو أن أجزاءه المتعددة كأجزاء متعددة له.
(يتبع)
عثمان حلمي