مجلة الرسالة/العدد 6/ابن خلدون في مصر

مجلة الرسالة/العدد 6/ابن خلدون في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1933



للأستاذ محمد عبد الله عنان

(2)

وانه لمنظر شائق ذلك الذي يقدمه إلينا ابن خلدون عن مجلسه في ذلك اليوم ومن حوله العلماء والأكابر يشهدون الدرس الأول لذلك المفكر المبدع. وهو يحرص على تدوينه كما يحرص على تدوين الأثر الذي يعتقد أنه أحدثه إذ يقول: (وانفض ذلك المجلس وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار). وفي ذلك ما يدل على ما كان يشعر به ابن خلدون من كبرياء وثقة من أنه كان شخصية ممتازة تجب أحاطتها بمظاهر خاصة من التكريم والرعاية. ثم كانت الخطوة الثانية في ظفره بمناصب الدولة، وتعيينه قاضيا ًلقضاة المالكية في أواخر جمادى الآخرة سنة 786 (أغسطس 1384م) مكان القاضي المعزول جمال الدين بن خير السكندري. وكان ارتفاعه إلى هذا المنصب الذي هو رابع أربعة تعتبر من أهم مناصب الدولة إيذانا بوثوب العاصفة من حوله، واضطرام تلك الخصومات التي كدرت صفو مقامه، وادالت نفوذه، واقتلعته من المنصب غير مرة. يقول ابن خلدون في سخرية: (وأقمت على الاشتغال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية. فعزله واستدعاني للولاية في مجلسه وبين أمرائه. فتفاديت من ذلك، وأبى الا مضاءه). وقد عرف ابن خلدون هذه (النزعات الملوكية)، وعرف أنها تبطن من الشر والنقم في معظم الأحيان أكثر مما تسبغ من العطف والنعم. ولكنه يريد أن نفهم أن ارتفاعه إلى منصب القضاء لم يكن نزعة ملوكية فقط. وإنما أختاره السلطان كما يقول (تأهيلا لمكانه وتنويهاً بذكره).

ونستطيع أن نقدر أن ولاية ابن خلدون لخطة القضاء لم تكن حادثاً عادياً، فقد كان أجنبياً. وكان تقدمه في حظوة السلطان، وفي نيل الناصب سريعاً. وكانت مناصب التدريس والقضاء دائما ًمطمح جمهرة الفقهاء والعلماء المحليين؛ ولم يكن مما

يحسن وقعه لديهم أن يفوز بها الأجانب الوافدون دونهم. وإذا فقد تولى العلامة المغربي منصبه في جو يشوبه كدر الخصومة والحسد. وجلس بمجلس الحكم في المدرسة الصالحية بحي بين القصرين، فلم يمض سوى قليل حتى ظهرت من حوله بوادر الحقد والسّعاية ويقول لنا أبن خلدون في سبب هذه العاصفة التي ثارت حول توليه القضاء، كلاما طويلا عما كان يسود القضاء المصري يومئذ من فساد وأضطراب، وما يطبع الأحكام من غرض وهوى، وعما كان عليه معظم القضاة والمفتين والكتاب والشهود من جهل وفساد في الذمة؛ وأنه حاول إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وقمع الفساد بحزم وشدة، وسحق كل سعاية. وغرض: (فقمت في ذلك المقام المحمود، ووفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق وتحري العدالة. . . . لا تأخذني في الله لومة. ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة، مسويا بين الخصمين، آخذ الحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحاً إلى التثبت في سماع البينات، والنظرة في عدالة المنتصبين

لتحمل الشهادات؛ فقد كان البر منهم مختلطاً بالفاجر، والطيب متلبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم فيتجاوزون عما يظهر عليهم من هناتِهم. لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة، فأن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن وأئمة للصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة فيضنون بهم الخير، ويقسمون الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة، والتوسل لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم؛ ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجب العقاب، ومؤلم النكال. . .) ثم يعدد نواحي الفساد التي شهدها، وجدّ في إصلاحها وقمعها، وكيف مضى في سبيله (من الصرامة وقوة الشكيمة) وكيف احتقر شفاعات الأعيان والأكابر خلافاً لما اصطلح عليه زملاؤه القضاة من قبولها، حتى ثار عليه السخط من كل ناحية، وسلقته جميع الألسن وكثرت في حقه السعاية لدى البلاط.

وهذا التعليل الذي يقدمه لنا أبن خلدون عن سبب الحفيظة عليه، واضطرام الخصومة حوله، معقول يحمل طابع الصراحة والصدق. بل هذا ما تسلم به التراجم المصرية المعاصرة والقريبة من عصره. فيقول أبو المحاسن مثلاً مشيراً إلى ولايته للقضاء: (فباشره بحرمة وافرة، وعظمة زايدة، وحمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر الدولة، وشفاعات الأعيان، فأخذوا في التكلم في أمره. . .) ويقول ابن حجر والسخاوي: (فتنكر (أي ابن خلدون) للناس بحيث لم يقم لأحد من القضاة لما دخلوا للسلام عليه، مع اعتذاره لمن عيبه عليه في الجملة، وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود، وصار يعزر بالصفع، وشبهة الزج، فإذا غضب على إنسان، قال زجوه فيصفع حتى تحمر رقبته) وفيما ينقل السخاوي قصد إلى التعريض والانتقاص، وسنرى أنه شديد الوطأة على أبن خلدون يشتد في نقده وتجريحه؛ ولكن في قوله ما يؤيد أن ابن خلدون كان يصدر في قضائه عن نزاهة وحزم وصرامة؛ بل هو يشهد لابن خلدون بذلك صراحة، حينما يقول عنه في موضع آخر: (ولم يشتهر عنه في منصبه الا الصيانة. .).

انقضت العاصفة على ابن خلدون إذا لأشهر قلائل من ولايته وكثر السعي في حقه والإغراء به حتى (أظلم الجو بينه وبين أهل الدولة) على حد تعبيره، وفقد حظوته وما كان يتمتع به من عطف ومؤازرة. وأصابته في ذلك الحين نكبة أخرى هي هلاك زوجه وولده وماله. وكان منذ مقدمه ينتظر لحاق أسرته به؛ ولكن سلطان تونس حجزها عن السفر ليرغمه بذلك على العودة إلى تونس فتوسل إلى السلطان الظاهر أن يشفع لديه في تخلية سبيل أسرته به، ففعل، وأطلق سراح الأسرة وركبت البحر إلى مصر. ويروي لنا ابن خلدون نبأ الفاجعة في قوله: (ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد. وصلوا من المغرب في السفين، فأصابها قاصف من الريح، فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود؛ فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب) ولم يمض سوى قليل حتى أقيل المؤرخ من منصب القضاء، أو بعبارة اخرى، حتى عزل. بيد أنه يريد أن نفهم أن هذا العزل جاء محققاً لرغبته إذ يقول: (وشملتني نعمة السلطان أيده الله في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت فيما زعموا مصطلحها، فردها إلى صاحبها الأول وأنشطني من عقالها؛ فانطلقت حميد الأثرة مشيعاً من الكافة بالأسف والدعاء وحميد الثناء، تلحظني العيون بالرحمة، وتتناجى الآمال في العودة) والخلاصة أن ابن خلدون يؤكد لنا إن عزله كان نتيجة التحامل والحقد والسعاية فقط، وأنه أثار استياءً وأسفاً في المجتمع القاهري، وأنه غادر منصبه موفور الكرامة والهيبة. بيد أننا سنرى، حسبما يشير في قوله المتقدم، أنه كان يرمى بجهل الأحكام والإجراءات وأنه لم يكن بذلك أهلا لتولي القضاء، وانه كان مشغوفاً بالمنصب، أشد ما يكون حرصاً عليه.

وكان عزل ابن خلدون عن منصب القضاء لأول مرة في السابع من جمادى الأولى سنة 787 هـ (يوليه 1385م)، أعفي لنحو عام فقط من ولايته، فأنقطع إلى الدرس والتأليف كرة أخرى.

على أن هذا العزل لم يكن إيذاناً بسخط السلطان ونقمته؛ فقد لبث ابن خلدون في منصب التدريس بالقمحية؛ ولم يمض سوى قليل حتى عينه السلطان أيضاً لتدريس الفقه المالكي بمدرسته الجديدة التي أنشأها في حي بين القصرين (المدرسة الظاهرية البرقوقية). واحتفل ابن خلدون كعادته بالدرس الأول، وألقى خطابا بليغا يدعو فيه للسلطان، ويعتذر عن قصوره في تواضع ظريف. وشغل بالدرس في المعهدين حتى كان موسم الحج عام تسعة وثمانين، فأعتزم عندئذ أداء الفريضة، وأذن له السلطان وغمره بعطائه، وغادر القاهرة في منتصف شعبان؛ وقصد إلى الحجاز بطريق البحر؛ ثم عاد بعد أداء الفريضة، بطريق البحر أيضاً حتى القصير؛ ثم أخترق الصعيد بطريق النيل، فوصل القاهرة في جمادى الأولى سنة تسعين (790 هـ)؛ وقصد السلطان تواً واخبره بأنه دعا له في الأماكن المقدسة، فتلقاه بالعطف والرعاية. ثم خلا كرسي الحديث بمدرسة صرغتمش فولاه السلطان إياه بدلا من تدريس الفقه بالمدرسة السلطانية؛ وجلس للتدريس فيها في المحرم سنة إحدى وتسعين، وألقى خطاب الافتتاح كعادته في حفل فخم، وأعلن أنه قد قرر للقراءة في هذا الدرس كتاب الموطأ للإمام مالك؛ ويعرفنا ابن خلدون بموضوع درسه الأول في ذلك اليوم، فقد تكلم فيه عن مالك ونشأته وحياته وكيفية ذيوع مذهبه، ثم يقول لنا في كبريائه المعهود: (وأنقض ذلك المجلس، وقد لاحظتني بالتجلة والوقار العيون، وأستشرت أهليتي للمناصب القلوب، وأخلص النجا في ذلك الخاصة والجمهور).