مجلة الرسالة/العدد 6/في الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 6/في الأدب العَرَبي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1933



القصة المصرية

للأستاذ جيب. أستاذ الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية بجامعة

لندن

جاء ابتداء ظهور القصة كفن من فنون الأدب في مصر متأخراً، إلى حد أننا نلتمس العذر لمن يدرس الأدب المصري، إذا هو رجع إلى ما أنتجته من قبل (مدرسة الكتاب السوريين) من الآثار ليبحث عما إذا كان هناك في الأصل علاقة بينها وبين نمو القصة.

وفيما عدا ما يحتمل من أن نجاح القصصيين السوريين قد شجع الكتاب المصريين على إنتاج نوع من القصص يلائم شعبهم، ستبقى (القصة المصرية) وهي موضوع هذا المقال، أثناء البحث مستقلة تمام الاستقلال عن تاريخ القصة السورية.

أما المؤثرات الغربية، فقد ظهرت بوضوح فيما ولى ذلك من الأطوار كما أنها استخدمت استخداما مباشرا، ولكن على الرغم من هذا فان (آداب التسلية) في مصر قد ظلت لمدة طويلة تعتمد على ما خلفه العرب من النماذج الأدبية العالية، والنماذج العرفية التي درج الناس عليها. فلما آن لها أن تتحرر من تبعيتها لتلك النماذج، كان تحررها ببطء وبعد تردد، ومن ثم كان نجاحها في ذلك الاتجاه فردياً موزعا، ولم يكن نتيجة لحركة تطور مستقيمة.

ونحن في الواقع إذا أردنا أن نتحدث عن (نمو) القصة في مصر، فلا بد أن نمد في معنى هذا اللفظ (القصة) حتى يشمل شعبة واسعة من فنون الكتابة يربطها جميعا رباط الخيال القصصي، وإن كان بينها كثير لا يمكننا مطلقا أن نعتبره قصة إذا قصدنا المعنى الحقيقي لهذا اللفظ.

ويعزى تأخر مصر في هذا الميدان، ميدان القصة، إذا هي قورنت بتركيا والهند (وهما المركزان الأساسيان الآخران للثقافة الإسلامية) إلى عدة عوامل أوضحناها في مقال سابق في صدد الكلام عن الأسباب الأدبية، والأسباب التعليمية التي كانت عقبة في سبيل ظهور آداب للتسلية من نوع جديد في مصر. ونستطيع أن نضيف اليوم إلى تلك العوامل أن المصريين وجدوا غنية ومتاعا فيما خلفه العرب من آداب عالية متنوعة، مما لم يكن له مثيل في كلتا اللغتين التركية والأردية. وهناك بعض عوامل محلية خاصة سنعرض لها في شيء من التفصيل في بحثنا هذا، ولكننا نحب أن نشير الآن إلى تلك الحقيقة التي تحوي شيئاً مما سنعرض له، وهي أن تلك الطبقة المحصورة التي تعلمت تعلما حديثاً في مصر، كانت تستطيع أن تجد بغيتها في الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي، ومن أجل ذلك انعدمت في الدوائر الأدبية البواعث التي تشجع على تأليف كتب التسلية بالعربية. فلما أمست الحاجة إلى هذا النوع من الكتب، كان المسلك الطبيعي الذي سلكه الأدباء هو إقبالهم على ترجمة القصص الفرنسية والإنجليزية، وفضلوا ذلك على أن يقوموا بإنتاج أدب قصصي جديد لا يرجون له انتشاراً، إذ كان ذلك العمل يتطلب منهم خلق فن جديد من فنون الكتابة.

ولما كانت هذه القصص قد ترجمت ترجمة سقيمة، ولم يراع في اختيارها حالة مصر الاجتماعية، ولا حالة الثقافة العامة، ولا الذوق الأدبي في البلاد. فان قبول القراء لها على الرغم من عيوبها ليدل على انه كان هناك شعب يتذوق هذا النوع من الأدب ويقدره حق قدره.

على أن هناك كتاباً يصح اعتباره مقياسا للكياسة والمهارة اللتين ينبغي أن يتصف بهما من يريد القيام بترجمة قصة أوربية، بحيث يجعلها تلائم ذوق شعب ثقافته إسلامية كالشعب المصري، ذلك الكتاب هو ترجمة عثمان جلال لقصة (بول وفرجيني) فان تلك الترجمة على ما فيها من الاختصار والتصرف في الجملة ظلت محافظة على الروح الأصلية وعلى ما جاء في الأصل من المعاني. أضف إلى ذلك أن استعمال السجع في عبارات سهلة. ووضع المؤلف بعض المقطوعات الشعرية محل الأفكار الفلسفية التي وردت في الأصل، قد أكسب هذه الترجمة مسحة عربية، لم توجد مع الأسف في معظم ما عاصرها أو جاء بعدها من الكتب المترجمة. ويمكننا أن نستشهد على ذلك بالفقرة الآتية:

(وما أنت أيتها الصغيرة فلا عذر لك في السفر، ولا بد من تسليمك للقضاء والقدر، وأن تطيعي أمر الأقارب وإن ظلموا وأن تسلمي لمل به حكموا، فإن سفرك وإن كان لا أحد يرضاه، فهو على ما حكم الله. فلقد أنزل تعالى في كتابه العظيم، على لسان نبيه الكريم: قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى، وإن سفرك إن شاء الله لنعم العقبى، أفتعصين الله ما أمر، أم تسلمين للقدر).

وهناك غير هذا الكتاب مئات أخرى بينها عدد ليس بالقليل حرص فيه المترجمون على الأصل إلى درجة تختلف قلة وكثرة عما ذكرنا، ونخص بالذكر تلك التراجم التي قام بها المنفلوطي، وإن كان ينقصها كثير من مزايا ترجمة عثمان جلال، على الرغم من براعة أسلوب المنفلوطي. والذي يعنينا في هذا الصدد الكتب المترجمة من أنها كثيرة وأنها صادفت رواجا عظيما.

ونستطيع أن نتبين ميل الكتاب المصريين إلي المحافظة على ما خلفه لهم العرب من الأوضاع الأدبية التقليدية، (الا أن يضيفوا إليه بعض العناصر الجديدة) في تلك القصة التي تعد أول قصة مصرية بالمعنى الذي أشرت إلى وجوب اعتباره في صدد الكلام عن القصة المصرية، وهي (رواية عذراء الهند أو تمدن الفراعنة لمنشئها الضعيف احمد شوقي) عام 1897. وهي من أوائل مؤلفات الشاعر النابه احمد شوقي. ولم توضع هذه القصة على نمط قصص ألف ليلة وليلة أو على طراز قصص السيرة، وإنما وضعت على نمط تلك الأقاصيص الخرافية الشهيرة التي تعرف (بالحواديت). وقد سار المؤلف في توسيعها على الطريقة التي تتبع في (القصص التاريخية). على أني أقرر صراحة أن هذه القصة مما لا يمكن أن يستسيغه العقل، من حيث الخطة ومن حيث ما حشر فيها حشراً من المخلوقات الخرافية كالسحرة والعرافين، مما لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاتها، ولكنها ورثت مما سبقها من (الحواديت) المشهورة ميلاً شديداً إلى الحركة والمخاطرة فعوض ذلك عليها بعض مساوئها، وإننا لنشعر بشيء من اللذة أثناء قراءة الصفحات التي لم تحشر فيها الخرافيات لأنها تعد بين القصص الحي.

أما ما تدين به تلك القصة (للقصة التاريخية) فهو طريقة سرد التاريخ في ثنايا القصة. ولقد تعرضت هذه القصة لشرح عظمة مصر القديمة. وهي جديرة بالاعتبار من هذه الناحية. على أن خطرها الحقيقي إنما يرجع إلى أنها كتبت بذلك الأسلوب الفخم الذي قلد شوقي زعامة الشعر في الأدب المصري. ويعد النثر المسجوع فيها من أفصح ما عرف من هذا النوع ولقد كانت الفقرات تجري على روى واحد أربع مرات أو خمسا في غير إملال. وكانت تتخلل هذه الفقرات بعض المقطوعات الشعرية الرائعة للمؤلف. وأن الإنسان ليأسف على انه لم يتح لهذا الأسلوب موضوع آخر ومواد أخرى غير التي استعمل فيها.

بجانب تلك المحاولة التي قام بها شوقي، ظهرت محاولة أخرى بعد ذلك ببضع سنوات كانت أبعد نجاحا وأعظم أثراً وهي التجاء الكتاب إلى ذلك الضرب المعروف بالمقامات، وهي تعد في نظر من يدرسون الأدب العربي في العصور الوسطى أقرب ضروب الكتابة في ذلك الوقت إلى القصة بمعناها الحقيقي. ولقد ظلت المقامة تستعمل في شكلها التقليدي حتى أواخر القرن التاسع عشر. وعلى الأخص على يد ناصيف اليازجي وعبد الله باشا فكري، ولكنها كانت في يدي هذين الرجلين وغيرهما من كتاب مدرستهما مقصورة على الموضوعات القديمة ولم يكن لها بحياة عصرهم غير ارتباط قليل.

ولكن ظهر بجانب هذه المقامات نوع آخر لجأ إليه الكتاب فيما طرقوه من الموضوعات وعلى الأخص في النقد الاجتماعي؛ وأقبل عليه عدد من الكتاب المصريين فأخرجوا طائفة من الآثار الأدبية؛ كانت إحدى المظاهر الخاصة التي امتاز بها الإنتاج الأدبي في السنوات العشر التي سبقت عام 1914.

ويعد (حديث عيسى ابن هشام) لمحمد إبراهيم المويلحي (1858 - 1930) أقدم وأحسن تلك المجموعة الجديدة، بل أن هذا الكتاب في تصوراته وطريقته ليكاد يصل إلى القصة بمعناها الحقيقي. ولقد لجأ المويلحي أيضاً في ذلك الكتاب إلى الخرافيات، لأن الخيط الذي يربط أجزاءه، هو تجارب أحد الباشوات الذين عاشوا في عهد محمد علي، وقد بعث هذا الباشا من مرقده فهاله ما وجد من الظروف الاجتماعية الغريبة التي لم يألفها في القاهرة التي استحالت إلى مدينة أوربية. وبهذه الوسيلة تسنى للمؤلف أن ينتقد في حوار ممتع حالة عصره، وأن يقارن ذلك بالماضي مظهرا ما في الحاضر من مساويء، أهمها ولع أهله بتقليد الأوربيين تقليدا مرذولا. على أن هذا الكتاب، كما لاحظ محمود تيمور، ينقصه الخواص الجوهرية للقصة، وأعني بها الخطة البسط، ولكنه في تصوير الأشخاص قد نجح إلى درجة جديرة بالاعتبار. ولقد أضيف إلى الطبعة الأخيرة لهذا الكتاب جزء آخر سمي (بالرحلة الثانية) غيرت فيه المناظر الأولى بمناظر باريس أبان المعرض العظيم عام 900، وبذلك تسنى للمؤلف انتقاد مساوئ التشبه بالغربيين، وأوضح معايب المدنية الغربية لدى منابعها. ومما هو جدير بالملاحظة أن الباشا لم يرجع ثانية إلى قبره، ذلك إلى مثله في الكتاب ما يحملنا على الظن بان المؤلف قد نسى الفكرة التي بدأ بها كتابه.

ولا يعزى نجاح هذا الكتاب وشهرته إلى القصة نفسها ولا إلى مغزاها بقدر ما يعزى إلى براعة الأسلوب والمقدرة على الوصف، فإن المؤلف يقلد تقليدا متقنا الخصائص الحسنة التي يمتاز بها أسلوب المقامة مضافا إلى ذلك سهولة حديثة وظرف. ويتخلل عباراته المسجوعة حوار في لغة سهلة حديثة. ولقد يلجأ المؤلف إلى اللفظ العامي الاصطلاحي فيستعمله في غير تردد، وذلك على الرغم من أن الحوار نفسه كان يتطرق كثيرا إلى عبارات وصفية مسهبة. وكان السجع مزيجا متقنا من القديم والحديث مما أكسب الأسلوب طرافة ورونقا، وجعل القارئ يستمتع بأثر من الآثار الأدبية الحية جدير بأن ينافس آثار المنفلوطي في الأسلوب مع تفوقه عليها في عمق الحس وحسن الترتيب.

وتستطيع أن تضيف إلى كتاب المويلحي كتابين آخرين، جرى فيهما صاحباهما على سنّة المويلحي في اختيار طريقة المقامة للكتابة في النقد الاجتماعي، وإن كانا أقل منه لباقة ورقة، أولهما (ليالي سطيح) لمحمد حافظ إبراهيم وهو أقوى منافس لشوقي في زعامة الشعر العصري (1871 - 1932) وظهر هذا الكتاب عام 1907. وخطة هذا الكتاب بسيطة تتلخص في أن جماعة من الناس كانوا يشكون في ليالي متوالية ما يلاقونه من مساوئ الأحوال السائدة في مصر، فيجيبهم على التوالي صوت خفي مبيناً أسباب ما يضجون منه من المساوئ في نثر مسجوع تتخلله بعض المقطوعات الشعرية، واصفاً لهم الدواء. على أن خطة الكتاب تأخذ بعد ذلك في التغير تدريجا حتى يصير الجزء الأكبر منه عبارة عن محاورات في نثر مرسل سهل تضيع فيه المعالم الأصلية للكتاب. ولقد قوبل هذا الكتاب بحماس وإقبال في الدوائر الأدبية المصرية ولكن مما تلذ ملاحظته في هذا المقام أن أصواتا عالية قد ارتفعت في ذلك الوقت منددة باستعمال السجع في مثل هذه المؤلفات.

أما ثاني هذين الكتابين فهو (ليالي الروح الحائر) للكاتب السياسي والمؤلف المسرحي محمد لطفي جمعة. ولقد سار المؤلف في هذا الكتاب على طريقة المقامة بالدقة، دون أن يلجأ إلى السجع. ويلاحظ في كتابه أثر كتّاب (المدرسة السورية الأمريكية) واضحا خصوصا في هذا النوع من الإنشاء المعروف باسم الشعر المنثور أو الشعر الحر. أما المتحدث في هذا الكتاب فهو روح غير مجسمة كما يفهم من اسمه، وأغلب هذا الحديث في انتقاد الأحوال الاجتماعية في مصر، ولقد أشار زيدان بحق إلى جمال هذا الكتاب وفصاحة أسلوبه. وفي نظري أنه في هذه الناحية أهم منه في الناحية الأخرى: ناحية التعمق في الأفكار التي تعرض لشرحها.

وقبل أن أترك هذه المجموعة المتشابهة أحب أن أشير هنا إلى كتاب آخر عظيم الشبه بها وإن امتاز منها في الروح ثم في الأسلوب إلى حد كبير، ذلك هو مجموعة الفصول التي جمعت تحت عنوان (أين الإنسان) لمؤلفها الشيخ طنطاوي جوهري. ولقد قدمت هذه الرسالة إلى المؤتمر الدولي الذي انعقد في لندن عام 1911. أما المتكلم في هذه الرسالة فهي روح سماوية، وأما الحديث فانه يدور حول التقدم العالمي والإخاء البشري. ولم يلجأ الكاتب إلى استعمال السجع، وهذه الرسالة مفخرة للأدب العربي العصري، وهي جديرة بأن تكون موضوع دراسة خاصة، ولكني أكتفي هنا بالإشارة إليها لخروجها عن موضوع بحثي.

ويمكننا أن نتبين في هذه المؤلفات عدة محاولات مجتمعة لإيجاد نوع جديد من الأدب، يسد حاجة جمهور قارئ جديد، ويتصل بعض الاتصال بمشاكله ونظراته إلى الحياة، بحيث يسهل تناوله، ويثير اهتمامه، ويلائم خياله. على أن أصحابها لم يصادفوا نجاحا في تلك المحاولات لأنها كانت أقرب إلى الأدب العالي منها إلى آداب التسلية، فلم يقبل عليها الا عدد صغير من خاصة القراء.

وبدل أن يطرقوا موضوعات جديرة طريفة تسري عن الجمهور ما يلاقيه من متاعب الحياة نراهم يوجهون اهتمامهم إلى هذه المتاعب نفسها فيتناولها بالدرس والتحليل، وأدهى من ذلك انهم كانوا يسلكون في كتاباتهم طريقة الوعظ الجافة، أضف إلى ذلك انهم لم يسلموا من تسلط الفكرة القديمة، فكرة العصور الوسطى، التي تنظر إلى الأدب كوسيلة من وسائل المباهاة والظهور، سواء في ذلك ساروا على الطريقة القديمة أو من قاموا بترجمة بعض المؤلفات الغربية كعثمان جلال والمنفلوطي، ولم يخل الكتاب السوريون من التشيع بهذه الفكرة أيضاً وحتى كتاب الأقاصيص التافهة التي تركت في زوايا النسيان الذي استحقته منذ ظهورها، قد قصدوا في كتاباتهم إلى ذلك الغرض الوعظي الخلقي. ويظهر لنا من هذا أن أولئك الكتاب كانوا ينظرون إلى القصص التي تكتب للجمهور نظرة ازدراء مما كان له أكبر الأثر في تأخر نمو القصة كفن من فنون الأدب العربي.