مجلة الرسالة/العدد 60/سحر المرأة

مجلة الرسالة/العدد 60/سحر المرأة

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 08 - 1934



بقلم محمد عبد الحميد

وأنت يا أمين ألا تتزوج؟

أنا؟ لا. لن. . .

بهذا الرد القاطع أجابني (أمين) يوم سألته وكنا في رفقة من الزملاء، نقطع الوقت بالحديث، وأغلب ما يدور حديث الشباب حول المرأة.

كان ذلك في أوائل سنة 1930، وكان (أمين) معاوناً في وزارة الأوقاف، مات والده قبل أن يبدأ مرحلة الدراسة الثانوية، وهو ما يزال صبياً لم تثقله الحياة بهمّ أو تصبه بكارثة، فشاء أو شاءت له الظروف أن يختصر طريق التعليم، فلم يكد يقطع شهوراً في مدرسة مشتهر الزراعية، حتى لحقت أمه بأبيه.

قضى أمين زهرة حياته محروماً من عطف أبيه وحنان أمه، لم تكد تتفتح نفسه، ويلمع بريق الحياة في عينيه، حتى ألفى نفسه وحيداً، لا تضمه إلى صدرها أم، ولا يتولاه بالإرشاد أب. لم ينسكب في نفسه هذا النور الذي تشعه عيون الأمهات حناناً ورحمة، وخرج إلى الحياة بقلب صلب لم تصهره قبلات الأم الحارة البريئة، ونفس جافة لم ترفقها شفقة الوالد ورعايته. كذلك أخوته الثلاثة قطعت الحياة بينهم وبينه، فلم يلمس حنان الأخوة، ذهب أولهم في بعثة إلى أوروبا لدراسة الطب، والتحق الثاني والثالث قبل وفاة أبيهما بوظائف الحكومة، وعاش كل منهما مع زوجته في منزل وحده.

وكذلك عاش أمين وحيداً أكسبه جفاف حياته خشونة لم تكن تروق في أعين الذين يحتكون به، فكان صريحاً جافاً، لا يفكر في أحد من الناس، ولا يفكر في الاتصال به أحد من الناس.

غير أنه كان يضم في كيانه قلباً حياً نائماً لم يتح له أن يثور، فرقت بيننا ظروف العمل، فنقل إلى مأمورية الأوقاف في طنطا، وهناك ولأول مرة بعد وفاة والديه اتصل برجل من أهله. فقد كان له في هذه المدينة (خال) لم يتصل به منذ صباه. زار منزل خاله، فرحب به أهل الدار: خاله وزوجته وابنه وابنته (زينب)، وهي عذراء، أتمت السادسة عشرة من عمرها.

مضت الأيام وتوالت الشهور دون أن يعنى كثيراً بزيارة أقاربه حتى أحسّ يوماً بالمرض يسري في جسمه، وإذا هي الحمى، وإذا هو مضطر أن يستريح كما أشار عليه الطبيب، ولكن أين يجد الراحة وهو (أعزب) ليس في منزله من يعنى به أو يهتم بأمره، وهو مضني لا يكاد يستطيع الوقوف على قدميه. إذن لتكن دار خاله ملجأه اليوم في مرضه، لعله يجد فيها بعض الراحة مما يعاني.

لقيه أهله في عطف، وأحاطوه بقلوبهم، ووقفت إلى جوار سريره (زينب) لا تكاد تخرج من بين شفتيه كلمة حتى تسعفه بما يبغي، وتقوم له بما يحتاج، وما تكاد الساعة تدق حتى تسرع إلى الدواء تسكب له منه بالقدر الذي أشار به الطبيب، وهي ما تفتأ بين الحين والحين، تضع يدها على جبينه تجس بها حرارته. كانت تقضي النهار إلى جواره، وتقطع الليل أو أغلبه حول سريره، ما يكاد يلمع ضوء الفجر حتى تهب إليه تسأله في كلمات رقيقة عذبة، ألم يشعر بتحسن؟ ألا يزال يمقت ماء الشعير؟ أتستطيع أن تحضر له مقداراً يغذي جسمه وتستريح به معدته؟ وهي إلى جانب هذا لا تنقطع كلما صحا من نومه المتقطع تعمل على راحته وتسعى جهدها لتغتصب الابتسامة من بين شفتيه اغتصاباً، واشتدت به العلة يوماً فارتفعت درجة حرارته، وأغمض عينيه، ووقف حوله أهله يبتهلون إلى الله من أجله، حتى إذا كان الليل وهدأت الحياة، واستسلم الجميع للنوم، أفاق أمين قليلاً وارتفع جفن عينه المغمض فإذا هو يواجه (زينب) إلى جواره تنظر إليه بعين قد التهبت من البكاء.

ماذا؟ هل تبكين؟ ثم انهمرت من عينه دمعة لعلها أول دمعة تفيض بها عينه منذ وفاة والدته.

توالت الأيام وزال عن (أمين) ما كان قد أقعده فعاد إلى عمله يستعيد مع الأيام الطويلة بعض الذي فقده.

لم يكن يعيش مع أقاربه في مدينة واحدة، بل كان يعمل في (منطقة) من مناطق الأوقاف القريبة من طنطا فلم يكد يقطع اليوم الأول في مقر عمله حتى أحس في أعماق نفسه شعوراً قوياً يدفعه إلى العودة.

إنه يحن إلى طنطا، بل هو يحن إلى منزل أهله. طغى على قلبه شعور قوي لم يكن يدركه قبل اليوم يدفعه إلى العودة.

إلى أين؟ إلى منزل أقاربك. ولكن لماذا؟ لقد شفيت ولم تعد لي بالعودة حاجة، وأنا لم أقض بعيداً عنهم يوماً كاملاً؟ لقد كانت هناك حاجة قوية تدفعه، وشعور جبار يغريه.

نام ليلته الأولى بعد تفكير طويل لم يكد يتبينها واضحة جلية، فإذا هو يقطع الليل في أحلام متقطعة رأى فيها أشباحاً بيضاء رقيقة تدور حوله، فلما حاول أن يتعرفها لم تتمثل له غير (زينب).

زينب العذراء الحلوة الفاتنة، زينب الجميلة الساحرة، هذه عيونها تلمع بفتنة الحياة، وهذا قوامها البديع، وهذه يدها الرقيقة تمتد إليه في دلال ولين، وهذا صوتها العذب يتدافع إلى أذنيه حلواً سائغاً.

هب من نومه مع الصباح الباكر فألفى السماء ساكنة صافية وهذه الأشجار لا تزال تلمع بقطرات الندى، والقرية ساكنة إلا من أصوات أفراد قلائل يصل إليه وقع أقدامهم وهم في طريقهم إلى المسجد يؤدون فريضة الصباح، غير أنه يشعر بوحشة ويحس بالهم والحاجة. . .

لا بد أن يكتب إلى خاله يشكره على عنايته به في مرضه، فإذا هو يختتم خطابه في حرارة لم يكن يحسها قبل اليوم، وإذا هو يحاول أن يختص زينب بتحية يقنع نفسه أنها ستدركها رغم أنها صادرة للجميع.

لقد أحب أمين.! أمين الجامد الصلب قد تفجر قلبه فإذا اللهب يكاد يحرقه، وإذا العاصفة التي ثارت في أعماقه تكاد تسحقه، فإذا هو يعود إلى منزل أقاربه، وإذا هذه الزيارة تتكرر في الاسبوع الواحد مرات، وإذا هو لا يصمد لهذه الثورة المجتاحة.

لقد نفذت العاطفة الحارة إلى قلبه فألهبته وصهر العطف نفسه فإذا هو يرى في الحياة ألواناً جديدة، هو يهواها ويفني نفسه في سبيلها. لقد لمسته المرأة بالعصا السحرية فانبثق النور في أعماقه، فإذا هو مفتون.

كانت الأيام قد توالت، وكنا على وشك أن نختتم عام 1932 فإذا أنا أتسلم منه كتاباً لم يزد فيه على كلمات:

عزيزي محمد: لقد أدركت سر الحياة لأول مرة، في عيني المرأة، سأتزوج.

أخوك. أمين

لقيته بالأمس فإذا هو كالعصفور يكاد يطير. ينطلق في حديثه فإذا هو ينساب في رقة وعذوبة، وينقطع عنه، فإذا ابتسامة مشرقة تنشر على صفحة وجهه نوراً لامعاً جذاباً.

أتذكر يا أمين يوم سألتك عن الزواج، فأجبت في لهجة الواثق أنك لن تتزوج؟ لا يصديقي. لقد كانت الحياة إذ ذاك قاحلة جدباء. هيا هيا نشتري معاً (تربية الطفل) لزوجتي تقطع به الوقت، وتخفف به عن نفسها عبء الحمل، ونشتري لعبة مما أعده للمستقبل لابنتي المرتقبة (كامليا)

محمد عبد الحميد