مجلة الرسالة/العدد 60/ - سافو.

مجلة الرسالة/العدد 60/ - سافو.

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 08 - 1934


4 - سافو

لأوجييه اميل

ترجمة الأستاذ محمود خيرت

المنظر الثاني

(غرفة بدار حنا بها دولاب ومائدة فوقها شمعة موقدة وحنا وحده ينزع من الدولاب ملابسه بيدين مرتجفتين ويضعها في حقيبة)

حنا - (كارهاً الحياة) نعم أفر من وجه هذه المدينة فلعلي لا أعود أشعر بآلامها وأقصد إلى قريتي فلعل نسميها ينسيني مرارة هذا الحلم.

(يعثر في الدولاب على علبة من صنع اليابان فيتأملها)

علبتها. والحفيظة على ذكرياتها. لم تعيدين لخاطري أيتها العلبة صورة ذلك الماضي القذر (تظهر فنى)

فنى - (جازعة وهي تراه يستعد للرحيل) حنا. لا ترحل.

حنا - قضى الأمر

فنى - لقد كذبوا عليك حسداً. ثم كيف أصغيت إليهم وكيف صدقتهم.

حنا - سافو. (متعمداً لكي تفهم أنه يعلم ما تخفي من أمرها) يا لها من خيانة. أنت التي أبحتك قلبي، واتخذتك معبودي تقدمين على خيانتي. أهكذا في وسع امرأة أن تعبث بنفس هادئة مطمئنة وأن تحطم قلباً لم ينغمس في إثم. ليتك تشعرين بما أشعر به الآن من مرير الألم. ولكني أرحل فلعلي في وحدتي أنسى وأنا أستنزل غضب الله ولعنته عليك. لقد بلغ من جهلي أن أكرمتك واتخذتك امرأتي، حتى انكشف لعيني ماضيك الذي سترته عني. وبلغ من نفاقك أن أعميتني فتمكن سلطانك من إيماني، ولكن الحمد لله فقد نضب الآن معين حبي ووقف من دونك شبح كراهيتي ومقتي. فعودي إلى ما كنت سافو الخليلة العاهرة الفاجرة.

فنى - (وقد صدعها الألم والفضيحة) هب كل ما سمعت صحيحاً أفنسيتَ أن المصادفة هي التي جمعتني بك. ثم ألم تقم هذه المصادفة سداً بين سافو الغابرة وفنى الحاضرة. أقسم لك أن سافو ماتت من يوم أن عرفت فنى.

حنا - كما أقسمت لغيري

فنى أنا ما أحببت سواك يا حنا

حنا - تكذبين

فنى - (مضعضعة) بل إني لصادقة وإني لأعبدك.

حنا - إذن لم احتفظت بهذه العلبة؟

فنى - (مفكرة) أو علمت بها؟

حنا - (مشيراً إلى الدولاب) إنها لا تزال هنا. أنظري

فنى - ولكنها لا تحوي شيئاً. . .

حنا - أبداً؟ (يتناول العلبة بين يديه ليفتحها)

فنى - (بصوت خائر خافت) ما هذا الجنون

حنا - إنها تحوي الشواهد الناطقة بفجورك

فنى - مهما جرعتني من القسوة فما زلت أحبك

حنا - (بخشونة) أين مفتاحها؟

فنى - لا أدري

حنا - (مهتاجاً يعالج فتحها بالقوة) سأعرف كيف أحتال على فتحها.

فنى - (تحاول منعه ويكون قد فتحها) ولكنك تعالج النار بالنار.

حنا - ها قد أفلحت. أنظري. إنها هنا مكدسة منكمشة خشية أن يفوح نتن عارها.

فنى - أحرقها إن شئت فهي لك.

حنا - لي أنا يا سافو. . .

فنى - لم أعد سافو يا حنا (تتناول بيد مرتجفة بعض رسائل سقطت على الأرض) نعم أحرقها أو فمزقها لتصدق أنني أصبحت لك وحدك (بلطف) بالله لا تجر خلف شكوكك ودع ما أقاسي يتصاعد في دخانها. إنها ما كانت غير سحب بعيدة فلا تحجب الآن بها سماء طهارتي.

حنا - (ببطء وألم) كنت أود أن أقف على ما فيها.

فنى - إذن أنت تريد أن يصل الهم إلى قرار نفسي (تقترب وإحدى يديها إلى ظهرها حيث تمسح بيدها اليمنى خده كما كانت مع كاوودال)

حنا - (منفجراً) إنك بهذه الحركة تعيدين إلى ذهني صورة ما اعتدته مع سيدك كاوودال.

(تأخذ بحالة عصبية لفافة وتشعلها)

وعلى هذه الصورة أيضاً كنت تدخنين لفافاتك معهم. إنك لا زلت تكلمينني بلغة المصنع وأسلوب العاهرات حتى كأني بين عشاقك أسمعهم وأراهم.

فنى - (تلقي اللفافة بغضب وتفركها بقدمها) ما أقساك.

حنا - كل هذه الرسائل على ما بها من صفرة القدم وتأثير الزمن. . .

فنى - (تقطع حديثه) دعني أنا أشعل النار فيها.

حنا - بعد أن أتبين ما بها (يقرأ إحداها): (ليتك يا سافو تعلمين كم أحرقت من دمي لأجري الحياة في المرمر الذي نعم بتصوير جسمك الغض. . .)

فنى - (معترضة) بالله عليك (تخطفها وتحرقها)

حنا - (يتناول كتاباً آخر) إنه شعر هذه المرة.

سافو لقد ذقت الهوى ... من مقلتيك فذقت أنسا

لكن بُعدك شفني ... وجنى علي فكيف أنسى

(متأثراً) ماذا فعلت معهم حتى تركتهم على هذه الحال.

فنى - (حزينة) ليتني أدري.

حنا - (يقرأ رسالة أخرى ورقها وردي اللون): أنا بانتظارك الليلة في دار التمثيل (تطرق فنى خجلاً. أما هو فيحرقها ولكنه يحس كأن سهماً مسموماً أصابه حين يقع بصره على تخطيط يصورها عارية)

وهذا الرسم؟ إذن كانوا يصورونك عارية (ثم يقرأ ما هو مكتوب تحته): (حبيبتي سافو. . .)

فنى (متحببة إليه) إنني ما استبقيته إلا لشهرة مصوره.

حنا - (يلقيه إليها) احتفظي به.

فنى - (ترده إليه) بل احرقه واحرق كل ما بقى معه (بحزن) كفى يا حنا وارحم ألمي (يشتد حزنها) وليتك تعلم كيف نشأت، فلقد كنت وأنا طفلة على ما يُروى زهرة القرية أمرح في الطرقات وقد تيتمت من أمي وربما أيضاً من أبي، وما كان يعود إلا آخر الليل يترنّح من السُكر، وكان شديد القسوة معي حتى إذا ما بلغت سن الخامسة عشرة، وأنا أجمل فتيات الناحية فررت إلى هذا المصنع. أما أولئك الفنانون فانتهزوا فرصة احتياجي وبؤسي فعبثوا بطهارتي، ولكنهم مع ذلك لم يهتدوا إلى طريق قلبي ولا تركوا في نفسي من الأثر غير الحقد واللعنة، فهذا القلب ما كان لهم يوماً ما فحطّمه إن شئت فانه لك.

حنا - وما هذه الرزمة المخبأة.

فنى - (تصرخ متألمة) لا إلا هذه يا حنا.

حنا - وما الفرق بينها وبين أخواتها.

فنى - حنا. دعني أحرقها. أتوسل إليك.

حنا - إنك تحيرينني.

فنى - قلت لك دعها (تحاول اختطافها فيتغلب عليها) إذن ليكن ما يكون.

حنا - (متهكماً) طابع السجن! (ينظر إلى الإمضاء) فرومان! فرومان المزور؟

فنى - بل فرومان القدير. أما التزوير فما يعيبه، وما دفعه إليه غير فقره.

حنا - (باحتقار) إنه مجرم.

فنى - (متلطفة به) بيبي.

حنا - (يستيقظ غضباً) هذه الكلمة كنت تداعبين بها أيضاً ذلك اللص.

فنى - ليكن، ولكن مالك به وأنا لك.

(يتبع)

محمود خيرت