مجلة الرسالة/العدد 606/الصراع بين الإسلام والوثنية

مجلة الرسالة/العدد 606/الصراع بين الإسلام والوثنية

مجلة الرسالة - العدد 606
الصراع بين الإسلام والوثنية
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 02 - 1945



صراع من أجل تقديس المبادئ دون الأشخاص

للدكتور محمد البهي

الوثنية عبادة المحسوس المشخص، وعبادته تنطوي على تعدد المعبود أيضاً، لأن المشخص بحكم تشخصه محلى يحدده زمانه ومكانه. والأمكنة مختلفة والأزمنة متتابعة، ولهذا كانت آلهة الوثنيين متعددة. والجماعات الوثنية وإن اتفقت في عبادة ما في الطبيعة من أنهر وجبال وكواكب وأفلاك وغير ذلك إلا أن معبوداتها مع ذلك كانت مختلفة. لأن ما في طبيعة إقليم لجماعة يختلف بالشخص عما في طبيعة جماعة أخرى.

هاجم الإسلام الوثنية، وهاجم تعدد الآلهة ودعا الإنسان إلى عبادة إله واحد لا يعرف شخصه ولا نحد حقيقته، لأنه فوق الطبيعة وفوق ما فيها من أشخاص وجزئيات محددة. صنع الإسلام ذلك لأنه أراد للإنسان هدفا أسمى مما في عالمه. أراد أن يكون خضوعه وأن تكون طاعته لغير من يجوز عليه التغير والفناء. والمتغير الفاني ليس إلا أشخاص هذا العالم الذي نعيش فيه. أراد له هذا لأن خضوع الإنسان للمتغير الذي يعتوره الفناء معناه التقلب في الانقياد على نحو يجعل الإنسان مضطرباً في التوجيه في حياته، ومضطرباً في الغاية، وأخيراً مضطرباً في دوافع العمل والسلوك. فضلاً عن أن تشخيص المعبود يؤدي إلى تقليل قداسته أو التضييق من تعظيمه. وذلك بتوالي انكشافه وتعرفه. وإذا قلت القداسة وضاق نطاق التعظيم ضعفت الطاعة أيضاً أو تلاشت، وعندئذ لا تصلح القيادة أو لا توجد. ولذا كان غير المحدد هو وحده محل تعظيم الإنسان ومحل خشيته، وبالتالي إذا عبد نال من التقديس والطاعة بقدر خفائه وعدم الوقوف عليه من الإنسان

الوثنية وتعدد المعبود إذا متلازمان. والوثنية وتشخيص المعبود أيضاً وتشخصه، إلى عبادة إله وراء ما اتخذته من آلهة في الأرض أو السماء غير مشخص وغير محدد وقد تلقبه برب الأرباب أو بخالق السموات والأرض. وهي إن أفضت إلى هذا عدت شركاً لأنها أشركت مع الإله الذي يجب أن يعبد وحده، وهو الإله الطبيعي، آلهة أخرى تعد في ملكوته وتصرفاته؛ أشركت مع الإله الذي لا يحد ولا تدرك حقيقته آلهة أخرى محددة مشخصة.

فمهاجمة الإسلام للوثنية ومهاجمته للشرك، ومهاجمته لأهل الكتاب الذين حرفوا الك مواضعه وقالوا إن الله ثالث ثلاثة وأشركوا مع الإله الطبيعي إلهين آخرين مشخصين هما عيسى ومريم؛ ومهاجمته هذه كانت لأجل أن يرفع الإنسان من عبادة الشخص المحدد المتغير الفاني إلى ما وراء ذلك مما له الدوام والاستقرار. وإذا كان له الدوام والاستقرار كان حتماً له الكمال لأنه يعلو عندئذ الأحداث وتقلباتها، أو لأنه لا يخضع لها كما يخضع المتغير. والخضوع في ذاته نقص، والاستقلال والاستغناء في ذاته كمال.

وإذا كان المعبود كاملاُ، وإذا كان دائم الكمال، شرف الإنسان بالخضوع له، لأنه أعلى قيمة منه. وبقيت كذلك وجهته في الحياة ثابتة لا نبدل فيها وهي وجهة الكمال المطلق

وكفاح الإسلام ضد عبادة الأشخاص أو الذوات المشخصة قصد به إذا إشعار الإنسان بكرامته وبقيمة ذاتية له لأنه جعل خضوعه فحسب لمميَّز عنه وعما في الكون كله، كما قصد به توجيهه في حياته إلى هدف باق هو الكمال الذي لا يتغير أو الخير الذي لا يتبدل. والصراع إذا بين الإسلام والوثنية أيضاً صراع من أجل تقديس المبادئ دون الأشخاص. إذ ليست المبادئ إلا المعاني العامة، ولعمومها هي باقية في كل مكان وزمان لا تخضع للتغير والتقلب.

وفي طي مكافحة الإسلام للوثنية مكافحته انقياد الفرد لفرد آخر لذاته دون رعاية لما يحمله من مبادئ أو فكر مثالية. وكان انقياد المسلمين للرسول لا لأنه محمد بن عبد الله، بل لأنه رسول الله، أي لما يحمله من رسالة ربه وليس لذاته كفرد من الأفراد (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله). وكذلك كان انقياد المؤمنين حقاً لرسلهم. ولهذا لم يكن من المنطق في شيء أن يدعو الرسول لعبادة نفسه من دون الله أو مع الله، لأن الدعاء لعبادة نفسه على العموم يتناقض مع دعوى الرسالة التي تنطوي على أن قيمة الرسول في صلته بالله. (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون. ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)

وما عاب الإسلام على أهل الكتاب من المسيحيين تأليه عيسى وإشراكهم له مع الله في معنى الألوهية إلا لأن في تأليه عيسى معنى التبعية للشخص دون المبدأ. والذي دعاهم إليه ليس إلا التجاوز بالعبادة من الشخص إلى ما هو أسمى منه وهو الباقي الذي لا يتغير ولا يفنى. وبهذا إذا استمعوا لدعائه، التقوا مع المسلمين في هدف واحد. (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. .)، (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها خيراً لكم إنما اله إله واحد. . .).

وما الاستمرار الذي طلبه القرآن من المسلمين في الدعوى إلى الخير بقوله: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. . .) إلا وسيلة للمحافظة على فصل الإنسانية بين المبدأ والشخص كما طلب الإسلام، وإلا خشية من أن يؤول الأمر، إذا أهمل المسلمون إلهاب شعور الفصل هذا عند الإنسان، إلى الوثنية في صورةٍ ما، وهي الانقياد للمشخص لأمر آخر غير المعاني العامة الثابتة التي مرد جميعها إلى الخير المطلق والكمال الدائم. ومن السهل، إذا لم تستمر الدعوة لما وضعه الإسلام من هدف، أن ينجذب الإنسان إلى الانقياد للمشخص لأن التشخص ناحية مادية، والمادة أرجح كفة ما وراءها في نظرة الإنسان الأولى.

والأديان السماوية كلها، وفي مقدمتها الإسلام، متفقة على توجيه الإنسان نحو المبدأ دون الشخص، أو متفقة على أن تكون عبادة الإنسان لما هو وراء المادة، وما وراءها هو غير المتغير. ولعدم تغيره كان وحده إذا قورن بالمادة كاملاً. وتعدد الأديان لا يقتضي اختلافها في هذا التوجيه، بل لأن الإنسانية لم تحرص في فترات متفاوتة عليه. ولذا كان لابد من تجديد إيقاظ هذا التوجيه عندها. والدين اللاحق إذا هو بمثابة تجديد لدعوة الدين السابق. وإن وجد اختلاف جوهري بينها فمنشؤه إذا رجال الدين أنفسهم لأنهم بإصرارهم على إفهامهم في الدين وقد تكون بعيدة عن هدفه العام وبمرور الزمن على هذا الإصرار يختلط ما أصروا عينه بما للدين في الأصل إذا نقل عنه. وتحريف الكلم عن مواضعه الذي ينسب إلى رجال أي دين من الأديان منه هذه الإفهام البعيدة التي أصروا على أنها لدين. (إن الذين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم. . .).

وليس الإلمام بمعارف الإسلام أو أداء رسومه الظاهرة هو عنوان سيطرة الإسلام على الفرد أو الجماعة أو على نسبة الفرد أو الجماعة إليه، بل عنوان ذلك وحده هو الفصل على نحو ما ذكرنا بين الانقياد إلى الشخص أو إلى المبدأ. كما أن هذا الفصل نفسه عنوان رقي الفرد أو الجامعة لأنه ينطوي على شعور الفرد أو الجامعة بالكرامة أو بالقيمة الذاتية وعلى ما يسمى بالسمو الروحي أو النفسي، كما أن العكس وهو رواج الانقياد للشخص أكثر من الانقياد للمبدأ دليل على عدم سيطرة الدين وبالتالي على عدم نضوج الفرد أو الجامعة.

ويخطئ إذا من يفرق بين الدين وضروب الثقافات الإنسانية الأخرى في توجيه الإنسان، فيجعل الدين منزلة ثانية، لأن هذه الضروب من الثقافة إن كانت موصولة لرقي الفرد والجماعة؛ موصولة لتهذيب الإنسان وإشعاره بكرامته وموصلة لتحقيق معنى الصالح العام في الجماعة التقت مع الدين في هذا الغرض وامتاز الدين عنها يتجرده المطلق عن التحيز لجماعة إنسانية دون جماعة أخرى. وعلامة الصالح العام في الجماعة تقدير المبادئ العامة التي لا تخضع للتغير والتي تتسلسل جميعها في النهاية إلى مبدأ أعلى للوجود كله وهو الله.

ولأن الدين، وبالأخص الإسلام، له هذه المنزلة لا نكون مغالين إذا حكمنا بأن خلو التوجيه منه في الجماعة نقصٌ في التوجيه نفسه، لأن الثقافة الإنسانية التي تستخدم في التوجيه عندئذ مهما أكدت معنى المبادئ والمثل العليا فإضافتها للإنسان توحي تشككاً في أبدية ما فيها من مبادئ ومثل، أو يؤول أمر نسبتها للإنسان إلى تقديس الإنسان دون اعتبار حمله هذه المبادئ.

ولا نبعد عن الصواب كثيراً إذا حكمنا على بعض علماء الدين بأنهم لم يفهموا الإسلام إذا جعلوا من قوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) ثلاثة أنواع من الطاعة، لأن الهدف الأخير للإسلام وهو طاعة الله وحده ممثلاً في الرسول باعتبار كونه حاملاً لرسالته، وفي أولي الأمر باعتبار كونهم قوّامين على تنفيذ ما ورد في هذه الرسالة في الجماعة الإنسانية. وفي هذا قوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) والحديث الشريف: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله).

ولا نبعد أيضاً عن الصواب كثيراً إذا ذكرنا أن الوثنية التي حاربها ويحاربها الإسلام ليست هي وثنية العرب التي كانت قائمة على تقديس الأصنام وبعض الكواكب فحسب، بل هي وثنية الإنسانية على العموم، وهي تقديس المشخص دون رعاية للمبدأ والمثال. وهي لا تزول من هذا الوجود ما دام للإنسان ناحية مادية وأخرى روحية، وما دام للوجود كله أيضاً جانبان: جانب ظاهري هو الجانب المادي، وآخر مستتر وهو الجانب المثالي أو المعنوي، وما دام انجذابه إلى الجانب الآخر. ولسهولة انجذابه إلى الجانب المادي كان هو في حاجة على الدوام في الكفاح ضد هذه الوثنية أو كانت الإنسانية كلها - إذا ابتغت الرقي - في حاجة أبداً إلى دين سماوي هو الإسلام. لأن الإسلام آخر مظهر للأديان السماوية على طبيعتها صانه الرشد الإنساني في التدوين والرواية عن أن يختلط ببعض الإفهام المنحرفة فيه. فكلمة لم يحرف عن مواضعه كما حرفت الديانات السابقة عليه. إذا الإنسانية وقتئذ أي وقت تحريف هذه الديانات لم تملك الشجاعة الكافية في كتابة التاريخ حراً دون التأثر برأي رجال الدين ودون رعاية لسلطانهم، فكان الدين المؤرَّخ هو رأي رجاله وكان رأي رجاله هو التعبير عن الدين.

وإذا كانت الإنسانية منذ القدم في حاجة إلى معونة الدين في مكافحة الوثنية، وكانت حاجتها هذه قائمة على طبع فيها وهو ميلها النفسي إلى الصفحة الظاهرة من الوجود وهي الصفحة المادية، فالدين إذا ليس لعهد دون آخر. إنما الذي يخلع عليه البلى أو يجعله للماضي فقط هو فهم رجاله وعمل الدعاة باسمة، أو هو غرور الإنسان بالإنسان. إذ منذ قيام العهد الإنساني وهو منذ عصر النهضة الأوربية أخذ الإنسان يؤمن بنفسه ثم بالغ في هذا الإيمان حتى طغى أو حال دون إيمان له نتيجة عملية لشيء آخر في هذا الكون. ومنذ قيام هذا العهد أيضاً كان عمل رجال الدين بعيداً عن مقصد الدين. وبذا كانت فجوة بين الاتجاه الجديد في الحياة الإنسانية وبين تمثيل الدين في رجاله: الاتجاه الجديد في الحياة الإنسانية يؤمن بالقيمة الذاتية للإنسان، ويؤمن بالمساواة بين الأفراد لا عابد ولا معبود بينها، ورجال الدين يعلمهم يصورون الدين منحرفاً عن هذا الاتجاه.

ونفع الجماعة الإنسانية الحاضرة إذا بالدين متوقف إلى حد كبير على حاجة رجال الدين أنفسهم إلى الدين في مكافحة هذا الانحراف؛ متوقف على أن تكون الدعوة باسم الدين إلى الله وحده لا لإنسان آخر غيره مهما عظم ومهما كان له من سلطان. وهكذا أرباب الدعوة قد يحتاجون أنفسهم إلى الدعوة، ولكن على يد من لا ينسبون أنفسهم إليها.

محمد البهي