مجلة الرسالة/العدد 606/القصص

مجلة الرسالة/العدد 606/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 02 - 1945



الجارم البريء

للأستاذ حبيب الزحلاوي

تتمة

لقد انقلبت طفلاً ولا بستني حالة جيدة ليس في وسعي تصويرها. صرت أرعى زوجي الحامل كرعاية الأم رضيعها، واحرص على القرش الواحد كما لو كان ديناراً ذهباً. كنت اصدف عن الصحاب وازور إذ ألقى في منزلي، وددت لو أحتاز خيرات العالم أقدمها هدية لوالدي العزيز. قلت لصاحبي في شيء من الباسطة بغية إقشاع السحب المنتشرة - فوق نفسه، يخيل إلى أن (العامل الخفي) في زوجتك هو الذي جعلك لجوجا وثابا تقدير الأشياء بمقدار التخيل والتصور. وقد لا يؤذيك إذا قلت لك بصراحة الصديق الصادق إن بلوغك (سر المرأة) ابتعث فيك الشهوة عنيفة حادة. اطرق قليلاً وأجاب (الشهوة حيلة إرادة الحياة الكبرى على البقاء) نحن يا صاحبي نخلق الجمال ونعطي المعاني للأشخاص والأشياء. فالمعنى الصحيح لسر المرأة الراحة والطمأنينة. صمت هنيهة ثم أردف (أن رجلاً مثلى مفطور على العناد - والمغالبة والكبرياء لا يرضيه الاستسلام والليونة والركون شأن أكثر الأزواج. . . ثم تابع قوله كانت زوجتي. . . فقاطعت كلامه قائلاً: انتقال من الموضوع بارع ثم تقول. كانت زوجتي، وكانت هذه تدل على فعل ماض، فأومأ أن أتريث وتابع الكلام، كانت زوجتي، أجل كانت زوجتي على شيء عظيم من عزة النفس والكبرياء والمغالبة، وأنا أنا الذي أنميت فيها هذه الصفات وتعهدتها بدراية وحكمة، كان يلذ لي أن تعلو حجتها على حجتي فأرضخ للحق، وان يصدم عنادها عنادي فتنتهي إلى الرضا. ولم يبلغ كبرياؤنا في ظرف من الظروف حد الغرور، بل كنا نخلق الخصومة نوري بها الذهن فنستصبح بومضات الروح منبثقة من ظلمات المجهول، من هذا التناسق والانحاد جعلنا مواد بناء حياتنا الزوجية، وقد استخلصنا من ضروب أنواع الحب في فوضى الحياة خيطاً لنا بمثابة (الهارموني) من نشيد العمر، يرتفع بفرحة الغاية من الوجود الإنساني إلى أسمى مقام، أما خيط حياتي هذا فقد انقطع، أنا الذي قطعته بيدي، أجل يا صاحبي أنا الذي قطعته بيدي. لقد حطمت جرة السمن فاندلقت أحلامي، أنا الراعي الغبي، وانساح أملي في الرمل، أنا الحي الضائع!! نظرت إلى عينيه فإذا بنورهما قد ناص كمصباح نضب زيته، وأجفانهما تكسرت وجمدت فيهما دمعتان، وعندما أخذ يتابع الكلام توهمت - الصوت آتياً من بعيد قال، ذهبت وزوجتي ذات عشية إلى وادي العرايش، وما كدنا نأخذ مكاناً قرب النهر حتى توافد الصحاب، فاتسعت الدائرة، واتسقت صفوف الأقداح وشعشعت النفوس فانطلقت الأسنة. لم تهدأ جلبة السكارى إلا حين ارتفع صوت المغنى يشدو (العتابه) برنين شجي وصوت رخيم تشترك مع معاني العتاب في تطريب النفس - وإثارة ما فيها من حزن وفرح وقد استفاض صدري بإحساس مضطرب إذ سمعت المغنى ينشد (غربوا أحبابي) وشعرت كأن أحبابا تناديني، لقد فاض الدمع من عيني وانهمر، لاشك أنه دمع حنان النفس التي تضطرب فيها الآلام جميعاً!!!، في هذه اللحظة تلاقت نظراتي بنظرات زوجتي، فاعتلج في صدري شوق مفاجئ يدعوني بالحاح إلى العودة إلى أميركا حيث أموالي المتروكة في بلاد الناس، وعندما عدنا إلى البيت سألتني زوجتي متى نسافر إلى أميركا؟ في تلك الساعة عقدت النية على العودة إلى الوطن الثاني، وفي تلك الليلة المشؤومة انتهى كل شيء!!، أجل يا صاحبي في تلك الليلة الملعونة انتهى كل شيء في وجودي وبقيت وحدي كحروف رسالة بليدة بقبضة متصلبة وقال أنت تعرف أبنية زحلة متلاصقة ومنازلها متلاحمة لا يفصلهما من الجيران فاصل، قلت أعرف ذلك، قال: كنت أسكن بيتاً من هذا الطراز القديم لأنه أقرب إلى إحساسي وألصق بذكريات طفولتي، هذا البيت الذي كنت أخاله بقعة اقتطعتها الملائكة من فراديس النعيم قد انقلب بلحظة واحدة إلى قبر في الجحيم تحوطه نيران قلبي وألسنة الناس، قلت: اكتشاف خيانة؟، نظر إلي نظرة استخفاف خلتها تهز مكمن كبريائي فحجلت، واستطرد قائلاً: في هدأة الليل حيث كل شيء هادي إلا عيون السماء، دوي الوادي أو توهمت أنه دوي بصوت استغاثة قريب صادر عن قلب هلوع، الحرامي، الحرامي. . . النجدة. . . النجدة! وتلاه ولولة امرأة مخلوعة اللب وعويل أولاد. . . استيقظت بلا وعي أترنح من الذعر أو من الشجاعة، تناولت مسدسي من تحت الوسادة وهرعت لاقتنص السارق، لم يكن في وسعي ترتيب التصورات المتداعية والخيالات التي تراكمت في ذهني وازدحمت فيه مبلبلة مشوهة، توهمت السارق عميداً من عمداء الجبابرة سلطته قوى مجهولة تتربص بي لتنتزع مني زوجتي أم ولدي، وارث أموالي ومخلد ذكرى. لقد جن جنون أنانيتي وثارت في فطرة، فطرة الإنسان، أو غريزة لبوة بكرية اقتحم وحش ضار عرينها فهبت تدافع عن أشبالها، كنت أروح وأجيء وأتوهم أني أقفز من سطوح إلى سطوح، أدور حول نفسي كاللولب، أنادي السارق بصوت متهدج أجش، اختلط صوتي بعجيج أصوات عشرات الشبان الذين خفوا مسلحين للفتك بالسارق، إن السطو على منزل في رحلة عروس مدن لبنان إنما هو تحد لكرامة أهلها واستهانة بتقاليدهم ونخوتهم، لمحت شخصاً ماثلاً قبالتي فتصورته عملاقاً من الجن ينقض علي، أحسست بالعملاق الجبار يرفع يديه ليسحقني. . . أطلقت رصاصة أو انطلقت من المسدس رصاصة ردد الوادي صداها. أصابت الهدف فسقط الجسم بدون حراك، أيقظني الانتصار من غفوة الذهول، فتنبهت إلى نفسي وادا أرى حولي طائفة من الجيران أقبلت على صوت الطلق الناري، سمعت صراخاً وعويلاً وحسرات فيها كل معاني الألم والحزن والشفقة. . . أشعلت الأنوار، تجمع الناس، تبينت الوجوه، فإذا بالعيون - تحدجني بنظرات أسى وحيرة ملتاعة مضطربة، دهمنا الجند فإذا بهم يطبقون على القاتل يجردونه من سلاحه وقد دل الجيران عليه. يا للأجناد الأجلاف! بالرجال التحقيق ما أطيب قلوبكم لقد منوا علي - تكرماً منهم بإطلاق حريتي ريثما أرافق زوجتي فأواريه التراب؟!!!، ويلاه لقد جمد جسمي في تلك الساعات وتلبد شعوري وراغت نظراتي، كنت اعتصر عيني، استجدي قلبي قطرة من دمه، ولساني كلمة واحدة انطلق بها، كنت أرى جثمان (يمني) مسجًي في النعش على رأسها أزهار الليمون الذي زانته بها يوم اكليلنا وقد غطى الود ثوبها الأبيض الغارق بالدم، وكنت كقمة الحبل الشاهق جموداً وبرودة. وهأنذا أحس بالوقائع ماثلة أمامي أصورها لك وفق الرؤى والشعور، أحسست الأرض تدور بي والآلام تنساب في نفسي تنهب وتنوش أعصابي. أما محدثي فقد اعتدل في جلسته واشتدت نبرات صوته وقال: من السخرية الاستعانة بالعدل الإلهي واحترام شرائع الناس؟!! أليس رعونة أن تبرأ ساحة القاتل ويطلق من عقاله ولما يجف دم المقتول بعد؟ أليس ظلماً أن تعاد إلى حريتي أنا القاتل الأثيم؟ أين القصاص من حياة؟ أمن العدل أم من الظلم أن أجوب الأرض، أتسكع في الشوارع، أطوف حول الذكريات أتلمس آثار الحياة وأنا ميت القلب والروح؟؟ اسمع يا صاحبي ليس العدل والشرائع والقوانين والأديان نفسها تستطيع أن تشفى أدواء الناس، إنما الذي يستطيعها هو الضمير،. وسأنفذ أحكامه التي أرتضيها لنفسي حاكماً محكوماً. استلمنا كلانا للصمت: توهمت صاحبي المسكين لا يواصل رحلته إلى أميركا بل يترك الباخرة عند أول ميناء يتطوع للحرب حتى الموت ولكن سرعان ما استلمح هذا الخاطر يتوارى في طيات كلامي حتى قال لي ضاحكاً: أتحسب الموت يقضي على الموت؟ قلت لا أفهم ماذا تعني. قال: ولا أنا أيضاً أفهم كيف أقضي بيدي على حياة ألقيتها في غيابات العدم، بل أفهم أني سأبقى في فراغ يتساوى والعدم، وسأستمهل الموت حتى القي في كل ساعة ميتة تكفر عن جنايتي، طفرت دمعة كبيرة من عيني المسكين فتلقاها بمنديله، وعندما هم - بالنهوض تخاذل وخانته قواه، تأبطت ذراعه وأسندته على كتفي حتى بلغ غرفته في الباخرة، وإذ كنت عائداً لقيت الطلعة من الأميركان وقد تهيبوا سؤالي وانصرفوا بتتبع بعضهم بعضاً.

حبيب الزحلاوي