مجلة الرسالة/العدد 609/أبو العلاء المعري

مجلة الرسالة/العدد 609/أبو العلاء المعري

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 03 - 1945


التفاؤل والأتربة عند الشيخ

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 1 -

الإيثارية ?

وافعل بغيرك ما تهواه يفعله ... وأسمعِ الناس ما تختار مَسمعه

هذا البيت يشمل الأثرية والإيثارية معاً.

ولحكماء الإغريق قبل التأريخ الميلادي بخمس مائة سنة وفي الإنجيل ولحكيم الصين ما يشبه قول الشيخ. وروي البخاري في جامعه: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وروى ابن سعد في (الطبقات): (قال رسول الله ليزيد بن أسد: يا يزيدَ بنَ أسد، احبَّ للناس الذي تحب لنفسك) والأثر الكريم - كما ترى - هو أثرى وإيثاري. وروى البحتري في حماسته لعبد الله بن معاوية الجعفري:

ارض للناس ما رضيت من الناس (م) ... وإلا فقد ظلمت وجرتا

ولأبي العتاهية:

ولا خير فيمن ظل يبغي لنفسه ... من الخير ما لا يبتغى لأخيه

وقال عبد الله ابن المقفع:

(أعدلُ السير أن تقيس الناس بنفسك فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك).

وروى السبكي في (طبقات الشافعة) لأبى سليمان الخطابي:

ارض للناس جميعاً ... مثل ما ترضى لنفسك

إنما الناس جميعاً ... كلهم أبناء جنسك

فلهم نفس كنفسك ... ولهم حس كحسك

وفي (كامل) المبَّرد هذا القول: (خير الناس للناس خيرهم لنفسه)، قال أبو العباس: (وذلك أنه إذا كان كذلك اتقى على نفسه من الشرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، فسلم الناس منه باتقائه على نفسه).

ولما دعا الإمام الأستاذ أرنست هيكل إلى تلك النحلة الطبيعية الوحَدية اتخذ تلك الحكمة دعامة آدابها.

ولو أني حُبيت الخلد فردا ... لما أحببت بالخلد انفرادا

فلا هطلت علىّ ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا

فيا وطني، أن فاتني بك سابق ... من الدهر فلينعم لساكنك البال

وما سرني أني أصبت معاشراً ... بظلم وأني في النعيم مخلد

فانفع أخاك على ضعف تحس به ... إن النسيم ينفع الروح هباب

كيف لا يشرك المضيقين في النعمة قوم عليهم النعماء

انجد أخاك على خيريهم به ... فالمؤمنون لدى الخيرات أنجاد

فجد بعرف ولو بالنزر محتسباً ... إن القناطير تحوي بالقراريط

فدار خصمك إن حق أنار له ... ولا تنازع بتمويه وإجلاب

إذا ما تبنيا الأمور تكشفت ... لنا وأمير القوم للقوم خادم

لا يتركن قليل الخير يفعله ... من نال في الأرض تأييدا وتمكينا

أضئ بالمعروف وأتلق، وأطلق يمناك فغدا تنطلق.

انظر بين يديك، واجعل الشر تحت قدميك، وإذا دعا السائل فقل لبيك، وإذا ألجأ عدوك الدهر إليك فانس حقودك الغَبِرات

أطعمْ سائلك أطيب طعاميك، واكس العاري أجد ثوبيك، وامسح دموع الباكية بأرفق كفيك.

الرجل كل الرجل من آتى الزكاة، ورحم المسكين، وتبرع بما لا يجب عليه، وكره الحنث، وكفر عن اليمين.

لتكن سماؤك ثرة، وثرى أرضك قريبا، فنعم الشيء الثراء لمن كسا العاري وأطعم السغبان.

ذُرّت البركة في طعام أكل منه الضعيف، ونزعت البركة من طعام خص به الغني دون الفقير، والله مطعم المطعمين. وزرُّ حرام يوقع المحقة في قميص انتسج من حل، وقطرة الدم تقع في المزادة فلا يحل منها الطهور.

أرَّ نارك لطارقك، ولا تؤرها لإحراق الجار، والله جار من لا جار له من المستضعفين. وبرٌّ في قلبك خير بُرَة في يدك فاتق الله، وكن مع الأبرار الطاهرين.

قُد نَفسك إلى الواجب ولو بجرير، وكِد معاديك بأن تجتنب أفعال الكائدين، ودل السائل لتكون نعم الدليل، ودم على ما قربك من الأبرار الطيبين، ودِن من فعل خيراً معك فإنك مدين.

يا بغاة الآثام، وولاة أمور الأنام، مرتعُ الجور وخيم، وغبه ليس بحميد، والتواضع أحس رداء، والكبر ذريعة المقت، والمفاخرة شر الكلام. كلنا عبيد الله.

من بخل بطعام فقد بخل بقليل الأنعام.

بعدت رائجة قُتار، تظهر تارة بعد تار، ثم لا ينال خيرها الفقير.

النفاق يلبسك ثوب الإشفاق، والافتقاد يذهب الأحقاد. والأشر يهلك البشر، لا كتبنا الله مع الأشرين!

ماروا قُطُر ورائحة حبيب عطر بأطيب من ثناء مستطر يثنى به بَرّ على مُبر.

تلكم طائفة من أقوال الشيخ، وفيها التفاؤل كله في الحياة، وفيها الأثرية - كما أن فيها الإيثارية - وكان شيخنا (يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل) كما روى الصفدي في (نَكْت الهميان)

وكان خفيف الروح يَدْعب ويُفاكه، ومن فكاهته في إحدى رسائله إلى أبي الحسين أحمد بن عثمان النكتي البصري وقد غير هذا اسمه، وقصر كنيته - هذه النبذة:

(. . . وأهل البصرة (سلمهم الله) ينسبون إلى قلة الحنين، أليس قد مرت به هذه الحكاية وهي أنه وُجد على حجر مكتوب:

مَا من غريب وإن أبدى تجلّده ... إلا سيذكر عند العلة الوطنا

فكتب تحته إلا أهل البصرة. فإذا كانت تلك سجيتهم مع أهلهم وأوطانهم، فكيف بالذين عرفوهم من إخوانهم، والدليل ما قلت أنه - أدام الله عزه - لم يُثبت اسمى، جعلني محمداً واسمي أحمد. . . وله أن يقول إنه تشبث بالكنية فاستغنى بها عن الاسم. فأما أنا فحفظت اسمه وكنيته ونسبه، ولم أنس أيامه ولا مذاكرته، وقد جعلت كتابه نائبا مناب الاجتماع معه. . .

وما عبت على أهل البصرة قلة التفاتهم إلى الأوطان وإنما وصفتهم بقوة القلوب والأكباد لأن العرب تصف نفوسها بذلك، أليس قد بلغه قول قتاد بن مسلمة الحنفي: يبكي علينا ولا نبكي على أحد ... لنحن أغلظ أكباداً من الإبل

فكيف استجاز أن يقصر كنية صديقه؛ أما السمة فغيرها، وأما الكنية فقصرها، فإنا الله وإنا إليه راجعون! هذا أمر من الله، ليس هو من ضعف الشاعر ولا وهن القائل ولكنه من سوء الحظ لمن خوطب والاتفاق الردئ لمن سُمى وذكر. . . وإنما تغوثت من ذلك لأني قصير الهمة، قصير اليد، مقصور الظر، أي مكفوف، مقصور في البيت أي لازم له، فكأني محبوس فيه. فما كفاني ذلك مع قصر الجسم حتى يضاف إليه قصر الاسم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لو كنت أطول من ظل الرمح لصرت أقصر من سالفة الذباب، قد كدت أمْصَحُ في الأرض كما تمصح الظلال. . . وقد مدحني بما ليس فّي، ولكنه في ذلك على مذهب الخطباء والشعراء، وزعم صاحب المنطق في كتابه الثاني من الكتب الأربعة أن الكذب ليس بقبيح في صناعة الشعر والخطابة، لذلك آستجازت العرب أن تقول فتفرط. . .)

وما (رسالة الغفران) العبقرية إلا كتاب أماليح وأفاكيه وأهاكيم

وكان الشيخ كلفاً بالحمد والمجد (والثناء على الرجل أحس الملبوسات) (وغير ملوم من عشق الثناء لأنه أحسن حبيب مزور وأبقى نُفِس مذخور) وقد أعلن ذلك ابن القارح في رسالته المشهورة إلى أبى العلاء:

(. . . ويعلم الله الكريم (تقدست أسماؤه) أني لو حننت إليه (أدام الله تأييده) حنين الواله إلى بكرها، أو الحمامة إلى إلفها، أو الغزالة إلى خشفها - لكان ذلك مما تغيره الليالي والأيام والعصور والأعوام، لكنه حنين الظمآن إلى الماء، والخائف إلى الأمن، والسليم إلى السلامة، والغريق إلى النجاة، والقِلق إلى السكون، بل حنين نفسه إلى الحمد والمجد، فإني رأيت نزاعها إليهما نزاع الاسطقسات إلى عناصرها، والأركان إلى جواهرها. . .)

وإذا أقام أبو العلاء في عرينه مضرباً فيه، فقد كان مطلا على الدنيا - وإن خيل أنه تخلى منها - وما كان أخا زهد فيها، لا فكر له في شيء. وكانت شؤون أمته تعنيه أيما عناية، والمتشائم لاتهمه حالة، ولا يبالي بأمر بالة. كتب إلي أبى الحسن ابن سنان، وقد أوذم على نفسه الحج، والعدو يزأر في الثغور:

(. . . وسفُر مولاي إلى الحج في هذه السنة حرام بَسْل. . . وهل سمع في أخبار الصحابة (رحمهم الله) أو التابعين أن رجلا خرج من مُصافة العدو يريد بيت الله الحرام. . . وهو (أدام الله تمكينه) أمين من أمناء المسلمين، يُرهف الشوكة، ويستجيد اللأمة، ويحصن ما وهي من سور. . . البيت العتيق منذ عهد آدم يُزار ويحج، ما خيف عليه انتقال ولا تحول، ولا غيره عن العهد مغير. . . أما يعلم أن لأهل البلد أُنساً برؤية شخصه واستماع قوله. وما ينبغي أن يكون كما قيل في المثل (لجَّ فحجَّ) ولو قال وليد لوليد في ليل داج وهو محادث محاج: من يؤجره في مقامه في الديار أضعاف أجره في حج واعتمار؟ فقال الوليد الآخر: (محمد بن سعيد) لوقع سهمه غير بعيد. وحماية الذمار أولى من حج واعتمار. . .).

ولما صبأ الفتى طارق (خلده الله في جهنم)

وفارق دين الوالدين بزائل ... ولولا ضلال بالفتى لم يفارق

أرسلها (لزومية) صاعقة مجلجة أحرقت ذاك المضلل. وهذه اللزومية - وهي واحد وعشرون بيتاً - توضح فرط عنايته بأمته واستمساكه بنحلته، وتنبئ بأنه كان يداخل القوم في أحوالهم وإن كان جليس نفسه

اقرأ كلامي إذا ضم الثرى جسدي ... فإنه لك ممن قاله - خلف

محمد إسعاف النشاشيبي