مجلة الرسالة/العدد 609/في معرة أبى العلاء

مجلة الرسالة/العدد 609/في معرة أبى العلاء

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 03 - 1945



للدكتور عبد الوهاب عزام

وشارفنا حمص والساعة واحدة إلا دقائق، وطالعتنا بعمرانها وسط زروعها وجناتها، ثم دفعت بنا السيارات إليها واخترقتها غير معرّجة، وبودّنا أن نعرج عليها قليلا. وعزاّنا عما فاتنا من منى العين والقلب أنا عائدون إليها بعد أيام فنازلون بها. وجاوزنا حمص إلى سهل واسع محمر التربة تكسو الخضرة آكامه وجباله. وما زلنا نضرب في الأرض صوب الشمال حتى عبرنا العاصي عند قرية عليه ورأينا أولى نواعيره والساعة واحدة وخمس وعشرون دقيقة. وأشرفنا على حماة والساعة اثنتان، فقضينا بدخولها وطراً قديما، فقد مررت بها ثلاث مرات ولم يتيسر دخولها، فأنشدت قول امرئ القيس:

تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية رحنا من حماة وشيزرا

فاليوم أسعد برؤية حماة بين بساتينها ونواعيرها وهي أكبر نواعير الشام. ولاسيما هذه الناعورة العالية الرائعة التي لا يقل قطرها عن عشرين متراً فيما حزرت. ويقال إنها كانت في مكانها من حماة أيام المأمون العباسي.

نزلنا في المدينة فاستقبلنا حكامها وأعيانها ورجال التعليم فيها في (دار العلم والتربية) وهي بناء قديم جميل فيه من فن العمارة والنقش روائع. دخلنا ساحة فيها حوض كبير في وسطه صورة سبع يتدفق الماء من فمه، وفي جانبه شجرة كبيرة جميلة ترى خضرتها ونضرتها في صفحة الماء. وصعدنا إلى طبقة فيها باحة يتوسطها حوض آخر وعليها عقود جميلة وراءها قاعة من آثار الفن العربي الإسلامي. يستقبل داخلها خرير الماء في حوض صغير توسوس فوقه نافورة جميلة رخامية فيها أنابيب كثيرة تقذف الماء فتخرجه أغصانا متشابكة من البلور، وعلى سقف القاعة وجدرها من النقش والألوان ما يشغل النظر والفكر، وكتب عليها آيات وأحاديث وأبيات من الشعر. ومن المرائي العظيمة الجميلة المصورة على جدرها صورة مدينة حلب وقلعتها، وصورة القرن الذهبي في استانبول.

بنى هذه القاعة أسعد باشا العظم عام 1153هـ، وجود نقشها نصوح باشا العظم عام 1194هـ.

وصارت مدرسة منذ خمسة وعشرين عاما وهي اليوم دار العلم والتربية. لبثنا بهذه الق الجميلة ريثما سمعنا ترحيب المدينة وتحدثنا إلى إخواننا في فرح الأمل وبسمة الظافر. ثم خرجنا إلى فندق البلدية حيث أعد الغداء. وأهل المدينة في الطريق والشرفات يصفقون ويحيون بلاد العرب.

وقد رحب بنا رئيس البلدية هناك.

ولم يسعني الصمت في حماة وفي هذه الذكرى بين هذا الجمع، فألقيت كلمة أتذكر منها هذه الفقرات:

أرجو أن يعذرني إخواني إن تكلمت وفي صوتي أثر المرض، كأن دمشق الحبيبة، دمشق التي أحببناها وأخلصنا في حبها، فعل بنا هواؤها ما فعل، (وقد يؤذي من المقة الحبيب). وإني أقول مغيرأ قول كثير:

هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لجلّق من أجسادنا ما استحلّت

أيها الإخوان: إن الأمم لا تستيقظ في جانب وتنام في جانب، ولا تنهض في ناحية وتقعد في أخرى، إذا استيقظت استيقظ كل شيء فيها، وإذا نهضت نهضت كلها، فليس محض اتفاق أن اجتمعت وفود البلاد العربية على ذكرى أبى العلاء المعري في الشام حين اجتمعت وفودها في الإسكندرية لتخط للجامعة العربية خطتها، إن الأمم إذا عزمت وأجمعت أمرها لم يقفها شيء دون الغاية. ثم ذكرت اغتباطي بدخول حماة بعد طول اشتياق إلى دخولها. وحييت أهل حماة وأهل الشام جميعا، وقلت: إني أعني الشام الذي عرَّفني إياه التاريخ، لا أعرف هذه الأسماء الجديدة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

وكان بجانبي الأستاذ الصديق عارف النكدي، فطال تصفيقه لهذه الفقرة.

فصلنا من حماة والساعة ثلاث ونصف نؤم المعرة.

أشرفنا على المعرة أصيل اليوم بعد مسير نصف ساعة من حماة فرأينا سهلا خصباً كثير الزروع والأشجار فخفقت القلوب لذكرى شاعرنا الفيلسوف، وابتسمت الشفاه لمعاودة مدينة أبى العلاء، وكنا زرناها قبل خمسة عشر عاماً، واستقبلنا في مدخل البلد شارع فسيح طويل لم نره في زيارتنا الأولى. وعرفنا أنه فتح في السنين الأخيرة، ودُعينا إلى الاستراحة في دار حديثة جميلة من دور آل الحراكي، ثم خرجنا نؤم مقصدنا، ضريح رهن المحبسين ولست أنسى مسيرنا بين صفوف متراصة من أهل البلد، ودور ازدحمت منافذها وشرفاتها بالمشرفين على مهرجان أبى العلاء، وقد مال بالشمس الأصيل فغضَّت أشعتها من أبصارنا كأنما يغض منها جلال الشيخ الفيلسوف

ذكرت حينئذ مكانة الشيخ من أهل بلده، إذ كان حدباً عليهم براً بهم، إذ كانوا يفزعون إليه في الشدائد، وتمثلت صالح بن مرداس ينزل بساحتهم يريد الإيقاع بهم، فيفزعون إلى شيخهم وقد لزم محبسه وقطع بينه وبين الناس العلائق لو استطاع، ويستنجدونه ليدفع عنهم بأس الأمير الكلابي، ويستشفعون به ليطلق صالح رجالهم، وكان قد اعتقل من أعيانهم سبعين، وأبو العلاء يرم بالفتن المحيطة، آنس يخلوته، أو قلق بها، يصف الناس، إثمهم ورياءهم وخداعهم، وجنايتهم على أنفسهم وعلى الحيوان يبغي الأمن في داره الصغيرة، ولا يأمن أن تلج عليه آثام الناس، وقد اعتزلهم جهده، وود لو ينقذه الموت من صحبتهم وجوارهم. ولكن أبا العلاء الرحيم لا يملك أن يرد اللاجئين إليه، أو يقعد عن إغاثتهم وهو قادر، فيخرج أبو العلاء كارها إلى الأمير صالح فيقول:

الأمير أطال الله بقاءه كالنهار الماتع قاظ هجيره وطاب براده، والسيف القاطع لان مسه وخشن حدّاه. خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فيقول صالح وقد أخذه مرأى الشيخ الذي سمع بمكانته، وعرف له قدره، قد وهبتهم لك أيها الشيخ. ورجع الشيخ إلى داره وهو فرح بما يسر الله على يده من الفرج، مغموم لما اضطره إلى الخروج من معتزله والمثول بين يدي أمير.

قال:

تغيبت في منزلي برهة ... ستير العيوب فقيد الحسد

فلما مضى العمر إلا الأقل ... وُحمّ لروحي فراق الجسد

بعثت شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد

فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد

فلا يعجبنّي هذا النفاق ... فكم نفّقت محنة ما كسد

ويقول:

نجّىِ المعاشر من براثن صالح ... رب يفرّج كل أمر معضل ما كان لي فيها جناح بعوضة ... والله ألبسهم جناح تفضل

وقد ذكر صالحاً في مواضع أخرى من لزومياته، وقال:

ما لمت في أفعاله صالحاً ... بل خلته أحسن مني ضميره

وما زال أهل المعرة يعظمون شيخهم ب وفاته ويسمّونه (سيدنا أبا العلاء) فهم اليوم يعتزون ببلدهم ويفخرون بشيخهم وقد جاءت وفود الأقطار القريبة والبعيدة تذكره وتعظمه.

سارت الوفود بين الجموع الحاشدة ومعهم أعيان البلد، وزعيمها حكمت بك الحراكي. وقد رأيته - وقد ضغط الناسَ الزحامُ إلى طريق الوفود - يُسرع مشفقاً على ضيوفه يرد الناس بأمره وذراعيه. مبالغة في الاحتياط لضيوفه. ونحن في جذل وفي هيبة مما نرى ونسمع. أبصارنا تتخلل هذا الزحام، وتستشرف إلى الضريح المقصود وقلوبنا بين ذكرى الشيخ، وبين حفاوة أهل المعرة به وبوفوده. اقترب مني حينئذ الأستاذ الأديب خليل مردم بك وقد أعجبه احتشاد المعّريّين، وفرح الولدان ومرحهم، وراعه هذا الموكب السائر لتحية الفيلسوف الحزين فقال: هذا مهرجان المعري) قلت: صدقت، إن هذا لهو مهرجان المعري.

وانتهينا إلى بناء جديد ولجنا أحد أبوابه إلى ساحة فيها زرع وزهر. فملنا ذات اليمين والجنوب إلى القبر الرهيب، يجثم عليه هذا الجندل العتيق، وكنا رأيناه من قبل وقرأنا عليه اسم المقبور بخط كوفّي، وقال أحد أصحابي حينذاك: إن له هيبة الأسد الرابض. وفوق القبر عقد من الحجر لا تكلف فيه ولا تأنق، فهو يساير زهد أبى العلاء لو رضي زهدهُ أن يشاد على قبره بناء.

ألم يقل في لزومياته:

فدًى لنفسك نفسي آِونى جدثا ... من الخَفيّات لا قَصرا ولا فَدَنا

قد تمنى الرجل ألا يزار قبره ولا يعرف:

ولي منزل في الثرى ما يُزار ... ولو رامه زائر ما عرف

فهل يرضيه أن يكون قبره معروفاً مَزورا تحج إليه الوفود؟

وقد ود أن يكون جدثه في معزل عن أجداث الناس كما بعد هو في حياته عنهم:

يا جدثي حسبك من رتبة ... أنك من أجداثهم معزلا

وقد دفن في معزل من الناس إلا بعض قرابة، ولكني احسبه لا يكفيه هذا الاعتزال وهو في المدينة بين الدور. كان بوده أن يدفن في مهمة بعيداً عن الأحياء والموتى:

وددت وفاتي في مهمة ... به لامع ليس بالمُعَلم

أموت به واحدا مفردا ... وأدفن في الأرض لم تظلم

وأبعد عن قائل: لا سلمت ... وآخر قال: ألا يا اسِلم

أحّاذر أن تجعلوا مضجعي ... إلى كافر حان أو مسلم

إذا قال ضايقتني في المحل ... قلت: أساءوا ولم أعلم

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام