مجلة الرسالة/العدد 61/اليابان تلقي على الشرق درسا
مجلة الرسالة/العدد 61/اليابان تلقي على الشرق درسا
ً
للأستاذ محمد مختار المحامي
جاء في الصحف اليومية منذ عهد قريب أن مصانع اليابان أخرجت سيارات زهيدة الثمن في طاقة كل شخص أن يقتنيها وهي تريد أن تغمر بها أسواق العالم، وقد كان لهذا الخبر رجة عنيفة في جميع الدول، فقد أوقعها في حيرة شديدة إزاء هذا التيار الجارف الصادر من أقصى الشرق.
منذ نصف قرن تقريباً استيقظت اليابان من أحلامها، وبخطوات العمالقة اقتحمت الهوة التي تفصلها عن الحضارة الغربية الحديثة فتركت وراءها قروناً غطت فيها في سبات عميق، ورفعت الحجاب عن أعين الشرق ونبهته إلى الحقيقة التي غابت عنه، وأظهرته على باطل ما يلقي إليه المستعمرون من أن الشرق يعيش في الماضي، وأن من المحال إحياءه وجعله يسير في طريق التقدم لأن وجهه دائماً إلى الخلف، وقد قبلنا هذا الاتهام وآمنا به، وفعل فينا فعل التنويم المغناطيسي إلى أن أتت اليابان ففكت طلاسم هذا السحر، وكنا قد نسينا أن نشأة الفلسفة والعلم والآداب وكل أديان العالم لم تكن إلا في الشرق، فكيف تتهم أراضيه بالعقم وعقوله بالخمود، وهي التي قد حملت مشاعل الحضارة وقت أن كان الغرب يتخبط في الظلام؟
لقد دهش العالم أيما دهشة حين حطمت اليابان الحواجز التي كانت تحجزها عن العالم بين يوم وليلة، ثم خرجت منتصرة أيما انتصار، فقد فعلت ذلك في وقت قصير كالوقت الذي تغير فيه الثياب، لا الوقت الذي توضع فيه أسس حضارة جديدة، وقد أظهرت أصدق مظاهر قوة الخصب والقدرة على العيش في هذه الحياة الجديدة، فقيل إن هذا الانقلاب ليس إلا مسخة من مسخ التاريخ، أو فقاعة كفقاقيع الصابون كاملة في استدارتها ولونها، جوفاء في قلبها ومادتها. ولكن اليابان أثبتت أن تطورها لم يكن لحظة دهشة قصيرة، أو فرصة من فرص مد الزمن وجزره.
الحقيقة أن اليابان قديمة وحديثة في آن واحد، فهي لم تترك تراث الشرق القديم وثقافته التي تدفع الإنسان إلى البحث عن القوة والسعادة الحق في أصل نفسه والتي توحي إليه برباطة الجأش عند مواجهة الخسائر والأخطار، وبالتضحية التي لا تحسب حساباً للك وبتحدي الموت. فاليابان زهرة من أزهار اللوتس تنمو بسهولة ورشاقة محافظة على الأعماق التي منها نمت، ومع ذلك فقد تسلقت اليابان إلى آخر ما وصل إليه الغرب وصارت تعج فيها الحضارة الحديثة بكل مسئولياتها.
إذن الحياة والقوة كائنتان في الشرق، ولكنهما كامنتان تغطيهما قشرة ميتة يجب أن تزول، لأن الاحتماء بالميت موت، واحتمال أخطار الحياة حياة.
ولا يظن أحد أن اليابان قد وصلت إلى ما وصلت إليه بالتقليد، لأننا لا نستطيع تقليد الحياة والقوة لأمد طويل، بل إن التقليد مصدر من مصادر الضعف، فهو يعوق طبيعة الأمة الحقيقية، لأنه كالباس هيكل عظمي لإنسان ما، إهاب إنسان آخر.
لقد استمدت اليابان غذاءها من الغرب، ولكنها لم تستمد منه حيويتها، بل احتفظت بروحها، وهذه هي المعجزة التي بهرت أعين العالم، فقد علمت عن حق ويقين أنه لا يمكن قبول المدنية الغربية على علاتها، تلك المدنية التي لم تحل بعد أعظم مشاكل الوجود كالتنازع بين الفرد والدولة، وبين العمل ورأس المال، وبين الرجل والمرأة، والتنازع بين شره الكسب المادي والحياة الروحية للإنسان، وبين أطماع الأمم المنظمة والمثل العليا للإنسانية، تلك المدنية التي تتغنى بالحرية، ثم تأتي بأقسى ضروب العبودية، تلك المدنية التي يفقد الإنسان تحت تأثير سحرها كل ثقة في المثل العليا التي جعلته من قديم الزمن إنساناً.
والحق يقال إن النفس الشرقية بما انطوت عليه من قوة روحية وحب للبساطة واعتراف بالواجبات الاجتماعية عليها أن تحكم العقل الشرقي إذا أرادت أن تشق طريقاً وسط هذه المعمعة الغربية، وعليها ألا تلقي وراء ظهرها تراث الأجيال الماضية كما تلقي الملابس البالية، إذ أن هذا التراث في دمها وفي نخاع عظمها وفي تكوين لحمها، وفي ألياف مخها، وهو يكيف دون أن تشعر ودون أن تريد كل ما تضع عليه يديها بتكييفه الخاص.
ومن تراث الماضي وغذاء الحاضر المستمد من الغرب عليها أن تخرج خلقاً جديداً لا مجرد تكرار، ولتكن لنا من اليابان عبرة
إنّا لنصغي إلى ما يقوله الغربيون من أن مدنية الشرق ليست إلا فلسفة لاهوت، فإن الأصم يرى في اللعب على (البيانو) حركات أصابع مجردة عن نغم الموسيقى، وهم لا يعرفون إننا قد بنينا تقاليدنا على أساس من الحقائق التي تدخل الطمأنينة والسلوة في قلب الإنسان، والتي تجعل وجدانه دائم اليقظة والحياة.
لقد واجهت الشمس المشرقة العالم فكانت الأولى في الشرق في هذا السبيل، ولقد أشعلت الأمل في فؤاد الشرق فحق عليه أن يقدم لها الثناء، ومن يدري فقد يكون هذا بشيراً بأن يعم النور الخالد هذا المكان الذي بزغت فيه شمس الآدمية لأول مرة.
محمد مختار المحامي