مجلة الرسالة/العدد 61/ليلى العفيفة

مجلة الرسالة/العدد 61/ليلى العفيفة

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 09 - 1934



للمرحوم الأستاذ محمد عبد المطلب

. . . لعل أسمى مراتب العظمة الإنسانية في الحياة الدنيا هي تلك الكلمة الصغيرة التي تفني الأجيال وهي باقية، وتتقلب الأزمنة وهي ثابتة، وتخفت الكواكب والأقمار وهي متلألئة متوهجة، والتي اسميها؛ ويسميها الناس معي (. . الخلود. .)!!

نعم. . إن أعظم ما في الحياة الدنيا وأبقى ما فيها من خير هو الخلود من غير شك. . وإذا قلنا إن الخلود هو أمتع ما في الحياة من جمال وروعة، فلأننا نريد أن نقول أيضاً إنه صعب المنال عسر الإدراك. لا يتشرى إلا بأعز ما في النفس البشرية، وأغلى ما فيها. . وهي الحياة. . فمن ضحى بحياته، أو كان على استعداد لتضحيتها في سبيل سعادة غيره ورفاهيته ورفع الظلم عنه نال الخلود لأنه أناله لغيره، أو حاول أن ينيله إياه - إن قصر أجله عن إتمام ذلك -

ومن ضحى بوقته وراحته في سبيل تثقيف الغير وتعليمهم، وتهذيبهم ونشر نور العلم بينهم. لن يفنى وإن فني جسمه، ولن يُنسى وإن اختفى شخصه، ورجع إلى الأرض التي منها نشأ وعليها تربى.

فالحياة والذكرى ليستا وقفاً على الجسوم الحية المتحركة. . وإنما هي رهينة تلك الأعمال الجليلة التي أداها أصحابها، وعلى تلك الخدمات الصادقة التي بذلوا في سبيلها راحتهم وشبابهم، والتي لن تفنى حتى يفني الفناء، ولن تزول حتى تتبدل الأرض غير الأرض والسموات.

فكم من حي لا تعرفه إلا نفسه، وكم من ميت بلى عظمه وفني جسمه، ومع كل فهو يملأ القلوب بحبه، ويملأ الدنيا بذكره واسمه.

ومن هؤلاء الخالدين المرحوم الأستاذ (محمد عبد المطلب) الذي تعرفون عنه أكثر مما أعرف، وتقدرون أعماله الجليلة كما أقدر، وتؤمنون بعبقريته الفذة كما أؤمن، وتعترفون بشاعريته الخصبة السامية كما أعترف، وتفخرون بدرره اللامعة - التي حلى بها جيد العربية - كما أفخر.

لهذا فإني أعتقد أنكم تودون أن تقرءوا له شيئاً لتمتعوا أنفسكم بسحر هذا الشاعر البدو الذي سيدهشكم الآن بأسلوبه الحضري الرقيق، وبتفكيره المصري الذي نعجز عنه ونحن فيه.

وقبل أن أعرض للأستاذ المرحوم شيئاً أود أن أقول: إنه كان من أسبق الشعراء إلى تأليف الروايات، فله في دار الكتب من عشرين سنة مضت روايتا (المهلهل) و (امرئ القيس) وله أيضاً عدة روايات وضعها للمدرسة السعيدية وقت أن كان مدرساً بها:

وكأن المرحوم شعر بحاجة المسرح المصري إلى روايات عربية سليمة التفكير رقيقة التعبير، فوضع له في سنة 1909 رواية (ليلى العفيفة)، ولكن حظ المسرح التعس حال دون ذلك لأن الأستاذ لكثرة أعماله في مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي لم يستطع إتمام القصة، وحاول في أواخر أيامه أن يتمها ولكن الموت القاسي عاجله، فحرمنا من تراث أدبي نافع. على أننا سنعرض الجزء الذي كُتِب من (ليلى العفيفة) بنت لكيز، وهي التي حاربها الزمن على يد أبيها بضع سنوات، فأذاقها مُرّ الحياة وشقاء العيش، وذل الأسر. . . ولكن الله جلت قدرته أنالها سعادتها مضاعفة، ورد عليها فتى قلبها وبطل أحلامها جزاء وفائها وإخلاصها. . .

ولعل القارئ يدهش من هذا ويعجب، إذ كيف يحارب رجل ابنته ويذيقها الألم الممض، ويمنع عنها سعادتها ورفاهيتها. والمعروف أن الآباء يتسابقون إلى جلب السعادة لبناتهن؟!

ولعله لا يدهش ولا يعجب عندما أقول له: حقاً إن الآباء يفعلون هذا وأكثر من هذا، ولكنهم في مسألة واحدة، بل وفي لحظة واحدة يهدمون حياة بناتهن، ويسقونهن كأس الموت مترعة، ويقاومون شعورهن، ويتجاهلون إحساسهن، ويدفعونهن إلى الهاوية باسم المحافظة عليهن. فترى الرجل منهم عندما يعلم أن ابنته تهوى إنساناً وتحبه، وتود من صميمها أن يكون رجلها. تراه في هذه اللحظة قد تنمر وركب رأسه الأخرق، ووقف بينها وبين من تحب رافضاً زواجهما، آبياً جمعهما؛ بل يزوجها ممن يحب هو ويريد، محتجاً بأنه أعرف منها بمصلحتها! فتكون الطامة، وتكون النهاية السوداء في أغلب الأحايين!.

وهذا ما حصل فعلاً مع ليلى بنت لكيز فإنها كانت مخطوبة لابن عمها البراق، وكان الحب يجمعهما برباطه المقدس. فرأى لكيز بعقله الأخرق، وحماقته المجنونة أن يفسد هذه الخطبة، وأن يقبل خطبة عمرو بن ذي صهبان لابنته طمعاً في ماله وشجاعته!. . فأنظر إليه وقد زاره أحد بني كليب لينهاه عما فعل حرصاً على البراق ورحمة بابنته التي تحبه وتهواه:

كليب: ما لأبي ليلى حزيناً مطرقاً؟

لكيز:

أرقني شغل بليلى أرقا ... جمّع من همي ما تفرقا

عمرو بن ذي صهبان لما حققا ... أن لها في الحسن جدا صدقا

وفي المعالي غاية لن تلحقا ... بادر في خطبتها مستبقا

كليب:

رام ابن ذي صهبان صعب المرتقى ... إن سمع البراق أو تحققا

بأن عمراً باب ليلى طرقا ... أرعد كالليث لنا وأبرقا

وطبق الأرض علينا طبقا

لكيز:

ولكن عمراً بالأيادي سبقا ... قلدنا نعماءه وطوقا

يجود كالغيث علينا غدقا ... إذا بنا صرف الليالي أحدقا

كليب:

لكنه ليس من البراق ... أحق بالطاهرة النطاق

نقية الأعراض والأعراق ... وهو فتى الجيش لدى التلاقي

وما لبكر غيره من واق ... إذ تأخذ الخطوب بالخناق

وتلعب الأرواح بالتراقي ... في يوم هول مظلم الآفاق

حتى إذا يئس كليب هدده بقوله:

إياك يا ابن العم أن تجيبا ... فإن فيه اللوم والتأنيبا

وإن ليلى - إن تكن أريبا - ... تأبى سوى ابن عمها خطيبا

وهو وان كان لها حبيباً ... فما أتت نكراً ولا عجيبا

فلا يزال السيد الأريبا ... في قومها والبطل المهيبا

يكفيهم البأساء والكروبا فيغضب لكيز من قول كليب ويستأسد قائلاً:

ويحك! هل ليلى ترد أمري ... برد هذا وقبول عمرو؟

رضيتُ عمراً أن يكون صهري ... ما حجتي في رده؟ ما عذري؟

أليس في منعيه عين الغدر ... ولو أبى البراق إلا هجري؟

فليجر في قطيعتي ما يجري

وقد أنصف كليب كل الإنصاف حينما ذكره بأنه غدر بابن أخيه فقال له:

يا أبا ليلى كفى. فالحقوق. أنكرتها. ذلك الغدر

وأحاديث الجفا. والعقوق. كررتها. حلوها مر

غضب البراق. مر لا يطاق. وله العذر

ولكن أترى لكيزاً يأبه لهذا ويهتم به؟ كلا وإنما يمعن في قسوته، ويسترسل في شدته، ويأبى إلا تنفيذ ما رآه. ولو كان ما رآه هو الخطل بعينه، فاسمع إلى ابنته ليلى وقد عرفت من أمرها ما عرفته: فأخذت تشكو إلى الله ظلم أبيها، وتعدد مناقب ابن عمها، وتبثه لواعج غرامها. ثم تعرج على خطيبها المكروه فتتمنى من الله أن يقبض روحها قبل أن تزف إليه، فتواسيها صديقتها سلمى فلا تستمع إليها، ولا تزداد إلا أنيناً، وإلا حسرة على بعاد براقها.

ليلى:

رب! كم تبلو وتمتحن ... إن قلبي شفه الحزن

كلما قلت انجلت محن ... عاودتني بعدها محن

سلمى:

هل أتى عن ركبنا نبأ ... محزن، من بعد ما ظعنوا؟

ليلى:

لا، ولكني أرى جللاً ... عاجلاً يسعى به الزمن

يا ابن عمي إن لي كبداً ... قد يراها بعدك الشجن

إنما البراق خير فتى ... فيه بنت العم تفتتن

صده عني أبي سفها ... وأبي في رأيه أفنن

وأتى عمرو ليخطبني ... فأذلتهم له المنن ليت شعري ما الذي خبأت ... لي من أحداثها اليمن

ليتني يوم أزف له ... يحتويني قبله الكفن

سلمى:

إن في الأيام معتبراً ... والليالي بيعها غبن

اصبري ليلى! ولا تهني ... إن عزم الحر لا يهن

ليلى:

ارحمي يا سلم والهة ... غلقت من قلبها الرهن

وارحمي البراق فهو بنا ... قد جفا أجفانه الوسن

وكما قلنا من قبل أن أرواح العاشقين متجاوبة تشعر بشعور واحد، وتحس بإحساس واحد وفي وقت واحد. فإننا نستطيع أن نقول هنا إن براق أحس ما أحسته ليلى، وشكا مما شكت منه، فقال لصديقه عقيل:

براق:

يا عقيلا، يا عقيلا، ... ما ترى الليل طويلا؟

ما لنجم الليل لا يبغي عن الأفق أفولا؟

عقيل:

طال ليلى وهو أولى ... بعد ليلى أن يطولا

براق:

بالأسى قد عيل صبري

عقيل:

أي نعم، صبرك عيلا

يا ابن روحان رويدا ... واصبر الصبر الجميلا

براق:

إن يحل دوني فإني ... عن هواها لن أحولا

يرتضى مثل ابن ذي صهبان من ليلى حليلا

إن ليلى يا عقيل ... لا ترى مني بديلا ظلموني ظلموها ... أغضبوا السيف الصقيلا

أنا إن لم أسق عمي ... بالردى كأساً وبيلا. . .

فيخاف عقيل من هذا التهديد ويخشى عاقبته. . ويشفق للكيز أن يقتله ابن أخيه فيقول لصديقه بخبث:

عقيل:

أوَ ترضى يُتْمَ ليلى؟

فيستفيق براق حينما يسمع اسم ليلى، وتأخذه عليها الشفقة والرحمة، ويخاف كرهاً إن هو نفذ تهديده. . فيكرر صديقه الخبيث قوله:

عقيل:

أوَ ترضى يُتْمَ ليلى؟

براق:

لا ولا، حسبي ذهولا

قطع السيف يميناً ... تترك العم قتيلا

والفتى من كان للأهل ... ين مسماحاً وصولا

غير أن براق يرى أن من المستحيل عليه معاشرة أهله، وقد حطموا قلبه وفتتوا كبده فيقول:

غير أني لا أرى عن ... أرضكم إلا الرحيلا

يا لقومي للنوى زم ... وا عن الحي الحمولا

والى البحرين في ... صبح غد، حثوا الرعيلا

حتى إذا كان الصباح رحل براق إلى اليمامة ليأسو جرحه، وينسى ما هو فيه من عذاب وألم. فهل ترى الأقدار ساعدته؟ أم أنها كانت تعد له من مخبآتها ما أثار شجونه واستفز رجولته وألهب حميته وهو العربي الصميم؟

نعم إن الأقدار حاربته وعذبته، فإنه ما كاد يستقر في اليمامة حتى علم أن قومه في حرب ضروس مع طيئ وخزاعة. فماذا يعمل؟ أيذهب ويحارب معهم حتى ينتصروا وهم هم الذين عذبوه ومزقوا قلبه. .؟ أم يتركهم لأعدائهم يسومونهم سوء العذاب يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم؟ إنه إن فعل هذا فقد لحقه العار وركبه الذل، وناهيك بعار العرب وذلهم، على أنه مع هذا وذاك لم ينس أن يتهكم ويعتد بقوته فيقول:

أتاني أن قومي جد فيهم ... من الحدثين شر مستطير

أناخت بينهم حرب عوان ... ضروس للردى فيها زئير

وما أدري أيذكرني لكيز ... إذا استعرت وطار لها زفير؟

وهل هو بابن ذي صهبان يغني ... إذا عميت على القوم الأمور؟

وما إن ينتهي براق من قوله حتى يخبره خادمه بضيوف يطلبونه، وسنرى الآن من أخلاق براق ما يدهشنا، وما يثير إعجابنا.

الضيوف:

نزلنا بأبي نصر ... سلام يا أبا نصر

دعوناك إلى أمر ... فهل تصغي إلى الأمر؟

بنو عمك قد جاروا ... ومدوا سبب الشر

وقد خانوك من قبل ... بمحض البغي والغدر

فخالفنا وأيدنا علي ... هم واسع في النصر

نحالفك على منشئ ... ت في بر وفي بحر

براق:

ذروني لست أترك آل قومي ... وأرحل عن فنائي أو أسير

بهم ذلي إذا ما كنت فيهم ... ولكن لي بهم شرف خطير

أأنزل بينهم إن كان يسر ... وأرحل إن ألم بهم عسير؟

وفي أثر هذا القول الذي خيب ظن القوم يخرجون وهم يتميزون غيظاً ويحترقون ألماً. بل وفي إثره أيضاً يعلم براق بموت أخيه وانكسار قومه، وأسر أغلبهم وفيهم (ليلى) فيطير عقله، وينخلع قلبه، ويسافر تواً إلى قومه ويجمع شملهم وينظم عقدهم. ويشاء الله أن ينتصر انتصاراً حاسماً وأن يشتت أعداءه، ويمزقهم شر ممزق ثم يرجع بحبيبته ليلى ليستأنفا سعادتهما وحبهما، وهو يقول:

يا ليل قومك عنك قد نكلوا ... يا خجلتي يا بئس ما فعلوا أفأسلموك وأمعنوا هرباً ... وتخطفتهم دونك السبل؟

أم كانت الجلى فما ثبتوا ... وعن الحريم لهولها ذهلوا؟

أهلوك لا ميل ولا كُشُف ... عند اللقاء، إذا هم نزلوا

إن يخذلوك فرب معترك ... عميت به النجدات والحيل

هذه عجالة رأينا من الخير للأدب أن ننشرها للناس لتكون ذكرى طيبة للأستاذ الخالد، ولتكون نواة صالحة، وقدوة حسنة لمن يود أن يكتب الشعر العربي الرصين للمسرح المصري. رحم الله الفقيد وأسكنه مساكن الشهداء والصالحين.

محمد السيد المويلحي