مجلة الرسالة/العدد 611/على قبر المعري
مجلة الرسالة/العدد 611/على قبر المعري
للدكتور عبد الوهاب عزام
عميد كلية الآداب
ما أجدر هذه الأبيات أن تنقش عند ضريح الشاعر، وأي كلام أولى بقبر أبي العلاء من أبياته في صفة قبره؟ طال وقوفنا وتأملنا واعتبارنا إلى هذا الحدث، قارئين فيه فلسفة أبي العلاء القائل.
لو نُخِل الناس لما حصْلت ... شيئاً سوى الموت يد الناخل
والفكر يحلق في أرجاء العالم، ويعبر صحف الحياة ثم يقف على هذا القبر كما يقع الطائر بعد طول تحليق وتدويم.
فيالك قبراً على قربه ... تظل العقول به في سفر
ويالك قبراً كعين البصير ... يحوي العوالم فيها صِغرَ
وتكلم على القبر الدكتور طه حسين والدكتور مهدي البصير وأنشدت قصيدة معروف الرصافي، ولكن كان سكون هذا الجندل أبلغ. كان هذا السكوت أغلب على السمع والقلب من كل قول. إن هذا السطر المسمّى الضريح بيتُ المقطع من شعر الفيلسوف الحزين. إن هذه الصفيحة الجاثمة على قبره وقد ألحَّ عليه البلى ألف عام لكلمة في فلسفة المعري جامعة. لا أدرى أأقول إنها عنوان وراءه كل ما قال الشاعر في الحياة والموت، أم أقول إنها توقيع الزمان مصدقا كل ما أنشد الشاعر في البلى والفناء والزوال.
ثم دخلنا إلى الحجرات التي شيدت وراء القبر لتتخذ خزائن لمكتبة المعري. وانصرف الزائرون يسلكون الشارع الكبير إلى دار مضيّفنا. وسلكت في صحبة سعادة الأستاذ كرد على دربا عتيقا ضيقا إلى هذه الدار، الدار التي أكرمت وفادتنا قبل أربعة عشر عاما، دار حكمت بك الحراكي. وهي من دور الشام القديمة ظاهرها قلعة وباطنها روضة. وكانت الدور الكبيرة في تاريخنا تبنى ليسكن إليها أهلها وينعموا فيها ويستكنوا، وكانت حرما لأهلها، ومنتدى للصَحب والجيرة. فلما قُلبت معيشتنا، قلبت الدور فصار باطنها ظاهرَها، وزالت حُرمتها وحصانتها وهجرها أهلها إلى النوادي العامة.
اجتمع الضيوف في قاعات الدار وفي حديقتها حول الأحواض والنافورات وقد صفت قلوبهم ونضرت وجوههم، وتحدثوا في ماضيهم وحاضرهم. ثم اجتمعوا على المائدة فكهين فرحين يذكرون المعري ويذكرون الأدب العربي والأمة العربية كلها. ورب الدار وأولاده وأقاربه قائمون يتنافسون في خدمة الضيفان مبالغة في الاحتفاء والإكرام.
وقدّمت الفواكه فيها تين المعرة وهو أخضر كبير حلو. قلنا لهذا رغب أبو العلاء في التين وجعله حلاوته قال:
يُقنعني بُلسُن يمارس لي ... فأن تكن حلاوة فبَلَس
والبلس التين.
وقال ياقوت في معجم البلدان عن أهل المعرة: (ماؤهم من الآبار وعندهم الزيتون الكثير والتين).
خرجنا بعد هزيع من الليل والقمر يترقرق نوره على بلدة أبي العلاء الحبيبة - كانت - إليه، وفيها يقول وهو ببغداد:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني إليه الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعرة قطرة ... تغيث بها ضمآن ليس بسال
فيا وطني إن فاتني بك سابق ... من العيش فلينعم لساكنك البال
فان أستطع في الحشر آتِك زائراً ... وهيهات لي يوم القيامة أشغال
وضربنا صوب الشمال نقصد حلب.
كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل
والسيارات تجدّ في سكون الليل لا يُسمع إلا دويها ولا يرى معها إلا ظلالها. ورحم الله أبا العلاء كأنه عناها حين قال:
ولما لم يسابقُهنَّ شيْ ... من الحيوان سابقن الظلالا
وكان حديثنا أفانين في تاريخنا وحاضرنا وذكرى أبي العلاء وبعض الشعراء لا سيما أبو الطيب المتنبي، وتأبى مكانة أبي الطيب إلا أن تصله بكل حديث عن الأدب أو جدال فيه. وصدق الأستاذ النشاشيبي حين يقول: ما تلكم اثنان في الأدب إلا دخل معهما المتنبي خصما ثالثاً. وكم أنشدنا من شعر أبي الطيب في مسيرنا هذا وردّدنا الحديث بينه وبين المعري المعجَب به. وكيف لا نذكر المتنبي ونحن على مقربة من حلب التي ما برحت تدوّي بشعره منذ أنشده فيها.
طاب لنا أن نقيس فلسفة الشاعر الحزين اليائس رهن المحبسين بفلسفة الشاعر الساخط المتكبر الآمل الرّحال الجوال، صفحتان في الأدب خالدتان، وسيرتان في الحياة مختلفتان، وهما في الحق متقاربتان، على عكس ما قال أبو الطيب:
وقد يتقارب الوصفان جدا ... وموصوفاهما متباعدان
وأقبلت حلب بِذكَرها، وأشرفنا عليها في حشد من التاريخ نكاد نسمع البحتري والمتنبي والصنوبري، ونبصر ازدحام الوفود على أبواب سيف الدولة، والجيوش ذاهبة لحرب الروم وآبية والخطوب في مدها وجزرها، والزمان في نعيمه وبؤسه.
ودخلنا المدينة وكاد الليل ينتصف، والقمر يجلو محاسنها، ويجمل ذكرياتها وعلى ألسنتنا قول الصنوبري،
حلب بدر دجى ... أنجمها الزهر قراها
أي حسن ما حوته ... حلب أو ما حواها
حلب أكرم مأوى ... وكريمٌ من آواها
بسط الغيث عليها ... بُسط نَور ما طواها
وكساها حُللا ... أبدع فيها إذ كساها
ولم ننس أبيات كشاجم، وكيف ينسى زائر حلب هذا الشاعر المبدع.
أرتك يدا الغيث آثارها ... وأخرجت الأرض أزهارها
وما أمتعت جارها بلدة ... كما أمتعت حلب جارها
هي الخلدُ يجمع ما يُشتهى ... فزُرها فطوبى لمن زارها
وأوينا إلى فندق بارون حيث لقينا وجوها معروفة تبالغ في الحفاوة بنا، من حكام حلب وعلمائها وأدبائها، وبينهم شباب نجباء كانوا تلاميذ لنا في جامعة القاهرة.
وأصبحنا نجول في أرجاء المدينة نشهد آثارها وما شاده العمران الحديث فيها، ونمشي في أسواقها المعمورة التي عرفتها العصور القديمة والحديثة. رأيت القلعة العجيبة وكنت دخلتها مرات من قبل وذكرتها في رحلاتي فلا أعود إلى وصفها ولكن أكتفي بكلمة لياقوت لم أنقلها في الرحلات: (وأما قلعتها فيها يضرب المثل في الحسن والحصانة. لأن مدينة حلب في وطاء من الأرض. وفي وسط ذلك الوطاء جبل عال مدور صحيح التدوير مهندَم بتراب صح به تدويره. والقلعة مبنية في رأسه ولها خندق عظيم وصل بحفره إلى الماء، وفي وسط هذه القلعة مصانع تصل إلى الماء المعين، وفيها جامع وميدان وبساتين ودور كثيرة)
وقد أخبرت أن آثاراً لسيف الدولة عثر عليها في القلعة أخيراً، إلى ما رأينا فيها من آثار الأيوبيين والمماليك وغيرهم.
وكانت جولتنا في الأسواق قصيرة ممتعة جامعة. سرّنا ما رأينا من عظم الأسواق والخانات، وأعجبتنا بدائع الصناعات الحلبية. وحلب منذ العصور القديمة معروفة بتجارتها وصناعتها ولأهلها بصر بالتجارة وعناية بها، وأسفار في سبيلها.
وقد حدثني أحد تجار حلب بهذه الفكاهة:
قال رجل لآخر: لا يخلو قطر في الأرض من حلبي. فما رآه الرجل في هذا وقال: إني ذاهب إلى الهند وما أحسبني أجد فيها حلبياً، وسأنظر. فلما جال الرجل في أرجاء الهند وجد قبرا كتب عليه: (هذا قبر فلان الحلبي الأعرج)
وقال ياقوت:
(وما زال فيها على قديم الزمان وحديثه أدباء وشعراء ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير أموالهم، فقل أن ترى من نشئها من لم يتقبل أخلاق آبائه في مثل ذلك. فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة، يتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان).
وأنا أرجو أن يدوم أهل حلب على هذه السيرة الطيبة النافعة إن شاء الله.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام