مجلة الرسالة/العدد 611/من مئذنة القصبة

مجلة الرسالة/العدد 611/من مئذنة القصبة

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 03 - 1945



لأمير الأمراء السيد حسن حسني عبد الوهاب

وزير القلم بتونس

من كوة هذه المئذنة الحفصية العتيقة - مئذنة جامع القصبة القائم في قلب مدينة تونس - يرسل المتأمل بصره فتتجلى له (الخضراء) كأنها برنس أبيض مفروش على شاطئ.

وأول ما يشخص أمام بصره هذه المآذن السامقة الضاربة في الجو التي تزين أفق تونس، وتقوم أدلة شاهدة على هذه العهود التي مضت، عهود الأغالبة والفواطم والحفصيين والأتراك الذين كانوا يفتنون افتناناً في إقامة هذه المآذن الرائعة يدعو عليها الداعي إلى عبادة الله، في مختلف مواقيت الصلاة.

ويا لله ما أجمل هذه القباب البيض الناصعة البياض، والخضراء الشديدة الخضرة، والصفراء الفاقعة الصفرة! كم تبعث في النفوس البهجة والغبطة! وكم توحي إلى النفس معاني من الجلال والتقديس! وكم تمتّع العين بمجال من الجمال الرائق، هذا الجمال الذي يزيده شعاع الشمس روعة وفتنة.

إن هذه المآذن والقباب لرائعة في إشراق الشمس وبزوغ القمر. إنها لسحر في الليل والنهار. إنها آية من الفن تمتع الناظر بمختلف المعارض والمناظر.

من كوة هذه المئذنة يشرف المطالع على تونس إشرافاً محيطاً فلا ينفلت من العين من معالمها، ولا يند عنها مظهر من مظاهرها.

يرى تونس العربية في شكلها الشرقي البديع، وينعم النظر فتبدو له المدينة الأوربية الحديثة بعماراتها الشاهقة وقصورها العالية.

هاهي ذي سطوح الدور العربية بيضاء مشرقة. وهاهي ذي سقوف الأسواق المقوسة تبدو كأنها مسايل من ماء منسابة. وهاهي ذي القصبة تظهر عامرة بهذه الدواوين الحكومية التي أقيمت على أشكال بعضها شرقي والآخر غربي. وهاهي ذي بحيرة تونس تلوح من بعيد وقد انعكست عليها أشعة الشمس وأرست فيها البواخر، وطار في جوها هذا الطائر الرائع النُحام (البشروش) ذو الأجنة الوردية والطيران النشوان. وهاهو ذا خليج تونس يشق الأرض شقاً والرتل الكهربي يبدو كأنه أرقم جد في هربه، ينساب في هذا البرزخ الممدود بين العاصمة والمصطاف التونسي البديع (حلق الوادي) الفضي الأسحار، الذهبي الأصائل. وهاهو ذا جبل (الزلاَّج) المترامي الأطراف تتوج هامته تلك القبة الخضراء القائمة في ذروته كأنها قلعة حربية، وما هي في الحقيقة إلا زاوية الشيخ أبي الحسن الشاذلي دفين عيذاب من صحراء مصر.

ومنه تنتقل العين إلى ذلك الجبل الأشم الشامخ المرهوب جبل (أبي قرنين) المطل على مربع (حمَّام الأنف) وعلى قمة هذا الجبل كان القرطاجنيون أقاموا معبداً لبعل ذي القرنين كبير آلهة الفينيقيين وما يزال التونسيون إلى اليوم يسمونه بجبل أبي القرنين.

وما تزال العين تقع من هذا الموقع الكاشف على بدائع الخضراء حتى يبدو لها من بعيد ذلك الجبل الآخر السامق الذراء (جبل زغوان) مسبح الصلحاء وخلوة العباد والزهاد، ومنبع العين الدفاقة التي تفيض بخيرات مائها النمير على العاصمة التونسية وضواحيها.

حقاً، ٍ إن تونس من هذا المكان تخلب اللب وتأسر الفؤاد. وإنك لتود ألا تبارح هذه المناظر الصباح والمباهج اللطاف، وهذا المزاج من الجلال والجمال والماضي والحاضر، والذوق الشرقي والغربي الذي عمل في تكوين تونس، في هندامها الأنيق، وتخطيطها الدقيق، وحسن موقعها، وإحاطة الجبال والهضاب بها إحاطة الهلال؛ اللهم إلا ما يصل بين البر والبحر.

إن موقع تونس الجغرافي لبديع غاية الإبداع، هي بحرية كأنها جزيرة، وهي برية كأنها صحراء. فهي تجمع بين الضب والنون كما يقول الجاحظ في مدينة البصرة.

أما ترى البحر كيف يهاجم بأمواجه هذا المرفأ، فهي تصطفق وتموج وتصخب، حتى إذا ما اصطدمت بهذه الحواجز القائمة على الساحل انثنت مبددة متناثرة، وما هي إلا لمحة حتى تتجمع موجة أخرى هاجمة تريد أن تشفي صدرها من صدمة هذه الحواجز، ولكنها تنهزم مع صاحبتها الأخرى، فلا الموج يكف عن الهجوم ولا الساحل يلقي سلاح المقاومة. . .

أما ترى هذه الهضاب المحدقة بتونس، كأنها جيوش جرارة نصبت لحراسة الخضراء، أعلامها أشجارها، وعدتها صخورها، وهيبتها شموخها، وخيلاؤها ارتفاع رأسها في الجو.

بحر إن شئت حدثك عن الأساطيل القرطاجنية، والأغلبية والفاطمية، وكيف شقت صفحته هذه الأساطيل الغازية لتونس، الحارسة لسواحل البحر الأبيض المتوسط، فكأنها اسود البحر، لكنها تدفع الشر وتجلب الخير.

وجبال إن شئت نبأتك عن مدنية قرطاجنة وعن حضارة الأغالبة والفواطم والحفصيين والأتراك، وحدثتك أحاديث القرون الغابرة، والأجيال العابرة، التي مرت بهذا القطر على سواحل البحر الأبيض المتوسط وضفاف أودية الصحارى الأفريقية، جبال تصور لك الشمس وهي مائلة إلى الغروب، مرسلة شعاعها العسجدي العليل على مآذن تونس، والمؤذن ينتظر ليدعو الناس إلى الشكر والحمد. وتريك ضوء الفجر ينشر في الآفاق رواءه والمؤذن أيضاً يجهز بدعائه: الصلاة خير من النوم!

حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي