مجلة الرسالة/العدد 612/اقتحم العرب المحيط قبل أن يقتحمه كلمبس

مجلة الرسالة/العدد 612/اقتحم العرب المحيط قبل أن يقتحمه كلمبس

مجلة الرسالة - العدد 612
اقتحم العرب المحيط قبل أن يقتحمه كلمبس
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 03 - 1945



للآنسة دولت حسن الصغير

نشر في مقتطف فبراير الماضي نص خطبة ألقاها الأب الفاضل أنستاس الكرملي، بين فيها أن أبناء يعرب القدامى اختلفوا إلى جزر القصدير ببحر المانش، وعرفوا تيار الخليج واتخذوه لهم ناقلا إلى تلك الربوع المعروفة الآن باسم المكسيك. واستدل على ذلك من الأسماء العربية للحيوان والطير التي تعرف بها إلى اليوم في تلك البقاع.

وكنت أحسب قبل مطالعة كلمته الرائعة، أنه سيورد من المراجع العربية ما يثبت أن من أبناء قحطان من اقتحم البحر المحيط ليرى ما به من الأخبار والعجائب ويقف على نهايته. غير أن الأب - أبقاه الله ذخراً للعروبة - اعتمد في كل ما قرره على مصنفات الأغراب فحسب، إلا ما وجده نبها بنفسه.

وليس لي أن أفند ما جاء به العلامة من تحقيقات لغوية، فما إلى هذا رميت في هذا المقال - ولكنني سأعني بالتحدث عمن ركب من العرب البحر المحيط قبل أن يركبه كلمبس، معتمدة على ما جاء بالمصادر العربية

ثبت قطعاً أن خرستوف كلمبس ليس أول من حط رحاله بالدنيا الجديدة، ولكن رحلته إليها هي التي فتحت أعين الناس على هذا العالم الجديد، فبدئ من بعده الظعن إليه والاستعمار.

حدثنا الأب أنستاس بنبأ رحلة الراهب برندان إلى جزيرة إيسلنده (المعروفة عند العرب باسم ثولي)، وجزائر الكناري (الخالدات)، ثم نزوله على الساحل الأمريكي في النصف الثاني من القرن السادس، كما حدثنا بخبر بعض الرهبان الأرندليين - الذين كانوا يدهشون لركوب العرب تيار الخليج القادم من المكسيك - ونزولهم في القرن الثامن الميلادي إلى سواحل أمريكا الشرقية. غير أن التاريخ غمط حقوق بعض الرواد المغامرين من يعرب، الذين ركبوا الأهوال محاولين اختراق الخضم المحيط المعروف في ذلك الحين باسم بحر الظلمات.

الكرة الأرضية والبحر المحيط عند العرب:

نقل العرب كتاب المجسطي لبطليموس القلوذي في مطلع العصر العباسي، وقالوا في أزياجهم وكتبهم الجغرافية إن الأرض كروية. جاء في مروج الذهب للمسعودي: (ذكرو الأرض مستديرة، ومركزها في وسط الفلك، والهواء محيط بها من كل الجهات، وأخذوا عمرانها من حدود الجزائر الخالدات في بحر أقيانوس إلى أقصى عمران الصين) و (علموا أن الشمس إذا غابت في الصين كان طلوعها على الجزائر العامرة المذكورة التي في بحر إقيانوس. وإذا غابت في هذه الجزائر كان طلوعها في أقصى الصين. وذلك نصف دائرة الأرض، وهو طول العمران الذي ذكروا أنهم وقفوا عليه). ولعمري إن هذا تحديد دقيق لما يعرف اليوم جغرافيا نصف الكرة الشرقي.

وقال المسعودي أيضاً: (إن أقصى العمران في المشرق إلى حدود بلاد الصين والسيلي إلى أن ينتهي إلى بحر أقيانوس المظلم المحيط. وأقصى عمران المغرب ينتهي إلى بحر إقيانوس المحيط أيضاً).

فكأن الأقيانوس المحيط كان - بحسب ما عرفوه - متصلا من أقصى العمران في المشرق إلى أقصى العمران في المغرب. وهو ما يعرف اليوم جغرافيا باسم نصف الكرة الغربي.

وتواترت الأخبار قديما بأن بحر الظلمات هذا لا تدرك غايته، ولا يعلم منتهاه. وأنه بحر لا تجري فيه جارية ولا عمارة. جاء في كتاب الشريف الإدريسي - نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق - (ولا يعلم أحد ما خلف هذا البحر المظلم، ولا وقف بشر فيه على خبر صحيح، لصعوبة عبوره، وظلام أنواره، وتعاظم موجه، وكثرة أهواله، وتسلط دوابه، وهيجان رياحه. وبه جزائر كثيرة منها معمورة وغير معمورة).

وكان يعزز ما تواتر عليه الناس عنه، أسطورة مأثورة عن قدامى اليونان تقول بأن هرقل بنى أعمدة من النحاس والحجارة. حداً بين بحر الروم والأقيانوس. وعلى أعلاها كتابه وتماثيل مشيرة بأيديها أن لا طريق ورائي لجميع الداخلين إلى ذلك البحر المحيط. وأشار المسعودي إلى هذه النصب بما نصه. (وعلى هذا البحر المحيط مما يلي الأندلس، جزيرة تعرف بقادس مقابلة لمدينة شذونة. . وفي هذه الجزيرة منارة عظيمة عجيبة البنيان، على أعاليها عمود تمثال من النحاس يرى من شذونة وورائها لعِظَمه وارتفاعه. ووراءه في هذا البحر على مسافات معلومة تماثيل أخرى في جزائر يرى بعضها مع بعض، وهي التماثيل التي تدعى الهرقلية، بناها في سالف الزمان هرقل الجبار، تنذر من رآها أن لا طريق وراءها ولا مذهب، بخطوط على صدرها بينة ظاهرة ببعض الأقلام القديمة، وضروب من الإشارات بأيدي هذه التماثيل تنوب عن تلك الخطوط لمن لا يحسن قراءتها. صلاحا للعباد، ومنفعاً لهم من التغرير بأنفسهم في ذلك البحر).

وكان الحكماء والجغرافيون من العرب، يعرفون أن هذا البحر موصل إلى الهند. فقد جاء في كتاب السماء والعالم لأرسطو في الدليل على صغر الأرض أن الموضع الذي يدعى أصنام هرقل، يختلط بأول حد من حدود الهند. ولذلك قالوا إن البحر واحد)

رواد المحيط من العرب

واقتحام أبناء قحطان بحر الظلمات، وركوبهم أهواله أمر لا مرية فيه، وقد بسط الأب أنستاس الدليل على ذلك نقلا عن هيرودوتس وعن استرابون. ونحن بدورنا نبسط الدليل نقلا عن المصادر العربية.

جاء في مروج الذهب صفحة 71 في ذكر الكلام عن البحر المحيط (وله أخبار عجيبة، وقد أتينا على ذكرها في كتابنا (أخبار الزمان) في أخبار من غرر وخاطر بنفسه في ركوبه، ومن نجا منهم ومن تلف، وما شاهدوا منه وما رأوا).

وإذا لم يحفظ لنا التاريخ قول المسعودي في أخبار من ركب هذا البحر، فقد ذكر لنا الإدريسي في كتابه الجغرافي النفيس قصة الاخوة المغرورين أو المغررين الذين خرجوا من لشبونة، وضربوا في عرض المحيط، ثم عادوا يقصون على الناس مشاهداتهم. ولعلهم حاولوا عبثاً إقناع القوم بوجود دنيا جديدة وآفاق حديثة، وراء لجج المحيط، فرماهم البعض بالغرور والبعض بالتغرير. قصتهم ولا ريب، كانت معروفة قبل المسعودي - والأرجح أنها وقعت في القرن الثالث الهجري - التاسع المسيحي - وتناقلها الناس بعد ذلك فلحقها شيء من التحوير والتبديل، شأن جميع الروايات التي تجري على الألسن وتدخل في عداد الأساطير. لذلك سنورد القصة كما استقاها الإدريسي من الأفواه في منتصف القرن السادس الهجري - الثالث عشر الميلادي.

قال في كتاب - نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق -

(من مدينة لشبونة، كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات، ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه كما تقدم ذكرهم. ولهم بمدينة لشبونة بموضع من قرب الحمه، درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين، إلى آخر الأبد. وذلك أنه اجتمع ثمانية رجال كلهم أبناء عم، فأنشئوا مركباً حمّالاً، وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر. ثم دخلوا البحر في أول طاروس (كذا) الريح الشرقية. فجروا بها نحو من 12 يوماً، فوصلوا إلى بحر غليظ الموج، كدر الروائح، كثير القروش، قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف. ثم فردوا قلاعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية الجنوب 12 يوماً، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها، ولا ناظر إليها. فقصدوا الجزيرة، فنزلوا بها، فوجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري. فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها، فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها. فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب 12 يوماً إلى أن لاحت لهم جزيرة فنظروا فيها إلى عمارة وحرث. فقصدوا إليها ليروا ما فيها. فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك. فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر، فأنزلوا بها في دار. فرأوا رجالا شقراً زعراً شعور رؤوسهم سبطة، وهم طوال القدود، ولنسائهم جمال عجيب.

فاعتقلوا فيها في بيت ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وفيما جاءوا، وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم. فوعدهم خيراً، وأعلمهم أنه ترجمان الملك.

فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك. فسألهم عما سألهم الترجمان عنه، فأخبروه بما أخبروا به الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب، ويقفوا على نهايته. فلما علم الملك ذلك ضحك، وقال للترجمان: خبر القوم أن أبي أمر قوماً من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهراً إلى أن انقطع عنهم الضوء، وانصرفوا في غير حاجة ولا فائدة تجدي.

ثم أمر الملك الترجمان أن يعدهم خيراً، وأن يحسن ظنهم بالملك ففعل. ثم صرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جري الريح الغربية، فعمر بهم زورق، وعصبت أعينهم، وجرى بهم في البحر برهة من الدهر؛ قال القوم: قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها، حتى جيء بنا إلى البر فأخرجنا، وكتفنا إلى خلف، وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس، ونحن في ضنك وسوء حال من شد الأكتاف؛ حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بأجمعنا، فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة، فحلونا من وثاقنا، وسألونا، فأخبرناهم بخبرنا. وكانوا برابرة. فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا لا، فقال: إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين. فقال زعيم القوم: وا أسفي. فسمي المكان إلى اليوم أسفي، وهو المرسى في أقصى المغرب)

والذي نستخلصه من رواية الإدريسي، أن الاخوة الذين نعتوا ظلما باسم المغررين أو المغرورين، ركبوا البحر المحيط من لشبونة عاصمة البرتغال الحالية، فضربوا في عرضه غربا، ثم انعطفوا نحو الجنوب، فوطئوا أرض جزيرة بها غنم وتين بري، بعد مسيرة أربعة وعشرين يوما؟. ونحن نستبعد أن تكون جزيرة الغنم هذه إحدى جزر اللازورد (أزوره) لأنها تقع غرب لشبونة لا إلى جنوبها الغربي؛ ولأنها جزر مسكونة من قديم الزمان عرفها القرطاجنيون والنورمانديون والعرب، كما جاء في دائرة المعارف الفرنسية. وقد هاجر إليها فريق من عرب أسبانيا بعد طردهم من الأندلس.

والذي نظنه، هو أن هؤلاء الاخوة حطوا رحالهم في إحدى جزر برمودة أو جزر الانطيل، إن لم يظعنوا إلى أحد أنحاء المكسيك، بلاد التين البري (وفصائل الصبير)، والتي كانت تزخر بقطعان الماشية المعروفة عند الغربيين باسم البافالو. (بالفرنسية أو قطعان اللاما إحدى فصائل الأغنام الأمريكية. والذي استوقفنا فيما تواتر على ألسنة الناس في هذه القصة هو ذكر الغنم والتين البري. أما الغنم فكانت الدنيا الجديدة عامرة بقطعان البافالو واللاما - وكاد النوع الأول ينقرض الآن لأن المستعمرين الأوربيين أكثروا من صيده للانتفاع بجلده - وأما التين البري فنحسب أنه تعبير وصفي لفصائل العائلة الصبارية التي تنبت في أمريكا الوسطى عامة وسواحل عامة وسواحل المكسيك خاصة، وهي مشهورة بها كشهرة مصر بنيلها وأهرامها. أفيحق لنا أن نظن أن ما هبط إليه الاخوة (المغامرون) كان أحد أنحاء المكسيك التي منها يخرج تيار الخليج ويعرج فيها:

هذا رأي لا يحمل إلا على محمل الظن. . والله أعلم

وهناك قصة لمغامر آخر اقتحم البحر المحيط، ولا يعرف إلا الله مصيره ومن تبعه. في النصف الأول من القرن الثامن الهجري (أوائل القرن الرابع عشر الميلادي) يحدثنا ابن فضل الله العمري في كتابه مسالك الأبصار في ممالك الأمصار عن الملك موسى بن أبي بكر أحد ملوك (مالي) في السودان الغربي، وكان معاصرا لصاحب مسالك الأمصار في أيام الملك الناصر بن قلاوون. قال (قال ابن أمير حاجب والي مصر، عن الملك موسى ابن أبي بكر: سألته عن سبب انتقال الملك إليه فقال: إن الذي قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك. فجهز مائتين من السفن، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين، وأمر من فيها ألا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته، أو تنفذ أزوادهم. فغابوا مدة طويلة، ثم عاد منها سفينة واحدة، وحضر مقدمها، فسأله عن أمرهم فقال: سارت السفن زمنا طويلا حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة واد له جرية عظيمة، فابتلع تلك المراكب وكنت آخر القوم، فرجعت بسفينتي. فلم يصدقه. . فجهز ألفي سفينة، ألفاً للأولاد، وألفاً للأزواد. واستخلفني، وسار بنفسه ليعلم حقيقة ذلك. وكان هذا آخر العهد به وبمن معه). فهل وصل هذا الملك المغامر بقافلته العريضة المزودة إلى بر السلامة أم ابتلعته ومن معه لجج المحيط؟ لا نحسب أن إقدام هذا الملك الجسور على اقتحام البحر كان من قبيل الظن بان للمحيط غاية تدرك، فلربما كان لديه من الأبناء والوقائع ما دعاه أن يكذب مقدم السفينة العائدة، ويركب أهوال البحر بألفي سفينة ليصل إلى غايته.

ومما يغلب على الظن أن كلمبس وقف على خبر الاخوة المغرورين، وعرف أنهم هبطوا إحدى الجزر فيما وراء المحيط - ولعله كان على علم بنبأ رحلة برندان - ولا جدال في أنه اطلع على ترجمات الكتب الجغرافية العربية التي تقول بكروية الأرض، وبأن البحر المحيط موصل إلى الهند. ثم استطاع أن يقنع الملكة إيزابلة، وسار بسفنه الشراعية الثلاث في 3 أغسطس سنة 1492 متخذا سبيله في المحيط غرباً، ثم جنوبا بغرب، حتى وصل في 12 أكتوبر إلى جزيرة غواني هاني (التي عرفت فيما بعد باسم سان سلفادور) وكأن معاصريه لم يجدوا فيما أتى به بدعاً، ولم يروا فيه أول مقتحم لبحر الظلمات. فضرب لهم مثل البيضة المعروف، ومات في بلد الوليد عام 1506 آسفا محسورا.

وبعد فهذه حقائق مستقاة من المصادر العربية، تثبت أن أبناء يعرب جابوا بحر الظلمات قديما. على أن أخبار مقتحميه منهم وما شاهدوا منه وما رأوا لم تلق من الناس والمؤرخين الأقدمين اهتماماً كبيرا. وهناك ولا ريب كثير من رواد المحيط الناطقين بالضاد ركبوا في قوافل بحرية كبيرة مثل ملك (مالي)، بيد أنهم لم يجدوا من يؤرخ لهم. ولا ريب أن بعضهم حط رحاله في ربوع أمريكا الوسطى وجزائرها. لذلك لا نعجب أن رأينا فيها كثيراً من الأسماء العربية العائدة إلى الحيوان والطير.

(لإسكندرية)

دولت حسن الصغير