مجلة الرسالة/العدد 612/الواحد!. . .
مجلة الرسالة/العدد 612/الواحد!. . .
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
(البحيرة الكبيرة من المنبع الصغير هذه الحرب من قلب
واحد. صمامات التيارات العظمى. الفرد المنشود عالم معقد
التبادل بين الفرد الواحد والإنسانية الجامعة. توزيع الدنيا على
الأفراد والأفراد على الدنيا. من جذور الشجرة الإنسانية إلى
ثمارها. لابد لحياة الشجرة من اعتراف كل جزء فيها بكل
جزء)
تظهر بوضوح قيمة الفرد البشري الواحد، ومبلغ آثار تصرفه، في تدبير تشرشل أو هتلر أو روزفت أو إينونو أو أبن سعود أو ستالين أو أيزنهاور أو أمثالهم. فإن تصرف أحدهم يجر على أمته إما الحسن والفخار، وإما السوء والدمار.
ففي أمثال هؤلاء يتبين كيف يجر فرد واحد العالم، أو شعبه وراءه فيخفضه أو يرفعه. ومعنى هذا أن الفرد البشري ذو قيمة كبرى في حياة الاجتماع، وأن وضعه هذا يحتم عليه وعلى الدولة أن يحترسا دائماً من سوء تصرفاته، وما يجلبه على الاجتماع من الضرر.
فتصرف الفرد في الحياة الاجتماعية أشبه بتصرف ماء مستبحر من ثلم رخو، على أرض منخفضة، يبدأ ضعيفاً، ثم لا يلبث أن يتحول سيلاً حَدوُراً لا يستطاع ردُّه.
ومهما قيل في حكم الديمقراطية المطلقة، والشورى الفضفاضة، فروح الانتقال والبطولة، وفتح آفاق جديدة تتركز غالباً في فرد واحد. وخصوصاً عند الأزمات الخطيرة، ويكون هذا الفرد حينئذ كموضع نبع الماء في البحيرة التي يكونها، ويكون آثاره وعظمته بها. فموضع النبع صغير، ولكنه هو البحيرة الكبيرة في الواقع!
وكيف انبثق هذا الدمار في هذه الحرب على العالم؟ لقد انبثق من قلب رجل واحد ملئ قلبه بالحقد والضغينة على الذين رآهم لم ينصفوا أمته. وتجمع الحقد والضغن في قلبه، كما يتجمع القيح والصديد والرَّحَضُ في رأس خراّج، فيصيب جسم أمته بالحمى والرعدة، يمكن سده إلا بعد التصفية النهائية.
فهل بعد هذا يحتقر بعض الأمم شئون الفرد الواحد ويتركونه مهملاً، زاعمين أنه لا وزن له إزاء الأمة أو العالم؟!
وهل قام الخير، أو قام الشر إلا بواحد؟ الواحد هو أساس العدد اللانهائي.
وهكذا إذا أراد الله أن يتصل بالناس جميعاً اتصال تغيير في نظمهم المعاشية والسياسية والدينية، وضع يده في قلب واحد، وسلط منه تياراً خفياً على الجميع. فإذا كان يريد خيراً بالعالم أطلق تيار الخير من قلب رجل خير، وإذا كان يريد نقمة وقصاصاً أطلق تيار الصعق والحرق السريع أو البطيء من قلب رجل شر.
فلنجتهد أن نجعل قلوب الأفراد مواضع ليد الله حين يريد الخير.
والعناية والمشيئة الإلهية التي تخرج وجوه الناس ونفوسهم وعقولهم صوراً شتى متمايزة مهما كثرت الأعداد، بحيث لا يتشابه وجهان، ولا يتماثل عقلان في كل شيء حتى ولو كانا لتوأمين، ترشدنا إلى أن نرى في كل فرد جانباً متميزاً من الإنسانية، وأنه موضع عناية وقصد من مخرجه.
ولو فهمت الدولة قيمة القصد في الفرد الواحد وخطره في الحياة في حالتي صلاحه وفساده، إذن ما كانت تسمح لنفسها أن تترك فرداً دون أن تمر عليه بمنظار مكبر يكشف عن أدوائه ومنافعه.
فالفرد إما بؤرة ظلام نجس وفساد متنقلة تحمل الجراثيم الفتاكة معها حيث حلت. . . وإما بؤرة صلاح وطهارة وإشعاع تحمل وتعكس عوامل الحياة والجمال معها حيث حلت. وشتان ما بينهما! فكيف تهمله الدولة هذا الإهمال الشنيع وهو ما هو في جسمها؟!
لو أفلت فرد شرير شيطاني من قيادتها وحراستها إذا لعاث فساداً في حرثها ونسلها وعمرانها. ولو ضاع فرد ملكي من رعايتها وتعهدها وتشجيعها، إذاً لضاع عامل عظيم من عوامل نموها وارتقائها وسعادتها. ولعل فيه ما يرفع النوع كله.
ويظن أكثر الناس أنه يكفي لإنشاء (الفرد الإنساني) أن تطرح بذرة منوية في رحم من الأرحام، تولد بعد مدة، فتنمو حتى تكون ذلك الجسم المعهود الذي يملأ أسواق الحياة، ونسوا أنهم في إنشاء شجرهم وغراسهم وحيوانهم يسلطون يقظتهم وعملهم وتعهدهم الدائم، حتى يحصلوا على ما يريدون من الأصناف المطلوبة المرغوبة. وأنهم يستهترون ويحاربون الآفات التي تدنو من حرثهم وحيوانهم.
إلا إن الإنسان المنشود عالم معقد ليس الجسم الظاهر إلا وعاءه وقالبه! أما سره ومعناه ولبابه كما يريد رب الحياة من (النوع) فأمور لا تظهر إلى عالم الاجتماع إلا إذا اجتمعت لها عوامل الحياة الصالحة بنسب موزونة.
وإن الروح التي عنها يتحدثون هي نتيجة تفاعل الحياة الحيوانية في الجسم مع نتائج التربية والبيئة والتعليم وجميع المؤثرات. إنها كائن ينفصل عن الجسم كنتيجة وجود هذه العوامل الأرضية المختلفة. وإن من أدواتها ذلك اللوح الخفي السريع التأثر الذي ينطبع فيه ما يقع عليه، أو يتخايل أمامه من المؤثرات.
فالذين يلقون بذور الإنسان في الأرحام ولا ينتقونها قبل إلقائها، ولا يهيئون الجو الصالح وهي في مستودعها، ولا البيئة الصالحة وهي في نشأتها، ويتركونها هكذا تتداولها العوامل الطبيعية مصادفة؛ هؤلاء ينبغي ألا ينتظروا من الحياة أن تعطيهم تلك الوحدات الإنسانية المنشودة القريبة من الكمال في صفات نوعها.
والإنسانية ملك الفرد، والفرد ملك الإنسانية. وما كان من المستطاع أن يحصل الفرد الإنساني ما يحصله الآن من الأفكار والمعلومات والتجارب والأرزاق والمتاع لو أنه عاش فريداً متأبداً، أو لو أنه اعتزل حياة الاجتماع.
فنحن جميعاً بازاء بحار المعاني يأخذ كل فرد منا غرفة منها يلونها في إنائه الخاص، ثم يقدمها إلى غيره من الناس. وكلما أضيف فرد إلى المجموع زاد أفق من آفاق الحياة في الأرض. ولن يمكن أن يحل فرد محل آخر، فان كل ثمرة إنسانية لها سر خاص لا يرى في سواها. وإني ما أجلس مع فرد ما إلا أرى فيه صورة للدنيا لست أراها في مجلس مع غيره.
ومن العجيب أن كل فكر يريد أن يطبع الإنسانية على غراره ويحملها على حياة تصدق منطقه، مع أن التوزيع والتمايز بين الوحدات الإنسانية قانون مطرود.
وينطوي فكر كل فرد على صورة للدنيا غير الصور التي في أفكار الآخرين، فكل فرد يرى الدنيا من خلال نفسه، والأكوان عدد العقول.
وما أعجب أن تنظر إلى وجوه الناس ورءوسهم! إنها صفحات يبدو للناظر العجلان أنها سطحية ضحلة. ولكنها للناظر المتملي المتفرس تقذف به إلى لا نهائية ذات أعماق. والعيون هي مسالك تلك الأعماق!
وكذلك يثير وجه كل فرد وعقله صورة من صور الدنيا. وكل فرد كأنه الحياة كلها مستقلة. حتى ليخيل إليك أن الدنيا الإنسانية تنقص بموت فرد واحد، وأن مكانه لا يملؤه غيره سواه علا أم سفل، علم أم جهل. فتوزيع الدنيا على الأشخاص، وتوزيع الأشخاص على الدنيا يعطي صورة فنية أو حبكة مسرحية يحشد فيها الفن الرفيع والإخراج البديع.
ولذلك قالت التوراة والقرآن: (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً. . .)
ومن هنا جاءت قداسة الحياة الفردية في الشرائع، واستنكر الاعتداء عليها استنكاراً إجماعياً. وقد أعطت الإنسانية الفرد حرية تخيلتها لنفسها واستوحتها من إحساسها العام وضميرها المشترك.
والإنسانية كجسم شجرة واحدة، فيها جذور لا بد أن تعيش في الطين والظلام والعفونة لتحلل غذاءها وتأخذه عناصر بسيطة تركب منه ما تشاء من اللباب والقشور والأزهار والثمار والعطور إلى آخر ما في عالم الأشجار.
وفيها سيقان لا بد منها لتحمل غيرها وترفعه إلى عالم الجو والضوء والنسمات.
وفيها أوراق تبلغ من الكثرة حداً كبيراً يرتفع إلى مستوى الزينة ويشترك في صميم العمل الضروري لحياة الشجرة، لأنها رئات يتنفس بها الشجر.
وفيها أزهار وهبها واهب الحياة العطر والجمال، وأخرج فيها روحاً خاصاً يخيل للناس أنها ليست من عالم الطين والعفونة والتحلل والظلام.
وفيها ثمرات هي صناديق أسرار الشجرة ومستودع حياتها المقبلة. وهي روح الشجرة تحمل سر نوعها من الماضي للمستقبل.
ولا مفر من اعتراف كل جزء من الشجرة بكل جزء آخر لتحيا جميعها. ولا بد أن يعلم كل جزء أنه وضع في موضعه الرفيع أو الوضيع ليخدم نفسه ويخدم الجميع. والسفالة في الموضع أو العلو فيه، والعلانية أو الخفاء كلها نظرات اعتبارية في الظاهر، والحقيقة أن نصيب العمل واحد، والنتيجة واحدة: هي حياة الشجرة بحياة أجزائها، وحياة الأجزاء بحياة الأم.
وينبغي ألا ينظر جزء من الشجرة لآخر، وإنما ينظر لليد التي وضعته في كل ليؤدي دوره وخدمته، ويكفي عزاء لما سفل واختفى أن حياته كثيراً ما تكون أثبت وأدوم مما علا.
ويكفي عزاء لما علا وارتفع عن سرعة فنائه أنه أجمل وأشهر. وكلا المعنيين جدير أن يحار بينه وبين قسيمه الاختيار.
إلا إننا ممثلون نؤدي أدواراً يرسمها ويحملنا عليها مؤلف رواية الحياة ومخرجها، بديع السموات والأرض! فينبغي أن نعرف مواضعنا الحقيقية من الكون، وأدوارنا فيه نؤديها على أكمل وجه، ثم نختفي وراء (الكواليس) إلى يوم إصدار الرواية الأخرى التي سنؤديها في المسرح الأكبر، في الكون الواسع!
فقط اضمنوا لكل عامل بارع مهما كانت مواد عمله خسيسة أو كريمة مكافأة وتكريماً وتعظيماً لمواهبه. ولا تقصروا اهتمامكم وتمجيدكم على الأجزاء الرفيعة الملونة المزوقة من شجرة الإنسانية: والساسة والحكام والأثرياء، ومن إليهم من الذين خصهم المجتمع الجاهلي بالاحترام، بل امنحوا وقدموا ذلك الاهتمام والتمجيد لكل عامل بارع في عمل من أعمال الحياة الإنسانية، تتفتح لكم أبواب من سعادة الحياة ما كنتم تتصورون أن وراءها شيئاً ذا قيمة وتأثير في حياتكم يعادل تأثير السياسة والحكم وما إليها.
اقضوا على تخصيص الحكام وذوي السلطان والثراء بتعظيمكم وخشيتكم، وانظروا لغيرهم كذلك من العمال والكناسين وغيرهم وكرموهم كرامتهم، فان لهم في الدولة أثراً لا بد منه كآثار (أصحاب الدولة)!.
عبد المنعم محمد خلاف