مجلة الرسالة/العدد 615/حيرة. . .!
مجلة الرسالة/العدد 615/حيرة. . .!
للأستاذ عبد الرحمن صدفي
أأهرب من ذكراكِ، أم لست أهربُ؟ ... وهل من وفاءٍ أن يُجنّ المعذَّبُ؟
أأترك هذا البيت قد كان عشَّنا ... وكُنَّا به الإلفَّين والأرض مَعْشَب؟
تناغيني بالحب والكتب وحدَنا ... ويا حبذا مغناك مغنىً ومكتب
أأتركه تركَ الطريد، كآدمٍ؟ ... ويا ليت أني ذلك الزوج والأب
طريدٌ ولا حَوّاء تُبدل جنتي ... بأخرى، فحوَّائي قَضَت قبل تُنجب
أو أبْقَى أوفِّي ذكرياتكِ حقَّها ... أُحَيِّ الصبا والعلمَ فيك وأندب؟
هنا عالم الأنثى، ثيابٌ وزينةٌ ... يُكَظُّ بها تخت ويزدان مِشْجب
أرى المعطفَ الشاتي تريكاً، وطالما ... أفاض عليه الحسنَ عِطْفٌ ومِنكب
ويا رَبِّ، هذا الثوبُ حُلَّةُ سهرةٍ ... وكان عليه العزمُ لولا المغَّيب
وألمح مرآة الجميلةَ عندها ... تفانينُ حَلْيٍ: بَهْرَجٌ ومُذَهَّب
وثَمَّ قواريرٌ تضوَّع عَرْفُها ... قوارير كانت لي بها تتطّيب
هنا الطيبُ والأبراد والحَلْيُ كلُّهُ ... فأين التي كانت بها تتحبّب
إلى أين أمضي عنكَ، يا طيفَ زوجتي ... أليس إلى السلوى مجازٌ ومهرب!!
وأمضي أسرِّي من خبالي، وإنني ... لأُشفق من هذا الخبال وأعْجب
إلى شُرفتي هذي - ويا حسنَ شرفتي ... على النيل تبراً تحتها يتسبسب
كَأنْ قد خَلَتْ من مجلسٍ ضمَّ شملنا، ... وما إن خلا منكِ المكان المحبَّب
أأنسى التناجي في الأصائل عندها ... وبالأُفُق الغربيْ نارٌ تَلَهَّب
نتابع ماَء النهر ينساب حالماً ... ونحن مع الأحلام نطفو ونرسب
مناظر قد كانت، فباخ ضياؤها ... وغام عليها دمعيَ المتصبَّب
فلا حسنَ، كلُّ الحسن كان بمهجتي، ... وقد كان منك الفيضُ، فالآن ينضب
إلى أين أمضي عنك - رُحْماكِ - زوجتي ... أمنكِ إلى ذكراكِ أمضي وأذهب
وأفزع للأسفار في جوف مكتبي ... تجاورَ فيها أعجميٌّ ومُعِرب
إلىَّ جميعاً - بالتعازيم والرُّقي! ... فَبي طعنةٌ مسمومة لا تُطَبَّب أفيكنَّ من جرح الحياة مَخِّدرٌ ... أفيكن أفيون، أفيكن قِنَّب؟
فما حاجتي علمٌ وشعرٌ وحكمةٌ، ... وكيف، ويومي مستطار عصبصب
وكيف، وهذا الشعر كان نشيدَنا ... وذي صفحةٌ للفن كُنّا نُقلّب
وهذي تواريخٌ، وتلك مشاهدٌ ... مررنا بها سّيان شرقٌ ومغرب
وتمتد كفّي نحو سِفْر أريده ... فترجع كالملدوغ مسَّته عقرب
فهذا كتابي، ربِّ! هذا كتابها ... قرأناه نستقضي معاً وننَّقب
مجاميع أبحاثٍ، متون تفلسفٍ ... بهن حواشيٍ، وهي ذاك المعقِّب
أيا زوجتي، قد كنت حافظ مكتبي، ... وقارئَه قبلي، ونِعْمَ المرتِّب
لمن أستجدّ الكتب في كل مطلب ... وقد كنتِ لا يعدو اهتمامَك مطلب
فكم من علومٍ كنتِ من نَهَم الحجى ... جُهَيْنَتَها، َتْرَوْين منها وأنغب
تفوقتِ تحصيلا وحسنَ إفادةٍ ... ولم تكتبي يوماً وقد كنتُ أكتب
وكنتِ ترجّين الحياةَ لتقرئي=إلى جانبي، والصِّنو للصنو يطرب
وحيدان نستوحي الدفاتر علَمها ... صموتان لا نلغو ولا نتغضّب
خلونا - وفي هذا التفرُّد أُنسُنا ... وفي صمتنا نجوى الهوى والتحبب
ويا زوجتي، كنتِ المدّبر عيشتي ... فعيشيَ أهنا العيش طرَّا وأطيب
حرصتِ على مالي، وصُنْتِ مغيَّبي ... وأخلصتِ لي في الحبّ والحبّ قُلَّب
تقومين في شأني - وثمة خادمي، ... وحُبَّ من الزوج العَروب التَعرُّب
وماليَ في الأهلين بعدك عائضٌ ... ولو قام منهم في ركابيَ موكب
وتلتاع نفسي إن تعهّد مَلْبسي ... سواك ووفّاني الذي أتطلَّب
أأشعر أني عن تعهد زوجتي ... غَنيتُ، لقد آثرتُ أني المترَّب
وما بيَ من سُخْف وما بيَ جِنَّةٌ ... ولكنه الحب الشديد المؤرَّب
خيالك يا زوجي كظِّليَ إن أَسِر، ... وإن أَبقَ تمثالٌ أمامي منصَّب
خيالك لا أقوى عليه، فأنه ... - وقد صار جزءا من حياتي - مُغَلَّب
إلى أين أمضي عنك - لا أين - زوجتي ... وما ليَ غير الموت بعدك مذهب