مجلة الرسالة/العدد 615/على هامش النقد
مجلة الرسالة/العدد 615/على هامش النقد
المدينتان
1 - دمشق: للأستاذ محمد كرد علي
2 - بغداد: للأستاذ طه الراوي
للأستاذ سيد قطب
أحببت أن أجمع بين هذين الكتابين في مقال؛ لأن جميع الأسباب توحي بهذا الجمع. فكلتا المدينتين حاضرة خلافة إسلامية في القديم ودولة عربية في الحديث. وكلتاهما كانت مقر نهضة ثقافية ومهبط حضارة إسلامية في التاريخ، كما أن كلتيهما اليوم تتطلعان إلى فجر جديد. ثم اتفق أن يكون الكتابان حلقتين في سلسلة (اقرأ) وأن يكتبهما كاتبان عربيان متعاصران، وأن يسلكا فيهما نهجا واحداً في التأليف على وجه التقريب!
وقبل أن أحكم على هذا النهج، أحب أن أطلع القارئ عليه كي يشترك معي في الحكم الأخير:
من عنوانات الكتابين المتتالية يتضح هذا النهج بعض الوضوح. فهذا كتاب دمشق يبدأ هكذا ويسير:
(دمشق وطبيعتها) ثم (تاريخ دمشق السياسي: تاريخ دمشق القديم. دمشق قبل الفتح العربي. دمشق في الإسلام. دمشق في عهد العباسيين. دمشق في عهد ملوك الطوائف. دمشق في عهد السلجوقيين. دمشق على عهد الدولتين النورية والصلاحية. دمشق على عهد المماليك. دمشق في عهد الدولة العثمانية. دمشق في العهد الأخير).
فإذا انتهى التاريخ السياسي على هذا النحو بدأ (التاريخ العمراني) على النحو نفسه متتابعاً من التاريخ القديم إلى الحديث. حتى إذا انتهى من تاريخ عمارتها ابتدأ (وصف القدماء والمحدثين لدمشق). فإذا انتهى هذا الوصف بالترتيب الزمني تحدث عن (سكان دمشق وخصائصهم). حتى إذا انتهى هذا الفصل تحدث عن (الحياة الأدبية والفنية والصناعية) في تدرجها حتى العهد الأخير مع تقسيم هذه (الحياة) إلى أقسام كل منها له بدء ونهاية حسب التدرج التاريخي (فالعلم والأدب لهما فصل منفرد و (الفنون الجميلة) لها فصل كذلك ومثلها: (صناعات دمشق) و (تجارة دمشق). ثم يفرد المؤلف فصلا عن (غوطة دمشق) لأن لهذه (الغوطة) شأنا خاصاً وفي هتافات الشعراء بنوع خاص.
أما كتاب بغداد فتسير عنواناته على النحو التالي:
(بغداد) ويشمل بحثا عن معنى الكلمة وتاريخها. (خبر بنائها. سبب الاختيار. البدء بالبناء) ثم (شذرات من سجايا البغداديين وشمائلهم) ثم (شذور من أقوال أهل الفضل فيها نظما ونثرا). ثم (خلاصة التاريخ السياسي لبغداد) مقسما إلى ثلاثة أبواب لكل باب فصول تتمشى مع تمشي الزمن إلى اليوم. ثم تاريخ عمارة بغداد ويسميه المؤلف (الخطط والآثار) فإذا انتهى من تعدادها وبيان أماكنها تحدث عن (الحياة العقلية) مقسمة إلى (العلوم الشرعية) و (العلوم الكونية) و (العلوم اللسانية) مع فصل كل منها عن الأخرى وتنبع خطواته. ثم إذا انتهى تحدث عن (الشعر والشعراء) في عجلة واختصار.
هو نهج واحد سار عليه المؤلفان، الاختلاف فيه هو اختلاف الأداء واختلاف المستوى. ولكنه ليس اختلاف النهج ولا اختلاف الطريق.
وهو نهج لا نوافق عليه في الكتابة عن (المدن) في هذا الزمان. وإن لم ننكر ما يفيد منه القارئ العجلان من بعض (المعلومات).
أقول (المعلومات) وهي كل ما يضطلع هذا النهج بتقديمه للقارئ. ولكنها معلومات مبعثرة بعثرة هذه العنوانات التي أسلفها. مسوقة بطريقة بدائية في التأليف إذا قبلناها من مثل صاحب (تاريخ بغداد) و (خطط المقريزي) و (تاريخ ابن الأثير) وسواهم في الزمن القديم، فلسنا نقبلها من مؤلف عربي في القرن العشرين؛ نتطلب منه أن يخطو خطوة وراء (المعلومات) المتناثرة. خطوة التنسيق الفني. وخطوة (التشخيص) والإحياء.
أقول (التشخيص) وهو أفضل مناهج الكتابة عن (المدن) في هذا الأوان. . .
فالمدينة يجب أن يكتب عنها كما يكتب عن (الشخص) الحي، والشخص الحي وحدة تنمو كاملة بمرور الأيام، ولا تنمو أجزاء وتفاريق. لا ينمو جسم (الشخص) الحي وحده، وينمو عقله وحده، وتنمو نفسه وحدها. وإذا تحدثنا عنه فلسنا نبدأ بنموه الجسمي فنتحدث عنه من مولده إلى وفاته. ثم نكر راجعين إلى عقله من البدء للنهاية. ثن نكر للمرة الثالثة إلى نفسه على التوالي. إنما نحن نتناول مراحل حياته فنسجل مظاهر النمو في كل قواه التي لا تنفصل ولا تتجزأ؛ والتي يموت الكائن الحي فيه إذا نحن فصلناها وجزأناها!
وتاريخ حياة (المدن) كتاريخ حياة (الأشخاص) لا ينفصل فيه النمو السياسي عن النمو العمراني عن النمو العقلي عن النمو الفني. إنما يسير هذا كله وحدة لا تتجزأ في المرحلة الواحدة، وتسير المراحل المتتالية متواصلة كالأمشاج، متفاعلة كالعناصر المختلفة في المزاج.
يجب أن تطالعني (دمشق) أو تطالعني (بغداد) بنية حية؛ تبدأ صغيرة، ثم تنمو وتنمو، ثم تتعاقب عليها الأحداث فتترك آثارها في هذه البنية الحية، التي لا تنفصل ذراتها لأنها لا تزال على قيد الحياة.
يجب أن يجتهد المؤلف في (إحياء) هذه المدينة، حتى تبرز لي شخصية متماسكة حية تعاطفني؛ وأعاطفها؛ وحتى أساير خطاها في الزمان بقلب جياش يطلع منها على ضمير منفعل، وحركة مثيرة؛ أو على حسن خامد وغفوة هامدة، أو على صراع مع الأحداث والأيام، تواجهه بقلب الكائن الحي، الذي يضطرب وينبض للأحداث والأيام.
فأين هذا كله من كتابي (دمشق) و (بغداد)؟
تبقى الموازنة بين الكتابين في دائرتهما المتواضعة! وكثيرون من الناس يشفقون من الموازنة بين الأحياء؛ وينصحون لي بالكف عن هذه الموازنات التي تثير الغيرة والخصومات!
وأنا لا أومن بهذه النصائح التي تنشأ من (تقاليد الصالونات) تلك التقاليد الناعمة الرقيقة، التي لا يمكن أن تبرأ من الجبن والنفاق. في الوقت الذي تبرأ من أعظم عناصر الحيوية، الحسم والحماسة!
كتاب (دمشق) أوسم واثمن من كتاب (بغداد) والتماسك بين مباحثه المتفرقة أدق وأعمق. ونفس المؤلف فيه أقوى وأطول. وقد عرف المؤلف حدود المجال الذي يضطرب فيه فلم يزج بنفسه في مباحث (كبيرة) لم يتهيأ لها في هذه الحدود.
مثال ذلك ما زج بنفسه فيه مؤلف كتاب (بغداد) من الحديث عن خصائص الشعر البغدادي. ذلك الموضوع الخطر الذي يحتاج الحديث عنه إلى فطرة موهوبة، وإلى بحث كذلك عميق. فلم يزد فيه على الملخصات المدرسية المعروفة. من ذلك قوله: (والناقد البصير مضطر إلى الاعتراف بما لشعراء بغداد النابتين فيها والطارئين عليها من الفضل على الشعر في تنويع أغراضه، وابتكار البارع من معانيه وأخيلته، ونشر الآراء الحرة والمذاهب الجديدة، والبراعة في رسم الصور المبتكرة في الأوصاف وغيرها. كما أنه عليهم تقع تبعة إذاعة الزندقة والتشكيك في العقائد، والاسترسال وراء الأهواء. وهم أول من فتح باب الغزل في المذكر، أو - على الأقل - هم أول من وسع هذا الباب، وأغرقوا فيه أيما إغراق. كما أنهم أول من وسع هذا الباب، وأغرقوا فيه أيما إغراق. كما أنهم أول من وسع باب المجون وغالوا فيه غلواً تستنكره الطباع السليمة والنفوس المستقيمة، ولم يكترثوا لما يتقيد به المؤمنون من كرائم الخلال، ومحامد الخصال وأكثر المندفعين في هذه المسالك من الموالي الذين لم يملأ الإيمان صدورهم، ولا ارتاحت إلى عقولهم من أمثال بشار بن برد وحماد عجرد وحسين بن الضحاك وأبي دلامة. . . الخ)
ثم يجمل ما جد من الشعر ببغداد في نقط كالنقط المدرسية في مذكرات التلاميذ:
(1 - الركون إلى الأنيس من الألفاظ وهجر الغريب الحوشي.
2 - الإكثار من الألفاظ الدخيلة ولا سيما الدالة على أنواع الخمور وضروب الأزهار وأصناف الأطعمة.
3 - استعمال مصطلحات العلوم التي كثرت في هذا العصر.
4 - الاهتمام بالمحسنات البديعية اللفظية منها والمعنوية كالجناس والتورية ورد العجز على الصدر والطباق. وأكثر الشعراء ولعاً بهذه المحسنات مسلم بن الوليد وأبو تمام وعبد الله بن المعتز
5 - الميل إلى سلامة التراكيب وانسجامها مع الاحتفاظ بجزالة الأسلوب وظهور المعنى).
وعلى النسق نفسه يسرد ما جد في (معاني الشعر وأخليته) وما جد في (أغراضه وفنونه):
واعتقد أن الكتابة على هذا النحو لا تصلح لغير التلاميذ.
وبعد ففي الكتابين كما قلت (معلومات) مفيدة في اختصار ينفع المتزود العجلان. ولكن هذه المعلومات كان يمكن أن تستحيل لبنات متماسكة في بناء الكتابين لو سار المؤلفان الفضلان على منهج (التشخيص) والإحياء الذي أسلفا بيان خصائصه.
وإذا كان للنقد وظيفة فليست وظيفته هي تغيير طبائع المؤلفين المخلوقة، ولا زيادة طاقاتهم المحدودة؛ ولكن وظيفته أن يوجه الأنظار إلى المنهاج الأقوم ليسلكه من يملك الطبيعة، ومن يطيق السلوك فيه.
سيد قطب