مجلة الرسالة/العدد 615/في عيد المعري

مجلة الرسالة/العدد 615/في عيد المعري

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 04 - 1945



من حلب إلى دمشق

للدكتور عبد الوهاب عزام

عميد كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

كان أعظم ما رأيت من آثار حلب ذلك اليوم مقبرة الفردوس وكنت سمعت بها، وحرصت على رؤيتها في زورتي لحلب قبل ثماني سنين فأُعجِلت عنها آسفاً.

وهي مقبرة نادرة بنيت على هندسة المساجد، أو مسجد اتخذت أروقته للقبور. يدخل داخلها إلى صحن شرقية وغربيه رواقان في مستوى الصحن وفي جهة القبلة منه مسجد، وفي الجهة الشمالية عقد كبير فوق رواق مرتفع. والرواقان اللذان على جانبي الصحن بهما قبور أكثرها قديم وبعضها حديث. ويرى الداخل إلى المسجد ثلاث قباب: الوسطى وهي الكبرى تقوم فوق مصلى، وعلى جانبي هذه القبة قبتان أخريان تحت كل منهما حجرة كبيرة فيها قبور: فالبناء في جملته مقبرة مشيدة على هيئة مسجد. . . وما رأيت فيما رأيت من الآثار الإسلامية مقبرة أخرى على هذه الشاكلة. وشمالي هذا البناء حديقة ذابلة يشرف عليها رواق كبير خارجي وراء الرواق الداخلي الذي في شمالي الصحن. وعلى جوانب الصحن والمسجد كتابة كثيرة أعجلني ضيق الوقت عن قراءتها كلها. وهي آيات من القرآن وأبيات، وكلمات مأثورة.

وكان في عشية ذلك اليوم، يوم الخميس 11 شوال، احتفال حلب بذكرى المعري، فاحتشد جمع عظيم في فناء المدرسة الثانوية وقد أخذت زينتها من الأعلام والمصابيح، وتكلم هناك من أدباء العربية: السيد طه الراوي، والدكتور طه حسين، والأستاذ عبد القادر المازني؛ وأدباء وشعراء آخرون وكان يوماً مشهوداً.

وأصبحنا نتأهب للمسير إلى اللاذقية وودنا أن نفسح الوقت للتلبيث في حلب. وفصلنا من مدينة سيف الدولة ضحوة الجمعة فضربنا صوب الغرب والجنوب في سهول خصبة فيها آثار الكدح والدأب حتى لاحت إدلب بيضاء بين أشجارها. وأكثرها أشجار الزيتون، وكانت سيارتنا متقدمة فوقفت في ظاهر البلد ليلحق بنا الركب. ثم دخلنا المدينة فإذا حش منظم من رجال الحكومة والمدرسين والطلبة يسر العين والقلب، والموسيقى تدوي فتبث ألحانها في هذا الجمال فإذا هو كله موسيقى مؤتلفة، واستقبلتنا طالبات صغيرات ينشدون أناشيد للبلاد العربية كلها، ويقدمن الأزهار إلى ضيوفهن. هنالكم اجتمعت ذكرى الماضي وصور الحاضر وأماني المستقبل، في أصوات هؤلاء الناشئات العربيات. فكان هذا ثقلا على القلب فزع منه إلى العيون يستنجد دمعها فذكرت قول البحتري:

وقفة بالعقيق نطرح ثقلاً ... من دموع بوقفة في العقيق

ورأيت أحد الأصدقاء من أدباء دمشق يغالب دمعه. وقد لقيني من بعد فقال: تبين لي أنا لم نكن وحيدين في الشجى، وأن غيرنا غلبته عبراته في هذا المقام. وما كانت هذه العبرات إلا أمشاجاً من الفرح والحزن، والألم والأمل، والحماس والعطف. وما لا يستطاع الإعراب عنه من أشجان غامضة، وعواطف مبهمة يجمعها كلها اضطراب النفس بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، واغتباطها وطربها بما ترى وتسمع وتتخيل.

ومررنا بين الجموع لنستأنف السير فقال لي أحد الشبان: أهذه رحلة أخرى يا أستاذ؟. قلت وعيناي أفصح من لساني: أجل! رحلة جميلة جليلة ألحقها برحلاتي الماضية.

إدلب مركز قضاء سكانها زهاء عشرة آلاف. وهي معروفة بالزيتون والقطن والبطيخ. ولكثرة الزيت بها عرفت بصناعة الصابون حتى سميت إدلب الصابون. كذلك أخبرني بعض الرفقاء من الشام.

وبعد مسيرنا عن إدلب علونا أرضاً جبلية فسرنا في حدور وصعود حتى جئنا جسر الشغور. وهو قرية كبيرة عبرنا عندها جسراً على مجرى ماء، وشرعنا نصعد بعدها جبالاً عالية مخضرة، ومازلنا صاعدين وهابطين حتى وقفنا عند أشجار باسقة ظليلة عندها مسيل ماء قليل ينصب في حوض، ويسمى قسطل العجوز. وكانت الساعة إذ ذاك اثنتي عشر وربعاً. ويقول ياقوت: القسطل بلغة أهل الشام الموضع الذي تغترف منه المياه، وهناك استقبلنا وفد من الصحفيين قدم من اللاذقية. وكثرت على طريقنا أشجار الصنوبر. وما زالت الطريق تتمعج بنا على سفوح الجبال وفي الأودية. وكلما جزنا جبلاً لقينا أعلى منه وأروع، حتى استقبلنا طريق صعود على سفح جبل شاهق، وشفا واد هائل، فلما شارفنا القمة وقفت السيارات بغتة ولما تبلغ مأمنها من القمة. قلنا ما الخطب؟ فإذا سيارة تشتعل فيها النار ليست من سيارات الركب. فزع بعضنا لهذه الوقفة في هذا المكان المخوف، ولهذا الحريق المفاجئ فنزلوا من السيارات مسرعين إلى جانب الطريق. وبينما الأستاذ المازني يتجنب هذا الخطر بعد أن نال منه الإعياء في هذا السير الشاق تقدم إليه سائل يسأله عن مطلع قصيدة لأحد الشعراء، فنال القصائد والشعراء ما نالهم من غضبة المازني.

وبعد الكلال والملال وطول السؤال بلغنا مقصدنا حرش باير. وهو حرج على قمة عالية مشرف على البحر يطلع السائر فيه على مناظر جليلة جميلة رائعة على السفح الغربي المفضى إلى الساحل، وكان هناك موعدنا للغداء في ضيافة الأديب العالم الأمير مصطفى الشهابي متصرف اللاذقية (أو متصرف جبل العلويين، واللاذقية عاصمة الجبل) وقد نعمنا بالراحة بعد التعب، والطعام بعد الجوع، وأنسنا بجماعة من التركمان يزمرون ويطبلون، وكانت جلسة فرحة مكافئة لما سبقها من تعب، وما لحقها من مسير طويل.

ومشينا بعد الغداء قليلا نطل على جمال السفوح الغربية وجلالها وروعتها ويتمنى الشعر والخيال التلبث بها. ثم ركبنا فهبطنا حتى أفضينا إلى سهل خصب يكثر فيه شجر الزيتون. ولما انتهينا إلى الساحل سايرناه شطر الجنوب حتى بلغنا بشق الأنفس المدينة التي نؤمها، وقد رددنا أسمها على الطريق في شعر المتنبي وغيره. كقول أبي الطيب، غفر الله غلوه.

لك الخير غيري رام من غيرك الغني ... وغيري بغير اللاذقية لاحق

هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق

وبلغنا المدينة قبيل الغروب فأسرع بنا النقيب إلى الفندق الذي أعد لنزولنا ولحفلة المعري فندق الكازينو، وهو مشرف على البحر، متصل بأمواجه.

وكانت حفلة أبي العلاء في فناء الفندق بعد الغروب فغص المكان بالمستمعين، وتكلم في أبي العلاء أساتذة من مصر والشام، وأنشدت قصائد تشيد بشاعر العرب الفيلسوف. ثم كان العشاء والسمر في الحديقة من دار الأمير الشهابي فنسى الضيوف هناك ما لقوا من نصب النهار. وفاتتني هذه المأدبة إلا أخبارها، إذ قعد بي الإعياء عن الخروج إليها ورحم الله ابن حمديس.

فإن أك أخرجت من جنة ... فأني أحدث أخبارها

وأصبحنا نسير في اللاذقية - وهي مدينة جميلة نظيفة يرجى لها في مستقبل البلاد العربية شأن عظيم - إلى الشارع الذي سمي شارع أبي العلاء وهو شارع في وسط المدينة ينتهي بعقد قديم من آثار الرومان فيما يظن. سرنا إلى المكان في موكب عظيم والموسيقى تدوي والهتاف بالبلاد العربية يعلو. وتقدم محافظ الإقليم الأمير مصطفى الشهابي فافتتح الشارع فسار الموكب فيه. واللاذقية، على نجد مشرف على البحر فيها كثير من أشجار الزيتون والتين والتوت وفيها بساتين كثيرة يسقيها النهر الكبير ولها مكانة في التجارة وسكانها اكثر من عشرين ألفاً.

وبرحنا اللاذقية والساعة عشر وعشر دقائق نسير صوب الجنوب مع ساحل البحر. وجاوزنا نهيراً صغيراً يسمى نهر أبي علي اخبرني الرفقاء انه ينحدر من جبل الأقرع ويسير إلى البحر، وضربنا في سهل واسع خصب يمتد بين الساحل وجبال العلويين. ورأينا جبلة على يسارنا في شرقيها جامع ظاهر. وهي مركز قضاء جبلة وحولها بساتين وسكانها زهاء ستة آلاف.

ولجبلة ذكر في الخطوب العظيمة التي انتابت بلاد الشام بأيدي الروم ثم الصليبين. وكانت حين الفتح الإسلامي حصنا للروم فلما جلوا عنه بنى معاوية حصنا آخر وبلدة، وينسب إلى جبلة جماعة من العلماء.

وقاربنا الجبال فسايرناها بعيدين من الساحل، ثم عاج بنا الطريق إلى البحر فمررنا ببلدة بانياس وقلعة المرقب، وما زلنا في طريقنا بين البحر والجبل نمر بقرى قليلة ونعبر جسوراً على مجاري مياه سائلة من الجبال إلى الساحل، ونمر بأشجار من الزيتون في الحين بعد الحين حتى بلغنا طرطوس والساعة إحدى عشرة ونصف. فنزلنا إلى حديقة هناك صغيرة بجانب بناء كنيسة عتيقة سماها بعض الكتاب الأوربيين نوتردام دي طرطوس تشبيها لها بكنيسة نوتردام دي باريس. دخلنا البناء وهو معطل يحتاج إلى الترميم. وكان قد اتخذ مسجدا ووضع له منبر. ولا ريب أن أيدي المسلمين والصليبيين تداولته إبان الحروب الصليبية. وبعد زيارة هذا المسجد جلسنا إلى حوض في الحديقة قليلاً ثم ركبنا بعد نصف ساعة من نزولنا

ومررنا على مقربة من طرطوس بخرائب عمريت. وكانت من مدن الفينيقيين الكبيرة، وبجزيرة أرواد المعروفة في التاريخ.

ثم تركنا البحر وطريق الساحل المؤدي نحو طرابلس بين جبال لبنان والماء، وعطفنا ذات الشمال، فضربنا في إقليم جبلي حتى لاح لنا عن يسارنا بعيداً حصن الأكراد منيفاً على الجبل، يتميز عن القمم ببياضه وارتفاعه. وهو حصن كبير قديم، شارك في خطوب الحروب الصليبية زمناً طويلاً. ويقول ياقوت:

(هو حصن منيع حصين على الجبل الذي يقابل حمص من جهة الغرب). وقال: (وملكه الفرنج وهو لا يزال في أيديهم إلى هذه الغاية، وبينه وبين حمص يوم. ولا يستطيع صاحبها انتزاعه من أيديهم.)

ثم سايرنا النهر الكبير الذي يسير حيناً مع حدود لبنان. وسألنا هناك كم بيننا وبين حمص، فقيل: أربعون كيلا. وجاوزنا بعد قليل تل كلح، وهي قرية صغيرة على سكة الحديد بين حمص وطرابلس.

والآن نطوي الطريق قراه ومزارعه لنستقبل جنات العاصي الناضرة تحي القادم إلى حمص وتبشره بدخولها.

ودخلنا حمص نضرها الله والساعة اثنتان من المساء.

فبدأنا بزيارة الزعيم الكبير السيد هاشم الأتاسي، رئيس الجمهورية قبلاً. وكانت رؤيته بلوغ أمل قديم. فنعمنا بالحديث معه في داره على قدر ما وسع الوقت الضيق. ثم خرجنا إلى الروضة، إحدى حدائق حمص العامة، وكان في ظلال الشجر أخذنا بأطراف الحديث، ثم اجتمعنا على المائدة.

وتكلم هناك الأستاذ عارف النكدي، وتلوته بكلمة. وكان لا بد لي أن أتكلم في حمص إعراباً عما جاش في نفسي من ذكر الماضي والحاضر حين دخلتها، ومما قلت:

(يملأ نفسي إعجاباً وروعة وفخاراً، أن أقف على مقربة من أعظم تمثال للبطولة المجاهدة المخلصة المطيعة، ضريح خالد بن الوليد رضى الله عنه. . .

ياقومنا، إن الفرصة قد سنحت، والزمان ضنين بفرصه، والفرص سريع مرورها، فاحذروا أن تناموا والخطوب يقظي، أو تبطئوا والزمان يسرع، أو تقفوا والفلك يدور، أو تهزلوا والزمان يجد. ألا إن تكاليف المجد شاقة، ومطالبه صعبة، وغاياته بعيدة، ولكن في ضمان العزائم المجتمعة، وفي كفالة النفوس الأبية تذليل الشاق، وتيسير الصعب، وتقريب البعيد.

فأجمعوا أمركم، واجمعوا كلمتكم. وتقدموا إلى العمل بقلوب ملؤها الرجاء والأمل، ورؤوس ملؤها الحكمة والروية، وأيد ملؤها النشاط والقوة. . . الخ الخ

وفصلنا من حمص والساعة أربع وثلث راجعين أدراجنا إلى دمشق الحبيبة.

وكان في دمشق ختام عيد أبي العلاء يوم الأحد رابع عشر شوال من سنة أربع وستين وثلثمائة وألف (أول تشرين الأول سنة 1944)

عبد الوهاب عزام