مجلة الرسالة/العدد 619/الأسرة والمجتمع

مجلة الرسالة/العدد 619/الأسرة والمجتمع

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 05 - 1945



للدكتور علي عبد الواحد وافي

أستاذ علة الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

من بين الحقائق التي عنيت بإبرازها وتوكيدها في كتابي (الأسرة والمجتمع)، الذي ظهر أخيراً في مؤلفات (الجمعية الفلسفية المصرية)، وأن الأسرة تقوم على مصطلحات يرتضيها العقل الجمعي، وقواعد تختارها المجتمعات، وأنها لا تكاد تدين بشيء لدوافع الغريزة، بل إن معظمها ليرمي إلى محاربة الغرائز أو توجيهها إلى طريق غير طريقها الطبيعي.

وقد ناقش الأستاذ العقاد الفقرة الأولى من الدليل الأول الذي أوردته لتأييد هذه النظرية، وهو - كما أشرت في مقالي السابق - واحد من أثنى عشر دليلاً ذكرتها مسلسلة في هذا الكتاب. فظهر له أن ما تشير إليه هذه الفقرة لا ينهض حجة على صحة ما ذهب إليه. ثم أدلى برأية في هذا الموضوع، فذكر أن الغريزة وراء الظواهر الاجتماعية في جميع شئون الأسرة أو في أهمها على الأقل، وأستدل على ذلك بعدة أمور.

ولست محاولا في هذا المقال أن أسرد ما أغفله الأستاذ العقاد من الأدلة التي أوردتها في كتابي لتأييد نظريتي، والتي لا تدع مجالاً للشك في صحتها؛ لأن محاولة كهذه لا يتسع لها المقام من جهة، ولأنها من جهة أخرى ستكون مجرد تلخيص مخل لمسائل استغرق بحثها نحو مائة وخمسين صفحة في الكتاب. ولذلك سأقتصر على مناقشة الأستاذ في النظرية التي أوردها، وهي أن الغريزة وراء الظواهر الاجتماعية في أهم شئون الأسرة

ذكر الأستاذ لتأييد نظريته هذه أموراً كثيرة يمكن وجعها إلى دليلين رئيسيين. وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذين الدليلين إذ يقول: (إن أمرين أثنين تختلف النظم العائلية ما تختلف بين الشعوب والأجيال وهما ماثلان في كل أسرة وفي كل شعب وفي كل جيل. وهما حضانة الطفل والألفة الحميمة بين فئة من الأقرباء. وكلا هذين الأمرين قائم على الغريزة الفطرية دون سواها على نحو متشابه في جميع الأجناس وجميع العصور). وأتخذ من هذين الأمرين حجة على أن النظم الأساسية المشتركة في العائلات الإنسانية قائمة على الغريزة

ونحن نشكر للأستاذ كثيراً أن قدم لنا دليلين من أقوى الأدلة على صحة ما نذهب إليه؛ فكفانا بذلك مئونة الجهد في تأييد ما قررناه في كتابنا، وفي الرد على نظريته.

1 - حقا إن حضانة الأولاد أمر غرزي عند معظم الحيوانات على اختلاف يسير فيما بينهما: فأحياناً تتوافر هذه الغريزة عند الأم وحدها؛ وأحياناً عند الأب وحده؛ ولكنها في معظم الحيوانات الزوجية (وهي التي تعيش زوجين زوجين، والتي منها الإنسان) تتوافر لدى الأب والأم معاً. ولكن هل تسير الحضانة في الأسرة الإنسانية وفق ما تميله هذه الغريزة؟ الحقيقية أن النظم الاجتماعية وحدها هي التي تتحكم في الحضانة تحكماً مطلقاً لا تقيم فيه وزناً للغريزة ولا لمقتضياتها، وأن الأسرة الإنسانية تخضع في ذلك لما يسنه لها المجتمع سواء أكانت شرعته متفقة مع منهج الغريزة، أم كانت معدلة له، أم مختلفة معه كل الاختلاف. بل لقد وصل الأمر في كثير من الشعوب أن اصبح واجباً على الآباء أن يقتلوا أولادهم أو بعضهم أو جنساً معيناً منهم عقب ولادتهم أو في سن الطفولة أو يلقوا بهم في مكان قفر أو يقدموهم قرباناً للآلهة، وأبت هذه المجتمعات إلا أن يتم لها ما أرادت ولو كرهت الغرائز، وسارت العائلات وفق ما أملته عليها نظم مجتمعاتها لا وفق ما فطر عليه أفرادها من غريزة. فمن ذلك مثلاً أن النظم الإسبرطية كانت توجب على الأدباء إعدام أولادهم الضعاف أو المشوهين أو المرضى عقب ولادتهم أو تركهم في القفار طعاماً للوحوش والطيور. وكانت الأم نفسها تلجأ إلى مختلف الوسائل لتحقيق هذه الغاية؛ مع أن غريزة الحضانة والحدب على الصغار عند أنثى الإنسان ومعظم الحيوانات الثديية تتجلى في أوضح مظاهرها حيال الضعاف من الأولاد (ولعل الأستاذ العقاد يذكر بيت المهلهل:

كأن كواكب الجوزاء عوذ ... معطّفة على رُبَع كسير

فللتأكد من صلاحية ولدها للحياة في نظر مجتمعه، كانت ستغمسه عقب ولادته في دن من النبيذ، وتركه مغموساً وقتاً ما: فإن عاش بعد ذلك هذا على قوة بنيته واستحقاقه للتربية؛ وإن مات أدت الأم واجبها نحو المجتمع بأن خلصته من كائن ضعيف لا يستحق الحياة في نظره. وهذا النظام نفسه أو ما يقرب منه كان سائداً في أثينا وفي روما وقد أقره فلاسفة اليونان أنفسهم وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو. ومن ذلك أيضاً أن التقاليد الاجتماعية كانت توجب على الآباء في كثير من الشعوب البدائية وغيرها قتل أولادهم جميعاً أو بعضهم في جميع الحالات أو في حالات خاصة لاعتبارات دينية أو اقتصادية. ومن هؤلاء بعض عشائر من عرب الجاهلية كانت تقتل أولادها ذكورهم وإناثهم في بعض الحالات؛ وعشائر أخرى كانت تصطفي الذكور وتئد البنات وفي كثير من الشعوب كانت النظم الاجتماعية توجب على الآباء تقديم أولادهم أو بعضهم في حالات خاصة قرباناً للآلهة. ومن هؤلاء قدماء المصريين والعبريين والعرب في الجاهلية. بل إن أقدم صورة للأضحية في المجتمعات قد تمثلت في الأضحية الإنسانية التي يقدمها الآباء من أولادهم. وفي معظم المجتمعات الإنسانية، إن لم يكن في جميعها، لا يقوم الأب بحضانة ولده من السفاح؛ مع أن الغريزة لا تفرق بين ولد شرعي وولد غير شرعي، وإنما جاءت هذه التفرقة من النظم الاجتماعية وحدها. بل إن الأم نفسها كثيراً ما تتخلى في هذه الحالة عن الحضانة فتقتل ولدها أو تلقيه في الطريق، متصامّة عن نداء الغريزة، خشية ما تجره عليها نظم مجتمعها وعرفه الخلقي.

وإذا كان الآباء في معظم مجتمعاتنا المتمدينة الحاضرة يسيرون في حضانة أولادهم في حالة الزواج الشرعي وفق المنهج الغريزي إلى حد ما، فإن السبب في ذلك يرجع إلى أن النظم الاجتماعية قد أوجبت عليهم حضانة أولادهم وتربيتهم على هذا الوضع، وأتاحت لهم بذلك إرضاء غرائزهم، ولو أنها سارت بهم في طريق آخر، كما كان الشأن في شعوب أخرى كثيرة، ما استطاعوا إلى مقاومتها سبيلاً، وما وجدت غرائزهم منفذاً إلى الظهور. على أن هذه الحضانة، إذ يقرها المجتمع ويوجها على الآباء، لا يتركها للغريزة تتجه بها كما يشاء، بل يتدخل في تنظيمها ويضع لها قيوداً وأحكاماً تبعد بها كبيراً عن طريقها الفطري. وإن نظرة يسيرة في أحكام الحضانة في القانون الروماني القديم والقانون الفرنسي الحديث وفي الشريعة الإسلامية، وفيما تقرره هذه الشرائع من أحكام وقيود بهذا الصدد في حالة بقاء عقد الزواج، وفي حالة فسخه، وفي حالة موت أحد الزوجين، وفي حالة زواج أحد الأبوين بزوجة أخرى أو زوج آخر. . . إن نظرة يسيرة إلى هذه الأمور وما إليها لكافية في الدلالة على أن النظم الاجتماعية، حتى في حالة إقرارها مبدئياً لحضانة الأبوين لأولادهما لا تترك هذه الحضانة للغريزة توجهها كما تشاء، بل تتدخل في تفاصيلها وعناصرها ومدتها، وتضع لها من القيود ما يبعد بها كثراً عن سنن الغريزة

أفبعد هذا دليل على أننا بصدد نظام يقوم على مصطلحات اجتماعية لا على أمور تقررها الغرائز؟!

2 - وأما (الألفة الحميمة بين فئة من الأقرباء) التي ظن الأستاذ أنها أمر غريزي وأنها دعامة لجميع النظم العائلية، فحقيقة الأمر أنها ليست من الغريزة في شيء، وأن النظم الاجتماعية هي التي تخلقها خلقاً، وتحدد مجراها ونطاقها، وتسر بها في السبيل الذي يرتضيه العقل الجمعي، ويتفق مع ما تصطلح عليه الجماعة من أوضاع؛ فإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على (النظام الأمي) تألف أقرباء الفرد من أمه وأقارب أمه فحسب، على حين يصبح أبوه وأقارب أبيه أجانب عنه، لا تربطه بهم أية رابطة من روابط القرابة، ولا يشعر نحوهم كما لا يشعرون نحوه بأية عاطفة عائلية، ولا بأية ألفة حميمة أو غير حميمة. وإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على (النظام الأبوي)، تنعكس الآية فتتجه العاطفة والألفة إلى الأب وأسرته، وتصبح الأم وأسرتها أجانب عن الولد لا تربطه بهم أية قرابة، ولا يشعر نحوهم بأية عاطفة أو ألفة. وإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على النظام المشترك (وهو النظام الذي يعترف بقرابة الولد لكل من أبيه وأمه) مع ترجيح ناحية الأب أو ترجيح ناحية الأم اتجهت الألفة والعاطفة إلى الناحية التي يرجحها المجتمع أكثر من اتجاههما إلى الناحية الأخرى؛ وإذا كان محور القرابة في الأمة يعتمد على ناحية أخرى غير الأب والأم (وكثيراً ما تحقق ذلك في المجتمعات الإنسانية) انقطعت صلة الولد بأبيه وأمه معاً، واتجهت عاطفته وألفته نحو الجماعة التي يلحقه بها مجتمعه.

فلسنا إذن بصدد أمور تحددها صلات الدم أو تقررها الغرائز، بل بصدد نظم تصطلح عليها المجتمعات اصطلاحاً. والألفة التي يتحدث عنها الأستاذ العقاد، حتى في صورتها العاطفية الخالصة: لا تقوم على أساس من الغريزة؛ وإنما تخلقها النظم الاجتماعية خلقاً، وتتجه بها في الطريق الذي تريد. على أن هذه الألفة لا تتمثل في أمور عاطفية فحسب؛ وإنما يتمثل أهم عناصرها في طائفة من الحقوق والواجبات التي تربط الأقرباء بعضهم ببعض. وغنى عن البيان أن هذه الحقوق والواجبات لا تدين بشي إلى الغريزة؛ وإنما مردّها إلى المجتمع وقوانينه؛ بل لقد وصل الأمر في كثير من الشعوب الإنسانية أن انعدمت الألفة بمعناها العاطفي بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الأقوياء؛ لأن الأوضاع الاجتماعية كانت تحول دون نشأة الألفة بينهم بهذا المعنى؛ ولم تبق إلا الألفة بمعناها القانوني والاجتماعي متمثلة في الحقوق والواجبات التي تربط أفراد الأسرة وتربط الأقرباء بعضهم ببعض. وإليك مثلاً العشائر البدائية باستراليا التي كان معظمها يسير على (النظام الأمي) (وهو الذي تعتمد القرابة فيه على الأم وحدها). ففي هذه العشائر كانت الأم تقيم عادة مع الأب في منازل عشيرته، مع أنها كانت تنتمي دائماً إلى عشيرة أخرى (فقد كان يحرم تزاوج أفرد العشيرة الواحدة بعضهم من بعض). وكان نساء العشيرة الواحدة يتزوجن من رجال ينتمون إلى عشائر متعددة ويسكنون مناطق مختلفة. وكان أولادهن بمقتضى النظام المتبع (وهو النظام الأمي) ينتمون إلى توتم أمهاتهم وعشيرتهن، ويؤلفون معهن أسرة واحدة. وقد ترتب على ذلك أن كل أسرة من الأسرات التي تتبع هذا النظام كانت مبعثرة الأفراد، لا يضم أعضائها مكان واحد، ولا يمكن أن تتكون بينهم ألفة عاطفية: يجمعهم ذلك الرباط الاجتماعي الديني، وتربطهم بعضهم ببعض طائفة من الحقوق والواجبات؛ بدون أن تنتظمهم وحدة جغرافية أو تؤلف بينهم رابطة إقليمية، أو تتوافر الظروف التي تنشئ في نفوسهم ألفة بمعناها الوجداني الطبيعي.

علي عبد الواحد وافي

دكتور في الآداب من جامعة السربون