مجلة الرسالة/العدد 619/سياسة التعليم ووحدة الأمة

مجلة الرسالة/العدد 619/سياسة التعليم ووحدة الأمة

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 05 - 1945



للأستاذ عبد الحميد مطر

- 4 -

إن الروح العالمية التي أملت على وزارة المعارف التنازل عن سلطانها إلى فروعها في المناطق التعليمية الإقليمية وفي إدارات مدارسها بمشروع اللامركزية الذي وضعته ونفذته أخيراً - تلك الروح تستحق كل ثناء وإعجاب لأنها تدل على أن الوزارة جادة في تلمس أسباب الإصلاح. وإذا كانت هذه هي الخطوة الأولى في سبيله فإنه لا بد أن يتلوها خطوات؛ لأن الإصلاح يتطلب بجانب لتنظيم إدارات التعليم تنظيماً لمعاهد التعليم على أسس جديدة تغير من روحها ومن جوهر الحالة القائمة فيها لتنتج الخطوة الأولى نتيجتها. وبث الروح الجديدة في المعاهد يتطلب مجهوداً جباراً ويتطلب تعاوناً صادقاً من الرجال ذوي التجارب الذين مارسوا المهنة طويلاً، والذين يشرفون على معاهد التعليم، والذين يطلب منهم أن يقوموا بإخلاص بتنفيذ الأسس الجديدة. فلا بد لهؤلاء وهؤلاء أن يقتنعوا بما في المدرسة القائمة من عيوب وأن يقتنعوا بما يجب نحوها من تغير وتبديل بحث وتمحيص. ومشكلة التعليم يجب ألا تحصر في تغيير أسماء بأسماء أخرى، أو في نقل موظفين من هنا إلى هناك، أو في خلق وظائف قد لا يكون لها مبرر. إنما مشكلة التعليم الأساسية هي في المدرسة: في نظمها القائمة، وفي مدرسيها، وفي الروح السائدة فيها، وفي روح طلبتها.

فإذا كنا قد شكونا قديماً من أن روح المدرسة كانت محصورة منذ زمن بعيد في تلقين التلميذ كثيراً من المعلومات ليصبها صباً في ورقة الامتحان ثم ينساها بمجرد الانتهاء منه، فإن هذه الروح لا زالت قائمة إلى اليوم وهي التي تملي على المدرسة ومدرسيها أعمالهم، وتملي على الطلبة طرق السير في حياتهم وفي تفكيرهم، وفي غدواتهم وروحاتهم.

وإذا كنا شكونا حتى بحث الأصوات في كثير من الأوقات بأن المدرسة تباعد بين المتعلم وبين الأعمال والمشاريع الحرة، وإن كل متعلم متى حصل على شهادة فهو لا يفكر في عمل يعمله غير الوظيفة، وأن المتعلمين زاد عددهم قبل الحرب زاد عددهم قبل الحرب زيادة كبيرة، ونعتقد أن سيتضاعف عددهم بعد الحرب، فأن السياسة التي رسمت أخيراً للوظائف بتسعير الشهادات وأعمال الإنصاف قد زادت أبناء الأمة تشبثاً بالوظائف واندفاعاً في سبيلها وتعلقاً بأهدافها فزادت بذلك مسافة الخلف بينهم وبين العمل الحر، وارتفعت نسبة عباد الوظيفة من المتعلمين حتى أصبحت المدرسة بحق هي المصنع الدائم لصناعة الموظفين!

وإذا كنا شكونا قديماً وقلنا بأن المدرسة لا تعني عناية مباشرة بتكوين النواحي الخلقية الضرورية في أبنائها أو بغرس الأخلاق القويمة التي تتطلبها حياة الأفراد والجماعات اليوم من صبر على المكاره ومثابرة على العمل وجهاد وتعاون على الخير الخ. فإن المدرسة لا زالت إلى اليوم تهمل كل هذه النواحي الهامة التي لا ينجح في الحياة فرد ولا مجتمع إلا بها. وإذا كنا شكونا قديماً من أن المدرسة تعني العناية كلها بالأمور المظهرية والصورية دون الأمور الجوهرية في اتصالاتها وأعمالها وحفلاتها فإن الحالة لا زالت تجري اليوم كما كانت قديماً. وإذا كنا شكونا من أن الاتصال الروحي الذي كان قائماً بين التلميذ وأستاذه والذي كنا نحسه قديماً في تلميذتنا يسري في دمائنا ويدفعنا دفعاً إلى تمجيد أساتذتنا واحترامهم مما كان يبعث في قلوبنا للمدرسة الهيبة والتقديس قد أخذ في التضاؤل حتى أصبح شيئاً تافهاً، فإنا نحس اليوم أن ذلك الاتصال الروحي قد انقلب مع الأسف إلى ضده حتى أصبحنا نرى تلاميذ المدارس ينتهزون الفرص أحياناً للنيل من أساتذتهم ونظارهم ومعاهدهم التي تؤويهم. ثم أن روح الاستهتار لم تقتصر على التلاميذ وحدهم بل تعدتهم في الأيام الأخيرة إلى بعض المدرسين الحديثين الذين اصبحوا لا يقدمون حق التقدير وأجبهم وما يلقيه عليهم من مسئوليات، فإذا عبثوا أو أهملوا وسئلوا في ذلك هزوا أكتافهم أو هربوا من المسئولية وألقوها على غيرهم ولفوا وداروا في الظلام بحثاً وراء من يحمي ظهورهم ويشجع استهتارهم بالعمل على ترقيتهم وسبق زملائهم. لذلك نجد أن الروح الجدية أخذت مع الأسف تتلاشى تدريجياً بين مدرسي مدارسنا كما تلاشت بين تلاميذنا. فما بالك إذن بروح التعاون التي تتطلبها المدرسة والجماعة والأمة في سبيل نهضتها ووحدتها!؟

ولقد زاد الطين بلة ما كان من ثورة على مناهج التعليم كأن المناهج لا المعلمين وكأن الخطط لا النظم هي التي تكون الناشئين! فلطالما اهتزت أركان الوزارة في ربع القرن الماضي بتغيير الخطط وتغيير المناهج وإطالة مدة مرحلة من مراحل التعليم وإنقاص أخرى من تلك التغييرات الظاهرية، والتبديلات الجوفاء التي أضافت إلى جمود الروح المدرسي عبئاً آخر من فوضى التغيير الظاهري والعبث بالاستقرار الحقيقي حتى ضج من ذلك المعلم والمتعلم. وكم نادينا على غير جدوى بأن المشكلة الحقيقة ليست في المناهج والخطط ولكنها في نظم الدراسة وروحها ومعلميها. ثم زاد الحالة سوءاً بعد ذلك ما كان من تشجيع الطلاب على الاندماج في الحزبية الجامحة بالكثيرين منهم إلى الخروج على أبسط قواعد الأدب وتقاليد المجتمع!

كل ذلك يلمسه ويحسه القائمون على أمور المدارس والمتصلون بها من رجال التعليم والمشرفون عليها. وكل ذلك نادينا بضرورة إصلاحه من زمن بعيد فلم نجد مع الأسف من القائمين بالأمر إلا ارتجال مشروعات لا تمت بصلة صحيحة إلى إصلاح روح المدرسة ونظمها. وأعتقد أن رجال التعليم جميعاً يتحدثون بذلك ويدركونه ويتلمسون له الحلول فلا يجدونها! وهاهي ذي الأمة تقاسي اليوم من جراء ذلك ما تقاسي من فوضى الخلاق، وسوء معاملة الناس متعلمين وجاهلين بعضهم لبعض وعدم ثقتهم بعضهم ببعض، وأنانيتهم وجشعهم وقلة اكتراثهم بعمل الخير، وقلة إقدام متعلمينا وشبابنا على المشروعات العامة ببسب فقدان التناصر والتعاون حتى بين أفراد الأسرة الواحدة وخروج الابن على أبيه، وعدم رعاية حقوق الأخوة والجوار، الرحمة ممن تحب عليهم الرحمة للضعفاء والمعوزين، إلى غير ذلك مما يفت في عضد الأمة ويضعف من قوتها، ويوهن روح بنهضتها ويضعضع وحدتها. ولقد أحس بذلك الصغير والكبير ورجل الشارع التعليم. فما السبيل يا ترى لإصلاح هذه الحال؟

فإذا كنا نادينا في سبيل وحدة الأمة وتكاتف عناصرها بضرورة توحيد الثقافة في المرحلة الأولى من مراحل التعليم بإحلال المدرسة الموحدة محل المدرسة الموحدة محل المدرسة المشتقة من التعليم الإلزامي والأولي والريفي والابتدائي؛ وإذا كنا نادينا في سبيل وحدة الأمة بضرورة توحيد معاهد المهنة الواحدة، وعلى الخصوص معاهد المعلمين كدار العلوم ومعهد التربية وكلية اللغة العربية وإدماجها في معهد واحد لتخرج مدرسين متعاونين متضامنين عارفين بواجباتهم مقدرين لمسئولياتهم، فإنا ننادي كذلك بضرورة إصلاح المدرسة القائمة بصفة عامة إصلاحاً يتناول روحها ونظمها ويحدد أهدافها، ولن يتم لنا كل ذلك إلا بالتعاون الفني والتعاون القومي. لا يتم لنا كل ذلك إلا إذا تعاون رجال التعليم عامة في لجان دراسة فاحصة تبحث عيوب النظام الحالي كلها وتناقشها في محاضرات ومؤتمرات عامة، وتضع الحلول المختلفة للخلاص منها. ثم تدرسها بعد ذلك لجنة فنية عليا لغربلتها وتصفيتها. ومما يساعد على ذلك الآن وجود عدد كبير من المفتشين العامين في مختلف إدارات التعليم بالوزارة. ثم يعرض الأمر أخيراً على مجلس المعارف الأعلى الذي سمعنا بقرب تشكيله. وإنه ليفرح الأمة أن يتكون هذا المجلس تكويناً قومياً بحيث يكون جامعاً لخلاصة المفكرين ورجال الأعمال من كافة الأحزاب، ويا ليته يضم عدداً من رجالات البلاد العربية الشقيقة حتى يكون عمله قومياً بحتاً معترفاً به من جميع الحكومات على اختلاف مذاهبها. وبذلك تسير مصر كلها ومعها بلاد الجامعة العربية في طريق واحد نحو هدف ثقافي واحد.

هذه هي الطريقة المثلى في حل مشاكلنا التعليمية، وهي طريقة وإن كانت بطيئة إلا أنها مضمونة الفائدة محققة النفع ذات هدف سام يرحب به الجميع، وأقل ما توصف به من خير أن الحلول التي تضعها لمشاكل التعليم لا تكون بنت يومها أو بنت الطفرة، ولا تكون حلولاً مرتجلة نتيجة تفكير فرد أو أفراد محدودين، بل هي نتيجة بحث وفحص وتمحيص يشترك فيها الجميع وتمليها المصلحة القومية العامة، مصلحة الأمة التي تطلب الوحدة وتنادي بها وتعمل لها.

عبد الحميد فهمي مطر