مجلة الرسالة/العدد 619/الأفغاني والوحدة الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 619/الأفغاني والوحدة الإسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 05 - 1945



للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

- 4 -

وأخيراً، أين بلغ الأفغاني من التأثير في المسلمين بدعوته؟ وأين وصل من الطريق إلى هدفه وغايته؟ وماذا أجدى في تحقيق تلك الفكرة التي نهض لها ملء يقينه وجهد طاقته؟

إننا نستمع إليه في آخر حياته يرسل هذه الصيحة الأليمة اليائسة إذ يقول: (إن المسلمين قد سقطت همهم، ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم، وهو شهواتهم!)

ففي هذه الصرخة التي تفيض بالألم نرى الرجل مغيظاً محنقاً، لأنه لم يجد في المسلمين العزيمة التي كان يتمثلها، والوثبة التي كان يتوقعها، وكأنه يقول: لقد ناديت لو أسمعت حياً، والواقع أن الرجل لم يكن يستطيع أن يبلغ أكثر مما بلغ، فإنه كان ينادي على قوم يأخذون طريقهم إلى النهاية، وسنن الوجود الاجتماعي لها في هذا حكمهما الذي لا يرد، وقد كان التيار المتدفق من الخارج قوياً عنيفاً، ودينا النضال والنزال في عهد جديد تسيطر عليه الآلة، وهو عالم لا يعرف عنه المسلمون إلا كما يعرفون عن عالم السحر ودنيا الجان

فحسب الرجل نجاحاً أنه فتح العيون على الخطر الماثل، ونبه الأذهان إلى غاية الشر المتنمر، وأنه استطاع بصادق غيرته وقوة يقينه أن يجعل من دعوته نقطة تحول في حياة الشرق العربي، وأن يقيمها عقيدة اجتماعية لها تيارها واتجاهها في تلوين الأفكار وتوجيه العقول والإفهام، على أننا لا ننسى أن الأفغاني في هذا كله كان لا يملك كثيراً من الوسائل المساعدة، فهو رجل فقير مضطهد، والملوك وأهل السلطان يخذلون جهده، ودول الاستعمار وأهل المآرب يناهضون فكرته، فنراه كل يوم على سفر يضرب في فجاج الأرض، كل ما في قدرته أن يلقي بأفكاره إلى إفهام الطبقة الطبقة المثقفة، وكانت يوم ذاك قلة، وليست في يد الوسيلة التي يصل بها إلى الرأي العام، ونحن نعلم من شواهد التاريخ أن الرأي العام هو القوة الفعالة في تحقيق الفعالة في تحقيق الدعوات، وأن الجماهير هي الوقود الذي ينضج الثورات

ولعل أهم ما أجدى السيد الأفغاني في توطيد دعوته والامتداد بأثرها في إيقاظ الشرق وتنويره، هم أولئك التلاميذ، أو على الأصح أولئك المريدون الذين بطابعه، وصقلهم على غراره وخلع عليهم كل ما خصه الله به من عبقرية الدرس وعبقرية النفس، فكانوا لسان صدق للدعوة، وكانوا دعاة مخلصين واجهوا بها الأحداث في إباء وشجاعة، ولاقوا من أجلها الأهوال في قوة وصرامة، وقد كان أبرز هؤلاء الدعاة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضوان الله عليه، والسيد عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله

أما الشيخ محمد عبده، فقد كان صوتاً متفقاً مع الأفغاني، شاركه الرأي والجهاد في ميدان واحد، وأما الكواكبي فكانت حياته أشبه ما تكون بحياة أستاذه في الرحلة والتنقل من قطر إلى قطر، وكانت تعاليمه ودعوته إلى الوحدة صورة مطابقة لما كان ينادي به الأفغاني. كان الأفغاني كما مر بك يرى أن تقوم الدعاية للوحدة بعقد مؤتمر عام كل سنة في مكة يجمع أصحاب الكلمة والرأي من العلماء لحسم كل نزاع، وتدبير كل ما من شأنه النهوض بالمسلمين، فتطوع الكواكبي لعقد هذا المؤتمر في عالم الخيال أو في عالم الأمل، وندب له أعضاء من جميع الأقطار الإسلامية، ووضع أمامهم حال المسلمين للبحث وتمحيص الرأي، وقد جعل هذا موضوع كتابه المعروف (بأم القرى)، وهو أسم أخذه أيضاً من أسم الجمعية التي كان أنشأها أستاذه بمكة من قبل

ولكن هؤلاء الدعاة، وهم ما هم في صدقهم وإخلاصهم لم يستطيعوا أن يتمسكوا إلى آخر الشوط بدعوة الأفغاني في نصها وحرفيتها كما يقولون، لأن الحوادث كانت تتطور تطوراً سريعاً يحيط بهم، ويكبر على جهدهم، فكان عليهم أن يلائموا بين خطتهم وبين طبيعة الحوادث، وقد تبصر المعتدلون من هؤلاء المريدين والأتباع، فرأوا أن وحدة تشمل سائر الأقطار الإسلامية وتجمعها في صعيد واحد لا يمكن أن تقوم لا في الوضع السياسي ولا الاجتماعي ولا العمران، وأن الفكرة في ذلك فكرة فضفاضة متموجة لا تحدها معالم ثابتة ولا تسندها مقومات متينة، فضلاً عما تثيره من الاتهامات والشبهات وما تلاقيه من المناهضة والمقاومة فعدلوا عن الوحدة الإسلامية إلى الوحدة العربية، واختزلوا رغبة الأفغاني في قيام وحدة تشمل سائر الأقطار الإسلامية إلى وحدة عربية تجمع الأقطار المتجاورة المتشابهة التي وحدت حوادث التاريخ الماضي بينها في اللغة والتفكير والمظهر الاجتماعي، والتي تؤلف بينها الأغراض المشتركة والآمال المتفقة في الفوز بحياة الحرية والعزة، ولم يكن قصدهم (العربية) المحصورة في شبه الجزيرة العربية فحسب، بل كانوا يقصدون أيضاً ما يتفرع عنها من الجنس السامي في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، وما يتصل بها من الجنس الحامي في مصر وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش، وكانوا يعتقدون أن رابطة تشمل هذه الأقطار مما يدخل في دائرة الإمكان، بل إنها قائمة روحياً ومعنوياً، لا ينقصها نحو التنفيذ والإنجاز!

وإذا كان دعاة (الإسلامية) قد وقفوا في تأييد دعوتهم عند أساليب الحث والوعظ والتذكير والإهابة بضرب الأمثال وأناشيد المجد السالف، فإن دعاة (العربية) قد أخذوا في دعم فكرتهم بأساليب الفلسفة السياسية والاجتماعية، وخلعوا عليها لباساً علمياً من النظريات العلمية التي كانت شائعة بين العلماء في ذلك الوقت. كانت الجامعة السياسية في رأي علماء الألمان تقوم على وحدة اللغة ووحدة الجنس، وعند علماء الطليان ترتكز على وحدة التاريخ ووحدة العادات، وعلى مذهب الفرنسيين تعتمد على وحدة الطموح السياسي ونفوذ السلطان، وفي جماع هذه الآراء والاتجاهات وجد دعاة العربية برهاناً لدعوتهم، من وحدة اللغة، ووحدة الجنس، ووحدة التاريخ، ووحدة التقاليد، ووحدة الطموح السياسي، وبهذه الصبغة صبغوا دعوتهم ونادوا بفكرتهم وانتصروا لها بكل ما يملكون من أساليب البيان واللسان

وأذكى تيار هذه ما كان من غطرسة الحكم التركي في الاستخفاف بحقوق العرب والنظر إليهم بعين الإغضاء والاستهانة، وقد اضطرت تركيا تحت هذا الضغط إلى إصدار كثير من (الفرمانات) تعلن فيها المساواة بين الأجناس والأديان في السلطنة العثمانية، ثم أعلنت دستور سنة 1909، فغمرت العرب موجة من السرور والارتياح، وشاموا في هذا بداية عهد جديد يؤدي إلى جمع القلوب، ولكن سرعان ما تكشفت الأمور فإذا هي هباء وألاعيب، وإذا الاتحاديون الذين أعلنوا الدستور وجاهدوا من أجله اشد الغلاة في هضم حقوق العرب والاستهانة بحريتهم وكرامتهم، وظهر لأبناء العروبة أن (الفرمانات) التي حررت، والدستور الذي أعلن لم يكن إلا حبراً على ورق، فانقلبت آمالهم إلى خيبة مريرة، وحسرة قاسية، واشتدت عصبيتهم لجنسيتهم، ووقفوا والعثمانيون وجهاً لوجه.

كانت هذه الحركة أقوى ما تكون في سوريا والعراق لوقوعهما مباشرة تحت سلطة تركيا، ولكن مصر كانت أوسع ميدان لها وأفسح مجال للعاملين على امتدادها، إذ كانت مصر في هذه الفترة موئلاً للمتمردين على الحكم العثماني من أبناء الأقطار العربية، كما كانت مجال فكرية تملك من الوسائل والأسباب ما لا يملك غيرها من أقطار العالم العربي، وامتد تيار هذه الحركة على أوسع ما يكون، وتألفت أحزاب وجمعيات ومنتديات كثيرة في مصر وبيروت وفي الأستانة نفسها، وكل منها يعمل في طريق للنهوض بأبناء العربية، ووقف الشعوبيون من أنصار الرابطة (الطورانية) يناهضون هذا الاتجاه ويناضلون العرب فيما يدعون إليه، ووجد أنصار الأغراض الاستعمارية لأنفسهم من هذا منفذاً لبث آرائهم ودعاياتهم، فكان أن أصبح الرأي فوضى لأقوام له، وأصبح الدعاة للوحدة والنهوض يخضعون لتيارات مختلفة ويعملون لأغراض متباينة، ففي مصر مثلاً كان الرأي القوي الذائع هو أن تنال مصر استقلالها وأن تتحد مع جاراتها العربية، على أن يكون ذلك في ظل الولاء للخلافة العثمانية، ولكنك كنت تجد في الجهة المقابلة رأياً يدعو إلى الاستقلال عن كل سلطة خارجية وصلة أجنبية ورعاية مصالح مصر قبل أي اعتبار آخر، وفي سوريا والعراق كان جماعة ينتصرون للعربية من عسف الأتراك، ويدعون إلى الوحدة على أن تظل على الإخلاص لبني عثمان، ولكن الرأي السائد عداوة للأتراك، وعصبية للجنس، وتشنيعاً على الاستعمار العثماني في جميع أطواره، وكان أصحاب هذا الرأي يعتقدون أن العرب إذا انسلخوا عن الوحدة العثمانية في مقدورهم (أن يقيموا لأنفسهم استقلال سياسي)، ولا بأس عليهم من الاستعمار الأوربي، وكان أكثر أهل هذا الرأي من (محترفي السياسة وتجارها) كما يقول بعض الكتاب، ولسنا في مقام توزيع التبعات وتحقيق الاتهامات وتفنيد الآراء، ولكنها إلمامة عارضة أوردناها على قدر ما يقتضيه الموضوع الذي نحن بصدد في بيان الأثر الذي امتدت به دعوة الأفغاني.

هذه الفوضى التي اضطربت بالإفهام وبلبلت الأفكار، وهذه الأغراض التي دخلت على الدعاة إلى الوحدة العربية واردة من (أوروبا)، جعلت على العقلاء ينظرون إلى المسألة بعين التبصر مرة أخرى، ويحكمون فيها عقولهم قبل أن يندفعوا إليها بعواطفهم، فظهر لهم أن هنالك خطراً ماثلاً يتهدد كل وحدة في الشرق مهما كان لونها أو اتجاهها، وأن أوربا تريد أن تضع يدها على تركة المسلمين تحت سمعهم وبصرهم، وأن (القوة العثمانية التي تمثل الاستقلال السياسي للمسلمين والتي هي مظهر السيادة الإسلامية قد أصبحت معرض لأشد الأخطار)، ظهر كل هذا للعقلاء المتبصرين، فأشفقوا من الخلاف القائم، وانبروا يدعون إلى الاتحاد تحت راية الخلافة، ويحضون على وحدة شاملة لمدافعة الخطر، وكانت مصر أفسح ميدان لهذه الدعوة وأعلى صوت في الدعاية لها والحض عليها، لأن ما كانت تعانيه من عسف (كرومر) قد بصرها بالأمر، ولأنها كانت في النهضة الوطنية والفكرية أسبق وأنضج، ولأن صلة (بيتها الحاكم) ببني عثمان كانت تقوم على المودة والقرابة.

وبين عشية وضحايا وضح الأمر وتكشف الحقيقة فيما توقعه أولئك العقلاء، إذ تألبت ممالك البلقان على الدولة العثمانية، ودهمت إيطاليا طرابلس وبرقة وضرب أسطولها بيروت في غير شفقة ولا رحمة، فهز هذا من أريحية المصريين، واستثار عواطفهم وشجونهم، وارتفعت الأصوات بالإشفاق على مجد الإسلام ومعالمه الباقية، وعادت الدعوة إلى الوحدة الإسلامية لتكون قوة في وجه الاستعمار الذي كشف عن ناجذيه في غير مواربة، وقد بذلت مصر بذل المخلص الشريف في نصرة العالم الإسلامي، وأمدت تركيا بهبات سخية من المال والعتاد، وأعانت المنكوبين إعانات فياضة، مما دلّ على الإخلاص في النية، والصدق في العزيمة، والغوث في الملمات.

واطردت الأمور متقلبة متحولة، ومضت الأحوال تجري بين جزر ومد، ولم تلبث الحرب الماضية أن نشبت على أوسع رقعة، ودخلتها تركيا إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء، فطوى كل رأي في صدور أصحابه، ووقف كل دعوة عند حدودها، وأصبح الأمر للدعايات الحربية والسياسات الحزبية والاتجاهات الملتبسة التي لا يرتبط فيها اللسان بالقلب، ولا يتصل فيها القول بالعمل، وفي هذا الجو ظهرت دعوة إلى (العربية) في شكل جديد وعلى وضع جديد، وكان الغرض فيها يدور حول الحركة التي قام بها السلطان (حسين بن علي) في الحجاز، وامتدت دعاياتها إلى سائر الأقطار العربية، وكان هذا الغرض هو ما تكشفت عنه الحوادث في أعقاب الحرب الماضية، وكان أثر هذه الدعوة الجديدة هو ما انتهت إليه بعد.

الخلاصة:

فأنت ترى فيما أوردناه عليك، أن الدعوة إلى الوحدة إنما نشأت (إسلامية) قوامها القرآن في لسان الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وأضرابهم، ثم اختزلت إلى (العربية) في تقدير المعتدلين ممن جاءوا على أثرهم وترسموا طريقهم، ثم تشعبت هذه (العربية) فيما بعد إلى شعب لها مراميها وأغراضها، ولها أساليبها وسبلها، ولا شك أن المؤرخ السياسي والاجتماعي لحياة الشرق العربي في العصر الحديث لا بد له من تحليل هذه التيارات كعوامل وعناصر كان لها في توجيه الرأي السياسي والاجتماعي الذي سيطر على الحركات الأخيرة، وكيف النهضات الحديثة، وأدى إلى ما بلغته الأقطار العربية اليوم، بل وما ستبلغه في الغد، والفضل في هذا كله للأفغاني العظيم، الذي وهب نفسه للوحدة، وظل طول حياته يجاهد في سبيل هذه الدعوة.

(تم البحث)

محمد فهمي عبد اللطيف