مجلة الرسالة/العدد 62/صورة

مجلة الرسالة/العدد 62/صورة

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 09 - 1934



بغير عنوان!

للأستاذ علي الطنطاوي

(هذه صورة من صور الحياة، أعرضها على علاتها في الرسالة، ليلحق عليها من شاء

من القراء شرحاً وحاشية وتعليقاً.)

ذهبت أمس إلى الحلاق، وتخيرت آخر ساعة من النهار كي يخلو لي المكان، ولا تغروني نظرة. . فوجدت عنده شاباً، وكرهت أن أدخل فأنظره، وأنا أكره الناس للانتظار، فهممت بالرجوع. ولكن الحلاق أومأ إلي أن أدخل، لن يلبث حتى يقوم فقد أوشك أن ينتهي. فدخلت

وكان الشاب قد انتهى حقاً، وكان قذاله وعذاره وسالفته مقصوصة، وكانت جمته مرجله مصففة، وكان وجهه كالمرآة الصقيلة ما فيه (والحمد لله) أثر من لحية أو شاربين! فما باله لا يزال قاعداً على الكرسي؟ وماذا ترى الحلاق صانعاً به بعد؟ ثم اطمأننت وقلت: قد انتهى وإنه لقائم. وقعدت أرقبه فلم يرعني إلا الحلاق يقبل على شعره فينفشه نفشاً وهو ساكت لا ينكر عليه. فقلت: لعله قد بدا له، فأحب أن يقصر من هذا الشعر، ولن يطول أمد هذا التقصير، وإني منتظر.

وتنظرت والحلاق ماضٍ في عمله، حتى إذا تم النفش غدا على رأس صاحبنا شجرة ذات فروع. . . فعجبت كيف كان هذا الشعر كله مصففاً مستقراً، ورثيت له إذ يحمل على رأسه أبد الدهر هذا الحمل الثقيل، وأعجبني منه أن يزمع الخلاص منه.

ولكنه لم يقصه كما قدرت أن يفعل، بل أشار إلى الحلاق فعمد إلى هنات سوداء لا والله ما عرفتها من قبل وسنّى سنّى! فأدخلها النار حتى احمرت ثم أدناها منه، فأشفقت أن يصيبه منها أذى، ثم فكرت فقلت: لعله مريض يكتوي، وقديماً قالت العرب: آخر الدواء الكي. ونظرت فإذا هو يقبض على شعره بإحدى هناته تلك، ويديره عليها، ثم يستلها منه استلالاً، ثم يفعل مثل ذلك وأنا أعجب، حتى انتهى فإذا صاحبنا قد عاد جعد الشعر، وقد كان سبطا، فقلت: إنا لله! رجل أصله من البربر فهو يحب أن يتشبه بأصله، والتمست له المعاذير.

وحسبته قد انتهى وظننت أنه قائم، ولكنه لم يقم بل أشار إلى الحلاق. فضمّخ رأسه بماء (كلونية) وأقبل فسرحه تسريحاً، وعاد فمسحه بدهن استخرجه من حق صغير، فصا لرأسه وميض ولمعان، فقلت الحمد لله قد انتهى، ونزعت عني طربوشي، ثم أعدته إلى رأسي حين لم يقم. ولبثت أنتظر، وجاء الحلاق بكمهٍ فوضع فيها رأسه وشدها من حوله شداً، فقلت مصدع متألم فهو يخفف من صداعه.

ثم أخذ الحلاق الملقاط، وعمد إلى حاجبيه، فجعل ينتش منهما نتشاً وأنا أرثي له، وألح عليه بالنظر، علّ عينيه تقع على عيني، فأبذل له عوني ونصرتي، فإن هذا الحلاق لا يكاد يرحمه فلا يبصرني. ثم أدركت الحلاق رحمة فعفا عنه وأبقى عليه، فنظرت فإذا حاجباه خطان كأنما خطا بقلم؛ فقلت سبحان الله أي فتاة تعطى مثل هذين الحاجبين ثم لا تنزل راضية عن سنين من عمرها.

وفتح الحلاق خريطة فاستخرج منها كبة، أخذ منها خيطاً لفه بين أصابعه وجعل في وسطه فرجة تضيق وتتسع كلما شدها أو أرخاها، وأمر هذا الخيط على وجهه يتمعر ويخيل إلي أنه يقاسي ألماً شديداً، ثم كف عنه. فلا والله ما ترك في جبينه زغبة إلا واجتثها هذا الخيط.

فقلت: قد انتهى، ولم يبق في وجهه ما يذهب به، إلا أن يكون أنفه، فيكون كباغي الجمال بجدع الأنف، ولكن سرعان ما خاب ظني في أنه انتهى. ورأيت الحلاق يدلك وجهه دلكاً ويقرصه قرصاً، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، قد جن الرجل. . وإلا فماذا يكون هذا القرص من الحلاق، ثم كف فنظرت في وجه الشاب فإذا عليه حمرة الخجل، وأنعمت النظر والتفكير فعلمت أنها حمرة الصحة والحياة، أو حمرة الدلك والقرص، فهممت أن أقوم إليهفألتزمه وأهنئه على هذا الاختراع: يصيب الناس الصحة بالغذاء وبالرياضة ويصيبها هو بالدلك وبالقرص، ثم تخاذلت ورحت أنظر مشدوهاً إلى الحلاق وهو يصبغ وجهه بالأبيض والأحمر، ورأيتني لا أطيق احتمال هذا منه وأنا أكره من النساء أن يفعلنه، وعجبت كيف لا ينكره هو؟ وكيف لا يغضبه أن يعامل كامرأة.

ولكنه لم ينكر شيئاً، بل أشار إلى الحلاق، فجاء بإصبع حمراء فمس بها شفتيه كما تفعل فتيات السينما سواء بسواء، فلم أستطع المكث بعد هذا وقمت فجلت في السوق جولة. ثم عدت لما فارق الكرسي.

وما أدري بعد كيف أصفه؟ أأبدأ من رأسه أم من رجليه؟ أما رأسه فقد عرفت أي شيء هو! أما صدره وظهره فبادٍ أعلاهما، وأما ذراعاه فمكشوفان. . . ولو أنت عرضته على الناس بزينته تلك ما عرفوا أرجل هو أم امرأة

أما (بنطلونه) فأبيض رقيق يبدو ما تحته واضحاً إلا شبراً تستره سراويلات قصار.

ثم كانت الطامة الكبرى وأقترب مني الشاب يسلم عليّ ويزعم أنني أعرفه.

- أنا أعرفك؟ كلا. أراك مخطئاً.

- أوه؟ كيف؟ أنا تلميذك منذ كذا سنين في مدرسة كذا، وأنا الآن معلم في المدرسة التي فيها ابنك.

- أنت معلم؟!

وندت مني صرخة تعجب ولم أجب.

دمشق

(علي الطنطاوي)