مجلة الرسالة/العدد 62/فصول مدرسية في الأدب الدرامي

مجلة الرسالة/العدد 62/فصول مدرسية في الأدب الدرامي

مجلة الرسالة - العدد 62
فصول مدرسية في الأدب الدرامي
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 09 - 1934


5 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن

بقلم أحمد حسن الزيات

أداء العمل - الحركات

هي أحد لساني العمل. ومصاحبتها للكلام في إبانة الفكرة طبيعة في الناس منشأها ضعف العبارة وعجز اللغة عن تصوير ما يجول في النفس من خواطر ومشاعر. لذلك تجد حركات الجسم وملامح الوجه تشتد وتحتد كلما أصاب اللسان عي أو لكنة. ومن ثم كانت الشعوب ذات الخيال القوي والإحساس الشديد أكثر الأمم حركة وأشدها لهجة. والمرء إذا ما التاث عليه القول لنقص طبيعي في منطقة أو لضعفه في اللغة التي يعبر بها، اعتمد على هذه الدلالات المنظورة فمرنها وقواها كما ترى في الأخرس والبادئ في تعلم لغة جديدة. وأشد ما تكون الحركات قوة وظهوراً حين تثور النفس وتضطرم العواطف، فتتفجر من اللسان والجوارح والملامح. لذلك كانت الحركات عنصراً من العمل الروائي، وجزءاً من الفن الخطابي، لشدة انفعالاتهما وكثرة مفاجآتهما وازدحامهما عادة بالمواقف الثائرة أو الساخرة. على أن الحركات قد تقوم بنفسها مقام الكلام كما ترى في الخيال الشمسي والخيال الظلي والرقص التمثيلي مثلاً. وليس من شأننا أن نتعرض لهذه الأبحاث فلها فن آخر، وإنما حملنا على ذكر الحركات ذيادنا عن حق البلاغة في العمل الروائي والمسرحي، وقد مر شيء من ذلك عند الكلام عن العبارة، وربما عدنا إليهعند بحثنا في الدرامة.

الحوار: الحوار هو مطارحة الحديث بين شخصين أو ثلاثة على الأكثر، أما الرابع فقلما يكون له شأن في الحديث أو خطر. ومن الصعب أن تشركه فيه ما لم يكن دوره أن يظل صامتاً أثناء الحديث، أو يؤيد بعض المتحدثين بكلمات قليلة. وشرطه أن يكون جيد المناقلة، سديد المساجلة، حسن التقطيع، مطابقاً لموقف المتكلم وخلقه، متغير اللهجة والجرس تبعاً لمقتضى الحال، سريع الجواب قصير الخطاب، فلا يشبه دفاع المحامي ولا خطبة الخطيب، لأن ذلك يزهق روح الجاذبية ويبعث السأم في النفس. وأجدر الأساليب به أسلوب الطباق والمق نجوى النفس. نجوى النفس هو حديث الممثل مع نفسه بصوت مسموع، ومحله حين تضطرب حال الشخص، فيغلبه الجزع ويفترسه الشك، فينفجر بالكلام الجهير معلناَ عن ضميره مصرحا بسره، ولو لم يكن هناك من يسمعه. وقد غالى رجال المذهب الإبتداعي في استعمال نجوى النفس، قاصدين بذلك إلى حذف الأنجياء وهم أشخاص كان كتاب الإغريق ومقلدوهم من القدماء يضعونهم في الرواية لا لشيء غير أن يسر إليهم البطل ما يفكر ويقدر بدل أن يتحدث إلى نفسه. ولكن الأبتداعيين بإسرافهم في النجوى، وإسهابهم فيها لم يبرئوها من النقص والإملال. فلهوجو مثلاً في رواية هرناني نجوى ألقاها (دون كارلوس) على قبر شرلمان بلغت ستين ومائة بيت! وجمال النجوى أن تكون قصيرة إلا إذا كان اضطراب الشخص قوياً فلا بأس أن تطول قليلاً.

أنواع الرواية

موضوع الفن الروائي هو حياة الناس بأسرها. فهو يصور المضحك والمبكي من الحوادث، ويصف الخامل والنابه من الناس. فإذا كان العمل الذي يمثله جدياً، والأشخاص الذين يصورهم من الطراز الأول والطبقة العالية سمي مأساة. وإذا كان العمل هزلياً منتزعاً من حياة العامة مصوراً لعيوبهم سمى ملهات. أما إذا جمع بين الجد والهزل، أو أقتصر على الجد ولكن أشخاصه من طبقة العامة والسوقة، فتلك هي المأساة الحديثة أو الدرامة. وكل ذلك يؤدى عن طريق الإلقاء، فإذا أدي عن طريق الموسيقى والغناء، كانت الغنائية وفروعها. وسنتناول كل نوع من هذه الأنواع بالشرح والتفصيل والتحليل، إلا الغنائية فسنلم بها إلماما على قدر صلتها الواهية بالأدب والبيان.

المأساة.

تعريفها: المأساة هي تمثيل عمل عظيم يبعث في النفوس الرعب والرحمة والإعجاب. وليس من الحتم أن تسفك الدماء وتنثر الأشلاء فوق المسرح لتحدث تلك الآثار، بل يكفي أن يكون العمل جليلاً والشخص نبيلاً، والهوى المتحكم رفيعاً، حتى ينشأ ذلك الحزن الرهيب الذي يجدر بالمأساة. ومعنى ذلك أن يكون العمل خطيراً كإرجاع ملك مغصوب، أو إخضاع هوى مستحكم؛ وأن يكون الأشخاص من ذوي التيجان وطلاب العروش، لأن وجيعة النفس لمصاب الملوك أشد من وجيعتها لمصاب السوقة؛ وأن يكون الموضوع مقتبساً من الماضي ليكسب العمل جلال القدم؛ وأن يكون الهوى المحرك للرواية هو الطمع أو الانتقام أو الحب.

هكذا كانت المأساة بعد كوزني: أرستقراطية العمل والأشخاص والأسلوب والغرض. وقد درج الناس دهوراً يوجبون أن تكون نهايتها فاجعة محزنة، أخذاً برأي أرسططاليس كما علمت، ولكن هذا الرأي جانبه المنطق وخالفه الواقع فأصبح غير واجب ولا محتوم، لأن العمل قد يثير الإعجاب ويبعث الرهبة والرحمة، ثم ينتهي مع ذلك بالسرور والغبطة.

غرض المأساة: فغرض المأساة إذن هو إصلاح النفوس بإثارة الرهبة من الجرم الفاضح، والرحمة للفضل المعذب، والإعجاب بالصنع الجميل. وطريقها إلى ذلك أن تمثل لنا أمثالنا وهم يصارعون الخطر ويكابدون المصيبة، على شرط أن يكون هذا الخطر مما يفزعنا، وتلك لمصيبة مما يروعنا، وأن يكون هذا التمثيل مصبوغاً بلون الحقيقة حتى يخدع أبصارنا ويملك بصائرنا، فنتأثر التأثير الذي نحبه

على أنك تسألني ما لذة المرء في شهوده نوائب الناس وسماعه أنين غيره؟ يقول ارسططاليس إن مصدر هذه اللذة هو إتقان التقليد، ويقول (لكريس) إن مصدرها شعور الإنسان بالنجاء والأمن من مصائب يصلاها غيره وهو بعيد عنها، كلذة الجالس على شاطئ البحر يبصر في عرضه سفينة تصارع الموج وتكافح الخطر وهو رخي البال هادئ السر. ويؤخذ من خطاب الشاعر الهندي طاغور الذي ألقاه في مسرح الأزبكية حين مر بمصر أن مصدر هذه اللذة تمثيل الحقيقة. (لأن الحقيقة من حيث هي، جمال لا يعد له جمال. ألست ترى إلى صورة المرأة العجوز أبدعها فنان ماهر؟ إنك تنظر إلى الصورة فتقر بجمالها، ولكن العجوز التي فيها ليست على شيء من الجمال، وإنما جمال الصورة أنها تمثل هذه المرأة على حقيقتها)

ونحن لا ننكر أن المرء يروقه أن يفزع من الخطر وهو بعيد، ويلذه أن يألم المصاب غيره وهو آمن، وأن تفكيره في سلامته من هذه الأرزاء وبراءته من تلك الأدواء سبب من أسباب سروره حين يشهد مأساة على المسرح، ولكن السبب الذي يبعث فينا تلك اللذة الغريبة من رؤية الألم وسماع الأنين غير هذا كله. فإن الأطفال وهم لا يفكرون هذا التفكير يلذ لهم أن يستشعروا الرعب والرحمة من سماع الحكايات المروعة المؤثرة. يظهر أن منشأ هذه اللذة فينا عند مشاهدة المنظر الفاجع هو ميلنا الغريزي إلى تمرين قوانا الجسمية والنفسية، وما يحدثه ذلك الميل في نفوسنا من قوة الشعور بحيويتنا وعقليتنا وحساستنا وقدرتنا على العمل والتصرف. وما الأمن الذي نشعر به عند شهود هذه الفجيعة إلا شرط ضروري لإحداث منظرها تلك اللذة لا مسبب لها. وذلك التمرين الطبيعي هو علة ما نجد في الطفل من شرهٍ إلى سماع الخوارق التي ترعبه، والحوادث التي ترهبه. وهو كذلك سبب ما نرى من سعي العامة والسوقة إلى الساحة التي كان يشنق فيها المجرمون أيام كان الشنق علنياً، وهو السبب أيضاً في ميل الأمم الغليظة أو القوية إلى صراع الثيران وأناشيد الحماسة، وميل الأمم الرقيقة أو الضعيفة إلى تمثيل العواطف وقصائد الغزل.

أما السبب في جعل الجاذبية المزدوجة من الرعب والرحمة أساس المأساة وروحها، فهو ما لهاتين العاطفتين دون سائر العواطف من التدرج مع الحادث، والترقي مع الخطر، والأخذ بمجامع القلب شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغا الغاية عند انتهاء العمل. أما عواطف الحماس والفرح مثلاً فإنها تنشأ بقوة ثم تضمحل بسرعة.

موضوع المأساة: يقع الرجل في التهلكة والبؤس لأسباب خارجة عنه؛ أو صادرة منه. فالأولى تنشأ من حظه وموقفه وواجباته وعلاقاته، ومن صروف الحياة وأحكام الآلهة، وأفاعيل الطبيعة وأضاليل الناس. وأفجع هذه الأسباب وأوجعها ما دهمت البائس من مأمنه، وأتته ممن لا يتوقع منهم إلا الخير والنفع. والأخرى تنشأ من ضعفه وغفلته وميوله وأهوائه ورذائله، وقد تأتيه أحياناً من فضائله. وأسباب الهوى المقرون بطيبة القلب وسلامة النية، هي أقوى الأسباب تأثيراً وأكثرها خصوبة وأروعها حكمة. ومن هذا الفرق بين الأسباب الداخلية والخارجية نشأ للمأساة مذهبان: مذهب القدماء أو مذهب القضاء والقدر، ومذهب المحدثين أو مذهب النفس والهوى.

مذهب القدماء: فأما مذهب القدماء أو الإغريق بتعبير أصح فيعزو مصائب الأشخاص دائماً إلى سبب خارج عن إرادتهم، حتى لو اتفق أن حدث لهم ما يكرهون بسبب غفلتهم أو ضعفهم أو ميلهم كأوديب وهيكوب مثلاً حرص الكاتب على أن يخلق لهذه الأسباب أسباباً أولى كمشيئة القدر وغضب الآلهة. ولقد انتقل مذهب الإغريق إلى من خلفهم من كتاب العالم باقتباس رواياتهم أو موضوعات تاريخهم، واستعان المقلدون من كتاب الفرنج بالوهم المسرحي على تمثيل العادات والعبارات، فظهرت مقتبسات ميروب وأوديب وإيفجيني وأورست لراسين وفولتير على المسرح الفرنسي، أقوى وأروع وأبدع مما ظهرت به لوربيذس وسوفوكليس على مسرح أثينا.

والذي حمل الإغريق ومن لف لفهم على الأخذ بمذهب القضاء والقدر في الرواية أنه أشد تأثيراً وأقوى فجيعة. فإنك لا تجد أبعث للرعب وأدعى إلى الرحمة من رجل يعميه القدر فتسيره قوة غير قوته، وتسخره مشيئة غير مشيئته، وتعبث به إرادة متحكمة غير إرادته، ثم تراه يجهد عبثاً في الفرار من جريمة تراصده، أو النجاء من مصيبة تطارده. وذلك هو مذهب الرواقيين الذي لخصه (سنيكا) في هذه الجملة:

(إن القدر يقود ذوي الإرادة ولكنه يجر فاقديها) ذلك فضلاً عن موافقه هذا المذهب لمسرحهم وعبادتهم وسياستهم وعادتهم مما لا نجد داعياً لشرحه وتفصيله.

مذهب المحدثين: على أن القدماء كان لهم بجانب مذهب القدر الذي أملاه عليهم الدين والتاريخ والإقليم مذهب آخر هو مذهب النفس والهوى، ولكنهم أغفلوه إما لضعف تأثير وإما لعدم انطباقه على نظام مسرحهم في سعته وشكله ووسيلته، حتى جاء المحدثون وأولهم كرني أبو المأساة الحديثة، فأخذوا به وساروا عليه، وجعلوا المأساة صورة لمصائب الرجل الخاضع لهواه، لا لمصائب الرجل الطائع لحظه؛ وأصبح الرجل الحر الذي يخضع لإله عادل يسمح بالشر ولا يأمر به، ويتعرض لأرزاء الدهر بسبب أهوائه وأهواء غيره، موضوع المأساة الحديثة وينبوع الأثر المروع الموجع الذي يأخذ بأذهاننا ووجداننا. ومزايا هذا المذهب هو أنه أخصب إنتاجاً لاستمداده من ينابيع القلب البشري الفياضة، وأتم شمولاً لتحليله الإنسان في كل زمان ومكان دون الاقتصار على شعب معين وتاريخ معين؛ وهو مع ذلك أبلغ حكمة وأتم ملائمة للمسرح الحديث، وأروع جمالاً في التمثيل العصري. ولولا الخوف من أن يسأم القارئ من تفصيل قد لا يعنيه لأفضت في شرح هذه المزايا واحدة فواحدة، ولكن فيما ذكرته غناء للقارئ المستفيد. وأما عمل المأساة وصفاته كالإمكانية، والوحدة والجاذبية والتأثير والمغزى، وأجزاؤه الأساسية كالعرض والتعقيد والحل وما إلى ذلك من الانقلاب والتعرف والأسلوب، فقد سبق القول فيه.

يتبع

(الزيات)