مجلة الرسالة/العدد 620/صفحة من تاريخ الاستكشاف:
مجلة الرسالة/العدد 620/صفحة من تاريخ الاستكشاف:
فيتوس بيرنج
عدلللأستاذ محمود عزت عرفه
بطرس الأكبر بين حربين
عدلشهدت أخريات القرن الخامس عشر خرستوف كولمبس يضرب في أرجاء المحيط الأطلنطي غرباً، على آمل أن يبلغ الهند من طرفها الشرقي فيثبت صحة النظرية التي آمن بها من استدارة الأرض. وكان بسبيل أن يحقق نظريته هذه لولا أن اعترضته أمريكا بهيكلها العظيم، فبقيت نظريته معلقة - بل وقابلة للجدل! - حتى قدَّر لماجلان أن يثبتها عملياً برحلته المشهورة فيما بين عامي 1519 و1522م.
ومن ثم تابعت الرحلات في كل متجه، وعرف الناس عن أمريكا الشيء الكثير، حتى وافت أيام بطرس الأكبر - عاهل روسيا وسليل أسرة رومانوف - فحاكت بصدره مشكلة آلي على نفسه أن يضع لها حلا. . . مشكلة عاضلة يتعلق بها مستقبل بلاده، ويتوقف عليها مجدها وعظمتها واستقرار شعبها هادئاً - مدى أجيال - في حدود إمبراطوريته التي تباعدت أطرافها. . .
وكان بطرس قد شنَّ على السويد حرباً ضروساً انتهت بعقد معاهدة نيستاد في أغسطس من عام 1721؛ وبها ضم إلى بلاده دويلات من البلطيق أمَّن بها حدودها وعزز ركنها في اتجاه الغرب فراح بعد ذلك يتلفت إلى الشرق. . . إلى أطراف سيبريا المطلة على محيط مجهول يتكنفه الظلام والضباب.
ورأى بثاقب فكرة أن لا بد من النفوذ إلى أعماق هذه المواضع قبل أن تسد السبيل عليه فيها دولة مستعمرة، فيقف منها أمام (سويد) أخرى تقتضيه حرباً لا يعلم إلا الله نتيجتها.
. . . ألا ماذا في نهاية الطرف الشمالي الشرقي من آسيا؟. .
. . . أهي ممتدة شمالاً إلى مدى غير معلوم،. . . أم ثمة انفصال تبدأ عنده أمريكا من حيث ينتهي العالم القديم؟ سؤال تقدم به بطرس إلى الطبيعة نفسها لا إلى عدو أو صديق من البشر، ومعضلة ينبغي أن يحلها رحالة مستكشف لا قائد محارب. وللطبيعة سر لا تسلمه إلا لمن ينتصر عليها؛ والانتصار على الطبيعة غير المحدودة ولا المتناهية. . . الطبيعة ذات الأسرار الرهيبة والمفاجآت المربكة والقوى المحتشدة الكامنة التي تعصف بقوى الإنسان قبل أن يشعر بمجرد وجودها، فضلا عن أن ينهض إلى خصومتها - الانتصار على هذه الطبيعة - وتلك صفاتها - غير الانتصار على كتيبة من جند السويد، أو نشر شباك مكيدة حول تركيا، أو انتهاز فرصة اضطراب داخلي في بولندا. . .
وكان بطرس ممن يحسنون تخير الرجال. فليس يزكي التاريخ (فيتوس بيرنج) بأكثر من أن يسجل أن بطرس قد انتقاه لمهمة خطيرة كانت شغله الشاغل وهو يجود بآخر أنفاس من حياته. . . مهمة مات بطرس - كنحوينا المعروف - وفي نفسه منها شيء!
وكان بيرنج من أبناء دنمركة. ولد في هورستنز عام 1680، وتقلب في أحضان البحر منذ صباه فنشأ بحاراً بالسليقة إن صحت العبارة. . .
وقد زار المحيطين الأطلسي والهادي قبل أن يلتحق - وهو في الثالثة والعشرين من عمره - بالأسطول الروسي الحديث الذي أقام دعائمه بطرس الأكبر. واشترك بيرنج في الحرب البحرية ضد السويد فأبلى البلاء الحسن، وكان من اثر ذلك أن قرر القيصر إيفاده على رأس البعث الذي أعده لكشف مجاهل شرقي آسيا وما يكتنفه من مياه. ولم يحل دون ذلك ما كان من مرض بطرس (الذي انتهى بموته)، ولا ما حدث من اضطراب في الأحوال الاقتصادية على آخر عهده.
ولقد كانت تلك في الواقع أعجب رحلة كشفية يشهدها العالم، منذ أن قام الفينيقيون في عهد فرعون مصر (نخاو) بطوافهم المشهور حول القارة الأفريقية.
عبر مجاهل سيبريا
عدلكانت أرض روسيا خلواً من المسالك والطرق؛ وسيبريا التي تشغل شطرها الشرقي حتى المحيط لا تعدو أن تكون سهوبا مقفرة شديدة الإيحاش يسيطر عليها شتاء قاس رهيب لا تتبلج في دهمته إلا غزر أيام من الصيف ضئيلات قصار.
وكان على بيرنج أن يقود بعثته مدى ألف ميل خلال هذه الأصقاع الموحشة حتى يبلغ المحيط فيبدأ أعماله الاستكشافية؛ وكان عليه أيضاً - إذا قُدر له أن يبلغ المحيط ناجياً - مهمةُ ابتناء السفن اللازمة لهذه الرحلة الخطرة. وإن من نكد الدنيا حقا أن ينوء هذا الرحالة الجريء بعبء ستة عشر عاماً من الجهاد المضني، قبل أن يتاح له تقديم جواب صحيح عن ذلك السؤال المعجز لبطرس الأكبر. ثم هو لا يفرغ من ذلك إلا ليفارق حياته مبتئساً عليلاً فوق جزيرة نائية، بعد معاناة خطوب فوادح وأهوال جسام. . .
غادر بيرنج مدينة بطرسبرج في فبراير عام 1725م على رأس خمسمائة من الرجال ما بين بحار وقين وكاتب ونجار وصانع شراع، وكان معهم ثمانمائة دابة حمولة تقل ما يحتاجون إليه من الميرة والذخيرة؛ وقد ارتفقوا بسائر ما يلزمهم عدا نفسها، إذ كانت مادتها الخشبية وقتذاك لا تزال جذوعاً ضخمة تغتذي وتنمو على الشاطئ الشمالي الشرقي من آسيا، في انتظار أن يأتي القوم فيقتطعوها ويصوغوا منها مطاياهم إلى البحر.
وكان على الركب الحاشد أن يقطع جبالاً شوامخ، وأن يصنع لدى كل معبر نهرٍ زوارق وأطوافاً يجتاز عليها من شاطئ إلى شاطئ، ثم يخلفها وراءه تنعى من شادها. وقد قضى البعث شتاءه الأول في أيْلمسْك الواقعة على مدى ثلاثمائة ميل تقريباً شمالي إركُستك وما كاد يتبلج وجه الربيع حتى تابعوا مسيرهم خلال مستنقعات وغابات ومجار من الماء عميقة وجبال وعرة المسالك أدت بهم إلى بلوغ ياكتسك على نهر لينا؛ وهناك ألجأتهم ضرورة النقل ومشقاته إلى أن ينقسموا أقساماً: فمضى فريق على رأسه سبانجبرج في أسطول صغير من الأطواف عبر المسالك المائية المنحدرة شرقاً، وتقدم بيرنج بطريق البر ومعه الجياد ومائتان من الرجال. . في حين تبعهما الفريق الثالث عن كثب.
وبعد رحيل شاق مضنِ استغرق سبعة أسابيع وصل بيرنج إلى أوخُتْسك حيث اقتطع رجاله ما يلزمهم من الخشب لإنشاء السفن وتشييد أرباض الشتاء. .
أما سبانجبرج فقد قطع عليه البرد طريقة، ونفقت ركائبه بفعل الجليد وانخفاض درجة الحرارة إلى السبعين تحت الصفر. ولم يتصل بيرنج إلا بعد انقضاء عامين فقد خلالهما ثمانية عشر من رجاله.
وكان بيرنج قد أنجز في هذه الفترة تشييد أولى سفائنه (ذي فرشونا) وانتقل فيها مع رجاله وذخائره ومعداته إلى بُولْثِرِ تْسْك: في شبه جزيرة كامتشاتكا. وهناك أنشأ سفينته الثانية (جبرائيل)، فأستنفذ بذلك ثلاث سنوات وخمسة شهور في عمل مضنِ وكفاح متواصل قبل أن يتهيأ له القيام بمهمته الرئيسية. . . وهي التقصَّي عن خبر آسيا ومبتدأ أمريكا. .
هذه آسيا. . . فأين أمريكا؟
عدلفي العاشر من يوليو سنة 1728 أبحر بيرنج من كامتشاتكا ميمماً صوب الشمال؛ والتقى في إحدى الجزائر المأهولة بمن أفضى إليه من سكانها بحقائق نفعته. فقد علم أن الساحل الأسيوي بعد امتداده نحو الشمال قليلاً ينحرف إلى الغرب. وبذلك تمثلت لديه أول فكرة عن انقطاع آسيا في هذا الموضع واحتمال قيام أمريكا بإزائها. ومر بيرنج أثناء ذلك بجزيرة كبيرة أسماها سنت لورنس، احتفاء بذكرى القديس الذي اكتشفها يوم عيده. وفي السادس والعشرين من أغسطس طاف حول رأس (إيست كيب) الواقع في أقصى الطرف الشمالي الشرقي من آسيا؛ وتحقق لديه يومئذ أن اليابسة تنحرف نحو الشمال الغربي، فتتبع ساحل آسيا الشمالي إلى مدى ستمائة ميل غرباً حتى بلغ خليج تشْوان: وعرف أن آسيا تنتهي حقيقة في هذا الموضع، لكنه لم يعثر بعد على القارة المزعومة التي قيل إنها تواجه آسيا عبر المحيط، والتي يحتمل أن تكون أمريكا نفسها. ولا ذبيرنج بسواحل كامتشاتكا طوال أشهر الشتاء، ثم انطلق يبحث عن أمريكا في ربيع عام 1729 متجهاً صوب الشرق. ولما أعجزه الوقوع على طلبته كر أدراجه عائداً إلى بطرسبرج؛ وهناك قص حديث مغامرته العجيب فأثار ضده عاصفة قوية من السخرية والتكذيب. . . عاصفة أنسته بشدتها ما قاس من عواصف سيبريا، وهونت لديه ما لقي من قواصف المحيط. .
وكانت القصيرة كترينها التي خلفت بطرس الأكبر على عرش روسيا لا تقل عن سلفها طموحاً في الغاية ولا جرأة في العمل؛ وقد اثر في نفسها ما لقيته مساعي بيرنج من إنكار وجمود وأعجبها من الرجل شهامته ونبل سلوكه، فأبت أن تقطع الألسنة الحداد اللائى سلقنه إلا بمزيد من تكريمه وتوكيد الثقة به؛ وعهدت إليه برياسة بعث آخر أخطر من سابقه شاناً. . .
(البقية في العدد المقبل)
محمود عزت عرفه