مجلة الرسالة/العدد 622/مناقشات في الصيف. . .

مجلة الرسالة/العدد 622/مناقشات في الصيف. . .

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 06 - 1945



للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف

- 1 -

(التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. . . فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة. . .)

(فإذا ما ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية و. . . إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور ولا شخوص تعبر، أدركنا سر الإعجاز في تعبير القرآن)

والأمثلة على هذا الذي نقول هي القرآن كله حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرنا. . .)

فليس هو (أي التصوير الفني) حلية أسلوب ولا فلتة تقع حيثما اتفق، إنما هو مذهب مقرر وخطة موحدة وخصيصة شاملة)

بهذا التعميم يبسط الأستاذ سيد قطب رأيه الذي يربط به إدراك (سر الإعجاز في تعبير القرآن)

وقد قلت في مقالي السابق عن كتابه (إن الحكم بتفضيل القرآن للتصوير كأداة مفضلة في التعبير يقتضي الاعتماد على الإحصاء وظهور نتيجته بكثرة عددية، فهل إذا أحصينا طرق التعبير في القرآن نجد ما قرره المؤلف يحظى بالكثرة العددية؟ إني أترك له أن يستعرض صفحات القرآن، فسيجد أن التصوير الفني أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة في القرآن، وليست هي الغالبة ولا الكثيرة، فتارة يعبر عن المعنى المراد بالتعبير المتكافئ المعنى واللفظ، الذي يستخدم الألفاظ الوضيعة وحدها، وتارة يستعير لفظة واحدة من غير أسرة الألفاظ التي في الجملة ليحرك بها الخيال ويلمس الحس لمساً رفيعاً، وتارة تكون ألفاظ الحقيقة وملابسات الخيال متساوية، وتارة تكون ملابسات التصوير وإثارة الخيال هي الغالبة، وتارة تكون هي الكل، ومع ذلك يحتفظ القرآن في كل أولئك بأسلوبه المتفرد وسر إعجازه. فليس التصوير الفني وحده (هو سر الإعجاز في تعبيره).

ولكن الأستاذ سيد يقول في الرد علىّ (نعم (أي أن نتيجة الإحصاء تؤكد رأيه) وقد ك مهمتي هي هذا الإحصاء وكان حكمي قائماً على هذا الإحصاء)

وقد وصلنا بهذا الرد إلى مكان تغني فيه الأمثلة والشواهد مالا يغني الجدل. ولست أستطيع أن أسرد (القرآن كله) في مجلة الرسالة للاستشهاد كما لم يستطيع صاحب (جحا) أن يعد النجوم حينما سأل (جحا) كم عدد نجوم السماء؟ فقال له: كذا. . . فلما تشكك ذلك الصاحب قال له حجا: إن لن تصدقني فعدها أنت. . .)

وهأنذا أفتح المصحف حيثما اتفق، فاقرأ معي من سورة الفرقان: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. الذي له ملك السموات والأرض، ولم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدَّره تقديرا. واتخذوا من دونه آلهة لاَ يَخلُقون شيئاً وهمُ يخلَقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا، وقال الذين كفروا: إن هذا إفْكٌ افتراه وأعانه عليه قوم آخرون؛ فقد جاءوا ظلما وزورا. وقالوا أساطيرُ الأولين اكْتَتَبَها فهي تَمْلَي عليه بكرة وأصيلا. قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض. إنه كان غفورا رحيما). ولفتح القرآن مرة أخرى حيثما اتفق ولنقرأ من سورة الأنعام:

(الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلماتِ والنور، ثم الذين كفروا بربهم يَعْدِلون. هو الذي خلقكم من طين، ثم قضى أجلاً. وأجل مسمى عنده، ثم أنتم تمترون. وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون.

وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، فقد كذبوا بالحق لما جاءكم، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون).

ولنقرأ سورة الأعلى:

(سبَّح اسمَ ربَّك الأعلى. الذي خلق فسوَّى. والذي قدّر فهدى. والذي أخرج المرعى. فجعله غُثاء أحْوَى. سسُنْقرِئُك فلا تنسى. إلا ما شاء الله. إنه يعلم الجهر وما يخفى. ونيسرك لليسرى. فذكر إن نفعت الذكر. . .)

ولنقرأ من النساء (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم وكان الله سميعاً عليما. إن تُبْدُو خيراً أو تخفوه أو تَعفُوا عن سوء فإن الله كان عفوَّا قديراً. إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرَّقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرين حقا، واعتدنا للكافرين عذاباً مُهينا. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم، وكان الله غفوراً رحيما).

واقرأ من سورة الأعراف: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. قال يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين. أوَعَجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذَّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوماً عَمِين) وهكذا سأتعب واتعب القارئ من عد آيات القرآن للاستشهاد بها في هذا المعرض كما يتعب من يعد نجوم السماء. . .

فأين في هذه الآيات وأمثالها الكثيرة (التصوير الفني) الذي لفت نظر الأستاذ سيد وأثار خياله، حتى وهو طفل، بحبكته في اللوحات ذات الوحدة والتناظر والتمثيل الجامع ذي الظلال والأجواء الشاملة كما يتجلى في (ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ، فإن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلبْ على وجههً. . .) وفي: (مَثَل الذين كفروا بربهم، أعماُلهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء) وفي (له دعوة الحق. والذين يَدْعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفَّيْه إلى الماء ليَبْلُغ فاهُ، وما هو ببالغه. . .) وفي (ومن يشرك بالله، فكأنما خَرَّ من السماء فتخْطَفُه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق. . .)

فهل نستطيع أن نقول إن أمثال هذه الآيات التي ذكرناها من سور الفرقان والأنعام والأعلى والنساء والأعراف لا تعبر عن (معان مجردة أو حالات نفسية أو صفات معنوية أو نماذج إنسانية. . . الخ) وهل نستطيع أيضاً أن نقول إن (نوع) التعبير في هذه الألوان واحد من الجهة الفنية؛ وهل لا نلمس في هذه الآيات نفس الإعجاز الذي نراه في غيرها من أدوات التعبير القرآني، حتى نربط ما بين الإعجاز وبين التصوير الفني؟

لا. إني لا أقر الأستاذ قطب على هذا التعميم، وكنت أحسبه فلتة قلم إليها حماسة للموضوع ولكن رده علىّ بعد ذلك يؤكد أنه (يعني مرتكنا فيه إلى الدليل). فلم يكن لي بد أن أسرد له وللقراء تلك الشواهد التي سلفت، محيلا إياهم على استعراض القرآن. ليتبينوا أن (التصوير الفني) أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة، وأن القرآن يحتفظ بروحه الفذ وجميع خصائصه الإعجازية في كل هذه الأدوات. . .

- 2 -

أنا ما خشيت على القرآن من إدراك (سر الإعجاز في تعبيره) كما ظن الأستاذ سيد، وإنما بينت أننا لو ربطنا بين سر الإعجاز وبين التصوير الفني وحده نكون قد سوينا بين تعبير القرآن وبين غيره من مواريث أرباب البيان الرفيع في كل لغة إذ أننا نجد في مواريثهم استخدام التصوير الفني للتعبير عن (المعاني الذهنية والحالات النفسية والحادث المحسوس والمشهد المنظور. . . الخ) ومع ذلك لا نجد في بيانهم هذا اللون المتفرد ولا نجد في نفوسنا هذه الاستجابة المسحورة لتخييلهم وتصويرهم كما نجدها حينما نتلو القرآن.

فأكرر للمرة الثانية أن المعجز من أمور الحياة ما لا يمكن الوصول إلى سره واستخدامه، وكل أدوات التعبير التي أشرنا إليها قد استخدمها البلغاء. ولكن شتان بين الروح الخلفي الذي يترقرق في بيان القرآن ويشع من (هياكله) البيانية في السطور وما بينها وبين الهياكل البيانية البشرية الجميلة. . . شتان بين ما يمكن إدراكه بالمقاييس والمسافات، وبين أسرار ذلك العالم الأعلى الطليق الذي تنزل منه في القرآن روح متفرد لا يستطاع بحدود وأربطة. فلا يصح أن نربط بين سر الإعجاز وبين أي أداة من تلك الأدوات. إن الكون صنع الله والقرآن كلام الله، وأسرار الإعجاز في كلامه كأسرار الإعجاز في صنعه، نستطيع أن نصف آثارها في نفوسنا وعجبنا منها. ونستطيع أن نهتدي فيها إلى معالم للجمال تقاس، وعجائب للبلاغة تجلّي ولكنا لا نستطيع أن نقول: إنها موضع سر الإعجاز في تعبيره.

- 3 -

كل ما في القرآن من (منطق) الوجدان في إثبات عقيدة التوحيد أنه ساق القضايا العقلية بتعبير جميل أخَّاذ حرك به الوجدان والمشاعر مع تحريك الذهن والحكم لصلب كل قضية، ولم يسقها بأسلوب جاف كأسلوب المناطقة الرياضيين الذي تتزاحم فيه المعاني في ألفاظ ضيقة. وأي كلام اعتمد على (الحقائق البديهية الخالدة) وعلى مقدمات ونتائج صحيحة سواء أكانت محسوسة ومنظورة أم غير محسوسة ومنظورة فهو منطق ذهني. فإذا جمع إلى صحة المقدمات والنتائج جمال التعبير وروعة الأسلوب وإشراق الطلعة فهو منطق (وجداني) كذلك. منطق الوجدان - وإطلاق (المنطق) هنا تجوز في التعبير - هو الذي يتأثر بالخطابيات والشعر والموسيقى وغير أولئك من ألوان الفن التي لا تعتمد على الحقائق الثابتة و (نقط الارتكاز) الواضحة في عالم البداهة و (الحكم العقلي). والتأثر بهذا (المنطق) تأثر وقتي لا يترك رواسب في الذهن ومقاييس تملأ اليد، يستطيع الفكر أن يتحاكم إليها، ولأنها ألوان وظلال ونغمات وأعراض غير ملازمة تنفعل لها النفس انفعال الانقباض أو الانبساط وقتاً ثم يزول تسلطها عليها.

وليست هذه الأعراض هي طريق إقرار (العقائد) ودعائم الفكر والحياة عند الراصدين المتيقظين الواعين، وخصوصاً الدعامة الأولى والقضية الكبرى قضية (التوحيد) التي هي قضية الكون كله وأعظم شئونه! إن الوجدانيات من الخطابيات والشعر والموسيقى وسائل إقناع وقتي للبسطاء، وليست وسائل يقين ثابت للذين يبحثون لعقولهم عن عواصم تستند إليها من طوفان الأهواء والنوازع والوجدانيات المتقلبة. . . وما كان للقرآن وهو يتصدى لإثبات القضية الكبرى أن يعتمد على (المنطق) الوجداني وإني أرى الذهن في إثبات العقائد وخصوصاً (التوحيد) هو أوسع المنافذ وأصدقها وأدقها، كما بينت في المقال السابق بهذا الخصوص.

والذي يدعوني إلى أن أفهم أن الأستاذ سيد يذهب إلى أن مواطن العقيدة - بما فيها التوحيد - هو الوجدان قوله (موطن العقيدة الخالد هو الضمير والجدان) (وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة، وليس هو على أية حال أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً) (فلندع الذهن يدبر أمر الحياة اليومية الواقعة أو يتناول من المسائل ما هو بسبب من هذه الحياة. فأما العقيدة فهي في برجها العالي هناك، لا يرقى إليه إلا من يسلك سبيل البداهة ويهتدي بهدي البصيرة ويفتح حسه وقلبه لتلقى الأصداء والأضواء).

فهذه كلمات صريحة (فيها الحصر بأما والنفي والاستثناء) في إقصاء الذهن عن منطقة العقيدة، وفي التفريق بين عمل الذهن وعمل الوجدان في الحياة والعقيدة، اضطررت إلى مناقشتها في مقالي السابق كظاهرة لمذهب كلامي فشا الحديث به في هذا العصر الذي اتصل فيه المسلمون بغيرهم من الذين وجدوا أصول دينهم لا تستقيم مع الفكر والحكم العقلي فالتمسوا العقيدة عن سبيل الوجدان وحده

ومع أن هذا النص من كلام المؤلف يكفي لأن يسلكه مع القائلين بأن منطقة العقيدة هي الوجدان وحده، فإنني لم أغفل النظر إلى ما قاله قبيل هذا النص مما يستفاد منه أنه لا يخرج الذهن إخراجا كلياً من منطقة العقيدة.

ولذلك لم أناقش كلامه مناقشة حرفية ولكني ناقشت الفكرة التي تشيع في جو الفصل كله. ولْنُنْه هذا الجدل بالمثال فإنه ابلغ في الحجة وأروح للنفس. قلنا إن مسألة المسائل التي دار عليها أكثر جدل القرآن هي عقيدة التوحيد. وأنسب الآيات التي تناولت هذا الموضوع هي آيات سورة الأنبياء وقد ساقها المؤلف كدليل على ما ذهب إليه فلنقرأها معاً:

(أم اتّخَذُوا آلهة من الأرض هم يُنْشِروُن. لا ((يَنْشُروُن) كما ضبطها المؤلف. فليضمها إلى ما نبهه إليه فضيلة الشيخ السبكي). لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون! لا يُسْأَلُ عمَّا يَفْعلُ وهم يُسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة. . . قل هاتوا برهانكم! هذا ذِكْرُ مَنْ مَعي وذِكْرُ من قَبْلي، بل أكثرُهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) فهل ترى هذه الآيات تركت حجة (ذهنية) يمكن إيرادها للكر على مزاعم القوم ثم لم تفعل؟ (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم يُنْشِرون) فالإله هو وحده الذي يخلق ويحي ويُنْشِرُ الخلائق من الأرض. فهذا مقطع من مقاطع الاستدلال بكلمة واحدة يدور بها الذهن في استعراض سريع للأرض وكائناتها للبحث عن حيٍّ مخلوق واحد لغير الله فلا يجد. وإنه لَلدَّليل الاستقرائي بعينه! ذلك الذي بني عليه (بيكون) الفلسفة الاستقرائية الحديثة. . وإنه لَلدَّليل المفضل عند المربين وعلماء النفس.

(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وهذا مقطع آخر من مقاطع الاستدلال في كلمة واحدة أيضاً. . وإنه للدليل التطبيقي بعينه! أحد ضروب الأدلة الكبرى، يطبق فيه العقل في ظروفه ما يدركه من لوازم تعدد الرياسات وفساد الأمور إذا تولتها أيد متعددة سيكون بينها بالطبع ما يكون بين المتعددين ولا يمنع خلافهم وتنافسهم وتحاسدهم أنهم آلهة في طباع مختلفة عن الآدميين. فإن التصور البشري لا يستطيع أن يجرد الآلهة من صفات الناس لأنه لا يملك غير منطقة هو، فهو معذور!

(فسبحان الله رب العرش عما يصفون) ذلك موقف وجداني فيه انفعال وتقزز من تلك الدعوى وتنزيه لله عما وراءها من أزمات ومحرجات. وهو موقف معترض للإسراع بالتنزيه تعود الآيات بعدد إلى الاستدلال (لاُ يسأل عما يَفْعل وهم يسألون) وهذا مقطع آخر فيه ضرب عظيم من ضروب الاستدلال هو الدليل العلمي الواقعي، وهو كذلك أحد ضروب الأدلة الكبرى وله في الفلسفة العصرية المقام الأول إذ به تسير الحياة العملية وهو محور الاجتماع. . .

فما دام الواقع أن جميع الآلهة المزعومة مَلَّك الناسُ أن يواجهوها بالمسئولية والمحاكمة فلا يصح أن يكون آلهة ما دامت تقع عليها الدينونه. . . ولكن الذي خلق السموات والأرض لا يملك عابد له أن يرفع عينه إليه بمسئولية، بل ليس له إلا التسليم والإذعان ما دام عاجزاً عن الهرب من أقطار السموات والأرض. . . (ومن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فلْيمدُدْ بسبب إلى السماء، ثم لْيقطع فلْينظر هل يُذهِبَنّ كيدُه ما يغيظ!)

وهل فيما زعمته الوثنيات والاشتراكيات شخصية إلهية لم تسأل؟ إن آلهة اليونان والهندوس وغيرهما كما وردت في أساطيرهم ذات صفات عاجزة فيها العبث والغلط والمنازعات التي كان وراءها مسئوليات.

(أم اتخذوا من دونه آلهة. قل هاتوا برهانكم!) إذا نحن في مقام جدل كبير يتسع للرد وقوع الحجة بالحجة وتشقيق الدليل وراء الدليل، ولسنا في مقام تسليم بوجدان عن طريق تعريض (الحس للأصداء والأضواء) والخطابيات والشعريات والنغمات.

(هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) وهذا مقطع عظيم أيضاً من مقاطع الاستدلال هو ما يسمونه (الدليل التاريخي) إذ أن التاريخ لم يثبت حياة رسول جاء قومه بغير الوحدانية. . . إذا فقد سد القرآن مجالات القول والاستدلال أمام المشركين حتى أثبت أنهم لا يستندون في دعواهم إلى أي حق، إنما إلى التكبر والجهل والإعراض. وكان هذا الختام (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) نتيجة منطقية ذهنية واضحة لمقدمات واضحة أخذت بضروب الأدلة جميعاً ولم تترك مفراً لجدل مجادل. . .

فكيف بعد هذا كله يضرب الأستاذ قطب هذه الآية مثلا في أن القرآن تناول مشكلة التوحيد بلا جدل ذهني؟! إن المنطق هنا منطق ذهني دقيق أخذ من موارد الكون والنفس جميعاً، غير أنه ورد بتعبير القرآن الفني الجميل المعجز الذي يُدني البعيد القصيّ. . .

ألم يقل: (فإنما يسّرنا بلسانك لتٌُبشِّر به المتقين وتنذر به قوماً لُدَّا) وما أدراك ما لدَدُ العرب وجدالهم! (بل هم قوم خَصِمُون)

ولكن (إن كنت ريحاً فقد لا قيت إعصاراً) وقد أتاهم من القرآن إعصار من البين كَبَّهم على مَنَاخِرهم وأذقانهم!

عبد المنعم محمد خلاف