مجلة الرسالة/العدد 622/البحث العلمي أصوله وآدابه

مجلة الرسالة/العدد 622/البحث العلمي أصوله وآدابه

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 06 - 1945



للدكتور محمد مأمون عبد السلام

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

2 - قوة الملاحظة والقدرة على الاستنتاج

من الصفات اللازمة لنجاح البحاث في عمله أن يرى بعينه وبصيرته مالا يراه معظم الناس. فالشخص العادي إن أعطيته زهرة نبات لا يلاحظ فيها سوى لونها وحجمها ورائحتها. أما المدقق القوي الملاحظة فإنه يرى فيها ما يشغل فكره ويحير لبه. فإن ما رآه داروين وباستير وغيرهم من فطاحل العلماء قد مر بلا شك على نظر الملايين من الخلق قبلهم من غير أن يلاحظوه.

ولما كانت روح التنقيب والاستقصاء وحب الاستطلاع غريزية وقوية جداً في الأطفال وجب تشجيعها فيهم وذلك بأن يترك لهم المجال للاعتماد على أنفسهم في حل ما يعترضهم من المسائل فلا يتعدى ما يقدمه إليهم كبارهم الإرشاد في كيفية استخدام عقولهم وتدريبها في العمل على كشف أسرار ما يصادفونه من المعميات والصعاب.

على هذه النظرية بنى التعليم الحديث. فالأمم الحديثة الراقية تدرب صغارها لتصبح عقولهم مرنة غير جامدة، وعيونهم يقظة قوية الملاحظة، وأذهانهم وقادة سريعة الاستنتاج فيستخلصون النتائج بدقة وإمعان، فإذا التحق بعد أحدهم بعد إتمام دراسته بعمل ما أو بمعهد من معاهد البحث كان مدرباً من يوم نشأته على الاعتماد على نفسه في معرفة ما يستلزمه عمله أو بحثه من الشروط غير مستعين برئيسه إلا للاستفادة برأيه والاسترشاد بخبرته في حل المعضلات العويصة

فالتعليم التلقيني وهو الذي يلقن فيه الطالب العلم من أفواه المدرسين وصفحات الكتب دون التدرب على الاعتماد على النفس وقوة الملاحظة والاستنتاج وما يتبعهما من تشغيل الذهن؛ هذا التعليم نتيجته تخريج شبان ضيقي العقل جامدي الفكر قليلي الاعتماد على أنفسهم في حل ما يصادفهم من العقبات، فتراهم في عملهم حيارى لا يعرفون أين يتجهون فيكثرون من إلقاء الأسئلة على رؤسائهم لمناسبة ولغير مناسبة، وتجدهم ضعيفي الملاحظة والمشاهدة سريعي الاستنتاج الذي كثيراً ما يكون خطأ. وليس هذا لضعف طبيعي، بل هو نتيجة لازمة للتعليم التلقيني وصف عقولهم عن طريق التأمل والتفكير إلى طريق الحفظ. مثل هذا التعليم لا يلائم روح العصر الحاضر ولا يمكن بوساطته إخراج رجال يمكن البلاد الاعتماد عليهم في أعمالها ولا يكون لهم رأي محترم في دوائر البحث العلمية العالمية.

وقوة الملاحظة أو الفراسة صفة وراثية يصعب غرسها فيمن جرد منها. أما من اتصف بها فهو أوفق الأشخاص لأعمال البحث، إذ يمكنه بتهذيب هذه الصفة في نفسه وتنميتها أن يتمكن من كشف غوامض الأشياء وحل رموزهم بأبسط الطرق وأقربها منالا. وهذا ليس بسهل لأن السواد الأعظم من الناس يحاول حل المشكلات بأصعب الطرق وأكثرها تعرجا فيخيبون. ولا يفوز بسرعة الحل إلا الذي يتبع الطريق السهل الذي لبساطته وسهولته لا يخطر إلا ببال النوابغ.

3 - غزارة المادة العلمية

من أوجب الواجبات أن يكون البحاث واسع الاطلاع دائب المذاكرة في الكتب والمراجع لا يفوته علم قديم أو حديث، وعليه أن يلم بشتى العلوم التي لها صلة بعمله ليستعين بها في حل معضلات أبحاثه وتعليل نتائجها. ولنضرب لذلك مثلاً المشتغل في البحوث البيولوجية، فواجبه إن أراد أن يكون من أعلامها أن يلم بأصول اللغات اللاتينية والإغريقية نظراً لاستعمال أصولهما في وضع الأسماء العلمية. وعليه أن يجيد علاوة على لغته لغتين أو ثلاثاً من اللغات الحية للاستعانة بمراجعها في بحوثه كما يجب أن يلم بالعلوم الرياضية وأن يعرف الفيزيقا العلمية والنواميس المتصلة بكافة ظواهر الحياة كالجذب السطحي والميوعة وما إليها. ويلم بالكيمياء وعلى الأخص كيمياء الأحياء. وأن تعذر عليه ذلك فليستعن بكيميائي وهذا ضعف.

والواجب على المشتغلين ببحوث أمراض النبات أن يلموا إلماماً تاماً بكيمياء المواد العضوية التي يتركب منها قسم النبات العائل وجسم الطفيل المسبب للمرض والذي يفرزها كلاهما. مثل كيمياء النشويات، والسكريات، والخلووزات، والبكتوزات، والتنبنات والأحماض والالدهيدات وأحماض الأمينو والجلوكوسيدات والأنزيمات والزيوت الطيارة والاسترات وهلم جرا. ومن رأى أكابر العلماء الحديثين في دراسة علم أمراض النباتات أن بحوث هذا العلم تتوقف في نجاحها على فهم كيمياء العائل والطفيلي وما يطرأ في كليهما من التغيرات أثناء ارتباط حياة بعضهما ببعض. لذلك كان أغلب المتخصصين في البكتريولوجيا حاصلين على درجات في علم الكيمياء. وواجب الباحث في أمراض النباتات أن يكون متمكنا من علم الكيمياء غير العضوية لتساعده على البحث في المبيدات الفطرية ويتحتم عليه أن يحيط بأصول علم الأرصاد الجوية (المتريولوجيا) وعلم الجيولوجيا وفيزيقا التربة لما لهذا العلوم من العلاقة التامة بحدوث الأمراض وانتشارها. كما يتحتم عليه الإلمام بعلوم الزولوجيا (علم الحيوان) والحشرات لأن كثيراً من الحيوانات والحشرات تنقل الأمراض النباتية وتسببها كأن تحدث أوراما في جسم النبات تشبه الأورام الباثولوجية، فمعرفته بالآفات الحشرية تساعده على أن تكون استنتاجاته صحيحة مجدية. وليس لعمل المشتغل ببحوث أمراض النباتات أية قيمة مطلقاً إن كان قاصر المعرفة بعلم النبات؛ إذ كيف يمكنه دراسة المرض وتأثيره بدون أن يعرف تركيب النبات وتشريحه وتركيب أنسجته في حالة الصحة وما يطرأ عليها من التغير بسبب المرض وعلى وظائف النبات من الخلل بسبب البيئة؟ لذلك كان لعلم الفسيولوجيا النباتية المنزلة الأولى في بحوث أمراض النباتات إذ لا يمكن للباحث أن يعرف أحوال النبات المريض إلا إذا كان ملماً بالكيفية التي يؤدي بها النبات السليم وظائفه. ومن أوجب الواجبات على الباحثين في أمراض النبات أن يتبحروا في العلوم الزراعية على اختلافها، وفي فلاحة البساتين بصفة خاصة.

ونظراً للتشابه الكبير بين الباثولوجيا النباتية والحيوانية كان من المستحسن أن يتصل المشتغلون بالبحث في هذين العلمين ببعضهم البعض زيادة في الاستفادة.

وما يقال عن الباحثين في العلوم البيولوجية يقال عن غيرهم. من الذين يشتغلون بالبحث في مختلف العلوم.

4 - القدرة على تصميم التجارب وتنفيذها واستخلاص النتائج

لا بد للباحث عند وضع نظريته أن يثبتها بسلسة من التجارب يكررها عدة سنوات ليتأكد من ثبات نتائجها وصحتها، لذلك يبدأ الباحث في بناء بحثه بكثرة المشاهدة وجمع البيانات على أساس إحصائي لتتكون عنده فكرة عامة عن موضوع بحثه وتتجمع له المعلومات التي يستعين بها في وضع منهج تجاربه. وعند تنفيذ تجاربه تظهر له مشاهدات أخرى جديدة قد تدفعه إلى تعديل منهج تجاربه الأول. وهكذا كلما تكونت عنده فكرة جديدة وصادفته مشاهدات جديدة استعان على دحضها أو إثباتها بالتجارب حتى يصل في النهاية إلى الحقيقة الثابتة الناصعة المبنية على أساس علمي.

فالذي لا يأنس في نفسه القدرة على إتباع هذا الطريق في أبحاثه لا يصح أن يقوم بأي عمل من أعمال البحث. وأنه لمما يؤسف له أن العالم ملئ بالكثير من أصحاب النظريات غير المؤيدة بتجارب عملية صحيحة. وتراهم يفرضون آراءهم على الناس وعلى من ولي أمورهم للأخذ بها فيجدون من يغتر بأقوالهم فيستمع إليهم ويعمل بإرشادهم فلا يظهر دجلهم إلا بعد أن تتكبد البلاد نفقات باهظة؛ ناهيك بضياع الوقت وإفلات الفرص. وبلادنا تعج بأمثلة كثيرة من هؤلاء في كل مهنة وفن. والواجب على حديثي العهد بالبحوث العلمية أن يدأبوا على القيام بتجارب متنوعة كثيرة متواصلة واضعين نظرياتهم ونظريات وغيرهم موضع الاختيار والدراسة ليستفيدوا ويزدادوا خبرة وعلما.

ومن أهم أركان البحث قدرة الباحث على تفسير مشاهداته واستخلاص نتائج تجاربه. وهذا يستلزم القدرة على ربط النتائج بعضها ببعض للاستنتاج النهائي. وهذا يتطلب الدقة في الحكم وعدم التسرع فيه لأن الباحث إذا أراد أن تكون بحوثه مصدقة محترمة وجب عليه أن يثبت من صحة نتائجه وصدق تعبيرها.

والواجب ألا يكتفي من يقوم بأعمال البحث بما حصل عليه غيره من النتائج بل عليه أن يعيد تجارب غيره حتى يحصل بنفسه على نتائج تؤيدها أو تنفيها. كما يجب عليه ألا يكتفي بنتائج تجارب قام بها أحد كبار الباحثين اعتماداً على شهرته. فكل عالم عرضة للخطأ والزلل كأي إنسان آخر. وكم من رجل وصل إلى الشهرة بالإعلان والدجل ودق الطبول ونفخ الأبواق وحرق البخور.

وواجب البحاث أن يصدق كل شيء ليبني على هذا الشيء تجاربه؛ وألا يصدق أي شيء حتى يحصل على نتائج تجاربه؛ وألا يمنعه أي اعتبار مهما كان مقدساً عن البحث في طبيعة الأشياء.

5 - القدرة على تدوين النتائج وإعدادها للنشر لما كانت الكتابة واسطة للتعبير وجب على الباحث إجادتها ليؤدي المعنى بأبسط عبارة. ولذلك ينبغي عليه أن يعرف آداب اللغة التي يكتب بها وقواعدها وأساليبها مع التضلع في مفرداتها ليسهل عليه التعبير عن نتائجه بطريقة سليمة بسيطة سهلة لا يملها القارئ. فلا يستعمل كلمات لا معنى لها في موضوعه. إذ من أصول الكتابة العلمية أن تؤدي كل كلمة معناها الخاص بها اللازم للتعبير عن غرض الباحث. لذلك يجب عدم تكرار الألفاظ لغرض التنميق والتجميل لأن الغرض من الكتابة العلمية ذكر الحقائق من غير حشو وبأسلوب بعيد عن التجميل المستطاب في كتب الأدب.

والواجب على الباحث عند نشر بحوثه باللغة العربية أن يراعي قواعدها والكتابة بأساليبها لتبلغ جملة غايتها من غير شطط، وان يرجع إلى لغة العرب لانتقاء ما يصلح من ألفاظها للمصطلحات العلمية الحديثة؛ فإن عجز فلا غبار عليه من تعريب هذه المصطلحات بما يقبله الذوق أو من وضعها بحالتها وله قدوة في ذلك بمن سبقنا من علماء العرب الذين نقلوا كتب الأعاجم إلى العربية

والخلاصة هي أن الباحث يجب أن يراعي في نشر بحوثه القواعد الآتية: -

1 - أن تكون كتابته واضحة سهلة تؤدي لمن يقرؤها المعنى المقصود.

2 - أن يكون لكل كلمة وجملة يكتبها معنى يتصل اتصالاً وثيقاً ببحثه.

3 - أن تكون جملة صغيرة تحمل معنى كبيراً

4 - أن تكون جملة منطقية الترتيب من يقرؤها مقتنعاً بصحة نتائج بحثه.

ولا حرج على الباحث من نشر ما ينتهي منه من فروع بحثه أولاً بأول ولا يمنعه ذلك من الاستمرار في بحثه حتى تتم أدواره.

6 - حسن علاقة رؤساء البحوث بمرءوسيهم

يجب أن يكون المشرفون على البحوث بالنسبة لمرءوسيهم كالقلب بالنسبة للجسم ينظم حركة عمله. فإذا كان القلب سليماً انتظمت أعمال الجسم ولذلك يجب أن تتوفر في رئيس البحوث شروط خاصة كنكران الذات والتضحية والتفاني في الهبة وحسن الخلق والعلم الغزير مع التواضع وحسن توزيع العمل. وأن يعمل على إيجاد الجو الصالح لإدارة البحوث من غير أن يتأثر الباحثون بمؤثرات خارجية تشغل بالهم وتقلق راحتهم فينصرفون عن بحوثهم بمتاعب أنفسهم. لذلك يجب عليه أن يعمل لتأمين مرءوسيه على مستقبلهم فيضمن لهم العدالة في الترقية ومكافأة المجد على قدر ما يعود من الفائدة من نتائج بحوثه.

ويجب عليه إشراك مرءوسيه في مسئولية العمل ليشعروا بقيمتهم في الهيئة الاجتماعية والعلمية، وبأنهم يؤدون عملاهم أصحاب الفضل في إنجازه، وألا يجعلهم يشعرون بأنهم آلات تعمل لمصلحته ورفعته فإن فعل ذلك فإنه يدل على ضعة في النفس لا يكسب منها سوى حقد مرءوسيه عليه واحتقارهم له وإهمالهم في العمل، بل وإلى الغش الذي يسئ إلى سمعة المعهد خاصة والبلاد عامة. لذلك يجب على رئيس البحوث أن يكون لمرءوسيه بمثابة الأستاذ للطلبة، له فضل تدريبهم وتعليمهم وإرشادهم، ولهم نتيجة دراساتهم وبحوثهم ثمارها. فإنه ليس أدعى إلى بذر بذور الحقد والكراهية في مكامن النفوس بين الرئيس ومرءوسيه من شعورهم بمحاولته غمط حقوقهم المكتسبة بكدهم وحسن عملهم.

ومن دواعي فخر الرئيس العاقل أن يرى مساعديه ينشئون بين يديه صغاراً كالأطفال ثم ينمون ويترعرعون بفضل تعهده لهم وعنايته بهم إلى أن يصبحوا رجالاً مسئولين ذوي آراء محترمة وعمل نافع.

وعلى المرؤوسين واجبات مقدسة نحو رئيسهم، فعليهم أن يعتبروه كالأب يسرون إليه بأخطائهم فيجدونه واسع الصدر صادق الحكم والراي، حليماً في إرشادهم إلى الصواب، ويجب عليهم أن لا ينسوا أنه صاحب الفضل في تمرينهم وتدريبهم إلى أن وصلوا إلى الحالة التي مكنتهم من الاستقلال بعملهم.

هذا هو دستور البحث وأصوله وقواعده إذا توفر في أمة ضمنت نجاحها وتأهلت مكاناً لائقا ًبين الأمم الراقية. فهل نحن عاملون به في مصر. هذا موضوع سنتكلم عنه في فرصة قادمة إن شاء الله.

دكتور محمد مأمون عبد السلام