مجلة الرسالة/العدد 622/من أساليب التفكير
مجلة الرسالة/العدد 622/من أساليب التفكير
التبرير الجدلي
للأستاذ زكريا إبراهيم
(للكاتب الأمريكي جيمز هارفي روبنسون رسالة قيمة عرض فيها لأساليب التفكير المختلفة، مبيناً الدور الذي يؤديه كل في تكوين الحضارة الإنسانية. ونحن نعرض في هذا المقال لواحد من تلك الأساليب محاولين أن نكشف عن الأصل فيه، على ضوء علم النفس الحديث)
من أساليب التفكير المتنوعة أسلوب يطلق عليه علماء النفس المحدثون اسم (التبريد العقلي) أو الجدَلي. والأصل في هذا الضرب من التفكير أن يعرض أحد لمناقشة عقائدنا وآرائنا؛ فإننا عندئذ نعمد إلى تبريد هذه الآراء والمعتقدات بأدلة عقلية نصطنعها من أجل مواصلة الاعتقاد بتلك الآراء. وقد يحدث أحياناً أن نغير آراءنا وأفكارنا دون أن يكون ثمة مؤثر خارجي، ولكن إذا حاول أحد أن يثبت لنا خطأنا، فإننا نزداد تمسكاً بهذه الآراء التي ننادي بها ونمعن في التعصب لها والتعلق بها. ونحن في العادة متسرعون في تكوين آرائنا ومعتقداتنا، ولكننا نجد أنفسنا حريصين على هذه الآراء والمعتقدات، حينما يحاول أحد أن ينتقص من قيمتها، أو أن يشككنا في صحتها. ومن الواضح أن الأفكار نفسها ليست هي الشيء العزيز علينا، وإنما هو تقديرنا لذواتنا وحرصنا على كرامتنا الشخصية. فإذا كنا نميل بطبيعتنا إلى أن نتعصب لشخصنا وأسرتنا ومجتمعنا ومعتقدنا، فما ذلك إلا لأن في هذا ذَوْداً عن كرامتنا الشخصية. وقد تشتد الهجمات الموجهة إلى عقائدنا وأفكارنا، فنضطر إلى التسليم، ولكن يندر أن نعترف بالهزيمة (فالسلم - في العالم العقلي على الأقل - يجئ دائماً بغير نصر حاسم)
وقلما يكلف الناس أنفسهم عناء البحث عن الأصل في معتقداتهم التي يحرصون عليها ويتمسكون بها، فإن الحقيقة أننا ننفر بطبيعتنا من القيام بهذا العمل. . إننا نحب أن نثبت على العقيدة التي اعتدنا أن نسلم بأنها هي الحق؛ فإذا ما أثير حولها الشك، رحنا نبحث هنا وهناك عن حجج معقولة تبرر مواصلتنا التمسك بها، ولهذا فإن الجانب الأكبر مما نطلق عليه أسم (الاستدلال) أو التفكير المنطقي، ينحصر في البحث عن حجج وأدلة تبرر ث على المبادئ التي اعتدنا أن نسلم بصحتها
أما الأسباب (الحقيقية) لمعتقداتنا وآرائنا، فهي في الحقيقة خافية عنا، كما خافية عن غيرنا، والذي يحدث في واقع الأمر هو أننا نشب على الآراء التي وجدنا مجتمعنا يأخذ بها. ونحن نتشرب هذه الآراء من البيئة التي نعيش فيها عن طريق لا شعوري؛ فالجماعة التي نحيا بين ظهرانَيْها هي التي تهمس في آذاننا دائماً أبداً بهذه الآراء والمعتقدات. ولما كانت هذه الآراء أو الأحكام وليدة الإيحاء (لا التفكير المنطقي)، فإنها تبدو واضحة تمام الوضوح، حتى أن أي ظل من الشك يلقي حولها، يثير في الناس الدهشة والاستغراب. والواقع أننا إذا حاولنا أن نناقش رأياً من الآراء فوجدنا أنفسنا بازاء فكرة تبدو واضحة بينه حتى أن مجرد التعرض لمناقشتها يعتبر في نظر الناس عملاً غير مرغوب فيه، فإن هذا الرأي لا بد أن يكون عبارة عن فكرة تتنافى مع العقل، وبالتالي لا تستند إلى حقيقة ثابتة بينة.
أما الآراء التي هي وليدة الخبرة والتجربة، أو التفكير الصائب النزيه، فهي - على العكس من ذلك - لا تتصف بهذا (اليقين الأوَّلي) وفي هذا الصدد يروى روبنسون أنه حينما كان حدثا صغير السن، سمع جماعة من الناس يتناقشون في مسألة خلود النفس، فاستثاره الشك الذي أظهره بعضهم حول هذه الحقيقة. وهو يردف ذلك بقوله إنه حينما يعود اليوم ببصره إلى الوراء، فإنه يرى بوضوح أنه لم يكن معنياً بذلك الموضوع في ذلك الحين، بل أنه يقيناً لم يكن دليلاً واحداً صحيحاً يثبت به هذا المعتقد الذي يتعصب له. ولكن على الرغم من أنه لم يكن معنياً بالموضوع من قبل، وعلى الرغم من أنه لم يكن له عهد بالبحث في هذه المسائل، فانه مع ذلك لم يتردد في أن يظهر غضبه واستياءه حينما وجد آراءه ومعتقداته توضع موضع البحث والمناقشة.
وهذا التأييد التلقائي لآرائنا السابقة وأفكارنا المبتسرة؛ أو بعبارة أخرى هذا البحث عن الأدلة (المعقولة) التي تبر معتقداتنا المألوفة وآراءنا التقليدية، هو ما يُعرف عند علماء النفس المحدثين باسم (التبرير الجدلي) وهو بلا ريب ليس سوى أسم جديد لشيء قديم جداً. وهذه الأدلة (المعقولة) هي بطبيعة الحال وليدة التفضيل الشخصي والأحكام السابقة، فهي إذن لا تمت بصلة إلى الرغبة الصادقة في البحث عن معرفة جديدة أو في التسليم بحقائق جديدة وإذا نظرنا الآن إلى أحلام يقظتنا وجدنا أننا كثيراً ما نشغل أنفسنا فيها بتبرير ذواتنا. ومن الواضح أن السبب في ذلك هو أننا لا نستطيع أن نحتمل الشعور بأننا مخطئون على الرغم من أن الأدلة كلها قائمة على ضعفنا وكثرة أخطائنا. وتبعاً لذلك فإننا نضيع وقتاً كبيراً في البحث عن ظروف خارجية نرجع إليها أخطاءنا مثل سوء الحظ وانعدام التوفيق وعدم مواتاة الظروف لنا، ونجتهد في أن نُسْقط على الآخرين (وكثيراً ما يكون ذلك بمهارة فائقة) أسباب سقوطنا وخيبتنا. فالتبرير الجدلي إذن هو عبارة عن تبرئة النفس حينما يتهمنا الناس (أو يتهمون جماعتنا) بالخطأ أو سوء الفهم.
وليس من شك في أن حبنا لذواتنا، إنما هو العامل الخفي الذي يكمن من وراء كل تبرير جدلي. فهذا الضمير الذي نعبر عنه بحرف الياء (ي) هو في الحقيقة جوهر الحياة الإنسانية؛ هو حرف صغير لا يضيره أن تلحقه بأي لفظ كائناً ما كان، لأنه لا يفقد قيمته على أي حال، يستوي في ذلك أن تقول بيتي، عقيدتي، بلادي، إلهي. . . الخ. فنحن لا نغضب فقط حينما يخبرنا أحد ساعتنا غير مضبوطة، أو سيارتنا ليست جيدة، وإنما نغضب أيضاً إذا قال لنا أحد نطقنا لاسم (ابكتاتوس) غير صحيح، أو أن رأينا عن تاريخ سارجون الأول بعيد عن الصواب.
وهذا الشعور نفسه كثيراً ما نجده عند الفلاسفة والعلماء أنفسهم إذا كانوا بصدد مسألة يدخل مسألة يدخل فيها حبهم لذواتهم فإن كثيراً من المؤلفات الجدلية، ولم تكتب إلا لمواجهة خصومه أدبية - وعلى الرغم من أن بعض هذه المؤلفات قد ينطوي على استدلالات تبدو سليمة لا غبار عليها، فإنه من المحتمل أن تكون هذه الاستدلالات مجرد تبريرات جدلية ترجع في نهاية الأمر إلى بواعث نفسية. وإذن فإن من الممكن أن يُكتب تاريخ الفلسفة واللاهوت في عبارات الكبرياء المجروحة، والخصومات المذهبية، وضروب العداء المستحكمة بين الطوائف ويكون على هذه الصورة اصدق تعبيراً مما لو كتُبِ على الطريقة المألوفة. وإننا لنعرف أن ملتون قد كتب مبحثه عن الطلاق نتيجة للمتاعب الكثيرة التي لاقاها بعد زواجه من تلك الفتاة التي كانت تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً. وكذلك نعرف أيضاً أنه لم يكتب كتابه المشهور المعروف: إلا حينما أتهم بأنه رائد مذهب جديد هو مذهب المُطلَّقين؛ فكتب كتابه هذا لكي يثبت أن من حقه أن يقول ما يعتقد أنه الصواب؛ وبالتالي لكي يثبت حرية الصحافة والتأليف في إعلان الحق.
واليوم، تتردد لدى بعض الكتاب والمفكرين فكرة مؤداها أنه من المحتمل أن تكون كل معارفنا التي حصلناها، في علم الاجتماع، أو في الاقتصاد السياسي، أو في الأخلاق، إبان الأجيال الماضية، مجرد تبريرات عقلية قد يطرحها الجيل المقبل. وقد وصل المفكر الأمريكي جون ديوي بالفعل إلى هذه النتيجة فيما يتعلق بالفلسفة؛ واستطاع فلبن وغيره من المؤلفين أن يكشفوا عما في الاقتصاد السياسي التقليدي من آراء مبتسرة وافتراضات غير مدركة. واليوم يأتي عالم اجتماعي إيطالي يدعي (فلفريدو باريتو) في كتاب ضخم له عن الاجتماع العام، فيكرس مئات الصفحات، لكي يثبت هذه القضية العامة فيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية جميعاً. وهذه النتيجة التي توصل إليها، قد تعتبر في نظر الأجيال المقبلة إحدى المكتشفات العظمى لعصرنا الحديث. وليس بدعاً أن يكون ذلك كذلك، فإن الحقيقة أنه كما كانت علوم الطبيعة المختلفة قبل بداية القرن السابع عشر مجرد ضروب مختلفة من التبريرات العقلية التي تتفق مع المعتقدات الدينية السائدة، فكذلك العلوم الاجتماعية أيضاً قد بقيت - حتى إلى يومنا هذا - مجرد تبريرات عقلية تتفق مع العوائد والعقائد المتقبلة بغير نقد أو تمحيص.
من هذا كله يظهر لنا أنه إذا كنا بصدد فكرة قديمة يسلم بها الناس أجمعون، فإن هذا لا يمكن أن ينهض دليلاً على صحة هذه الفكرة، بل هو - على العكس من ذلك - أدنى إلى أن يكون دليلاً على أنه من الواجب أن نفحص هذه الفكرة بعناية، على أنها مثال محتمل للتبرير الجدلي.
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
مدرس بمدرسة السويس الثانوية