مجلة الرسالة/العدد 627/التعليم ووحدة الأمة
مجلة الرسالة/العدد 627/التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
- 6 -
أخيرا استجابت والحمد لله وزارة المعارف لما سبق أن وجهناه إليها في أوقات مختلفة من نداءات متكررة هاتفة بضرورة توحيد المرحلة الأولى من التعليم العام في سبيل إيجاد أساس موحد للثقافة بين أبناء البلد الواحد وفي سبيل محو الفروق بينهم في هذه المرحلة البدائية الضرورية لكل ناشئ. فلقد جاء في الحديث المستفيض الذي أدلى به عن التعليم معالي وزير المعارف لمراسل الأهرام بتاريخ 5 يونيه سنة 1945 بعد الكلام عن المشاكل التعليمية الوقتية وبصدد الكلام عن المشاكل الأصيلة ما يأتي: أن في مقدمتها (أي المشاكل الأصيلة) مشكلة التعليم الإلزامي، ففي مصر ما يقرب من ثلاثة ملايين من الأطفال في سن التعليم الإلزامي لا يتلقى التعليم منهم الآن فعلاً إلا أقل من مليون طفل. وهذا فضلاً عن أن التعليم الذي يتلقونه في المدارس الإلزامية تعليم يجمع الرأي على أنه فاشل. لذلك كان واجبنا الأول العمل على تعميم المرحلة الأولى من التعليم بأسرع ما يمكن. وليس هناك أي مبرر لتعدد أنواع التعليم في تلك المرحلة من إلزامي وأول وابتدائي فهذا نظام عتيق مناف للديمقراطية عدلت عنه جميع الأمم الأخرى الراقية وانتهت إلى توحيد المرحلة الأولى لجميع الأطفال. وبعد كلام آخر عن المجانية في التعليم الابتدائي اختتم معاليه في هذا الموضوع بالذات بقوله: (لذلك تتجه سياستي إلى العمل على توحيد التعليم الإلزامي والأولى والابتدائي في مدرسة واحدة مشتركة تأتي بعدها المراحل الدراسية الراقية لكل طفل يظهر استعداداً لها. ويلي ذلك مرحلة تدعى مرحلة التعليم الثانوي. وكل هذه المراحل لا تتجاوز ثلاث عشرة سنة).
وإنه لاتجاه جميل جداً بل اتجاه ديموقراطي مستقيم أن تتوحد المرحلة الأولى في التعليم الإلزامي والأولى والابتدائي وتنضم جميعها في مدرسة واحدة لتتكون منها المرحلة الابتدائية في التعليم؛ غير أنا نرجو أن تتوحد هذه المرحلة توحيداً لا يمس ثقافة الناشئ ولا ينتقص منها شيئاً عن الطريق إقلال مدة التعليم فيها. إذ أن التنظيم الجديد يستدعي إيجاد مرحلة وسطى بين التعليميين الابتدائي والثانوي الحاليين ويستدعي جعل مدة التعليم ف المرحلة الأولى الجديدة أربع سنوات فقط، مع أن مدة هذه المرحلة كانت عندنا سبع سنوات في رياض الأطفال مع التعليم الابتدائي الحالي وست سنوات في التعليم الإلزامي الحالي الذي نشكو قلة فائدته ونسيان التلاميذ لما يتعلمونه فيه بعد الانتهاء منه، أو بقول أعم نشكو فشله كما جاء في تصريح معالي الوزير آنفاً. لذا فأنا نرى أن الناشئ على النظام المقترح لا يمكن أن يستفيد فائدة معقولة من المرحلة الأولى الجديدة إلا إذا تابع دراسته في المرحلة الثانية كلها وليس عندنا ما يلزمه بذلك. وفي هذا ما فيه من فشل المرحلة الأولى إذا اقتصر الطفل عليها فقط. وكثير جداً أولئك الأطفال على ما نعتقد الذين ستضطر الظروف أهليهم إلى الاقتصار على هذه المرحلة فقط دون السير في المرحلة الوسطى.
إن هذا النظام المقترح لم ينفذ في إنجلترا إلا حديثاً بعد تطورات كثيرة في نظم التعليم وبعد أن محيت منها الأمية وبعد أن استعدت له البلاد بالمعلمين اللازمين وبالأبنية الضرورية للمدارس، وبعد نقاش وجدل واخذ ورد كثير في لجان مختلفة، من لجنة هادو إلى لجنة أسين إلى لجان أخرى. وكانت بعض المدارس قبل تنفيذ هذا النظام في إنجلترا تجمع بين الأطفال والمراهقين وتحتم على الطفل أم يتابع التعليم فيها من الطفولة إلى المراهقة. لذا فأن الكثيرين من رجال التعليم عندنا يرون أن الأخذ بهذا النظام اليوم يعد طفرة غير ملائمة، وربما كان ضرره بالتعليم أكثر من نفعه خصوصاً أنه يتطلب الآن زيادة كبيرة في أمكنة المدارس وفي عدد المعلمين اللازمين بنا لا يقل عن الثلث، لأن فيه زيادة مرحلة بين مرحلتين وهي زيادة ضخمة لا نطيقها الآن خصوصاً بعد التجربة التي قاستها البلاد على حساب الثقافة العامة في تنفيذ مجانية العام المنصرم، وقد لمس ذلك معالي الوزير بنفسه وصدر به تصريحاته عن المشاكل الوقتية في التعليم فقال حفظه الله: (إن معظمها ناشئ من الخطة التي سارت عليها الوزارة في السنوات الأخيرة من إرغام المدارس على قبول عدد من التلاميذ يزيد كثيراً على ما تتسع له ونستطيع تعليمه والإشراف عليه إشرافاً مثمراً من غير عناية بأعداد المباني والكتب والمعدات اللازمة لمواجهة الزيادة في التلاميذ وإعداد المعلمين الصالحين لها. .) ثم ذكر معاليه في سياق حديثه عن مجانية التعليم الابتدائي ما يأتي: (وقد شملت الفوضى امتحانات القبول بالمدارس الابتدائية وإنشاء الفصول إنشاء مرتجلا من غير إعداد المباني ولا الأدوات اللازمة. واكتظاظ المدارس والفصول اكتظاظاً لا يقل عنه بالمدارس الثانوية، ونقص المدرسين في المدارس عن العدد اللازم، واستمرار حركة التنقلات شهوراً بعد بدء الدراسة لمحاولة سد ذلك النقص.) ولذلك فأنا ندعو الله لمعالي الوزير الجليل بالتوفيق ونعيذه من أن ينال مشروعه من النقد منا غيره؛ لأن التنفيذ السريع لهذا المشروع الضخم الكبير ربما يجرنا إلى ورطة أكبر من ورطة مجانية التعليم الابتدائي. من أجل ذلك نرجو التريث في الأمر وعرضه على بساط البحث بين رجال التعليم على اختلاف طبقاتهم لتمحيصه والاقتناع به حتى يخلصوا في تنفيذه إذا جد الجد، كما نأمل أيضاً في معالي الوزير الديمقراطي أن يعرض الأمر على المجلس الأعلى للمعارف الذي نرجو أن يجتمع قريباً وأن يكون في تشكيله مجلساً قومياً ممثلاً لجميع الأحزاب حتى يتكون في صف المشروع رأي عام قوي لا تزعزعه العواصف ولا يفكر في إلغائه يوماً فيكون نظام التعليم عرضة لانقلابات تنزل به هزات وضربات قد تؤخره لا قدر الله وترجعه أعواماً إلى الوراء.
ثم إنا نرجو بعد إن اقتنع معالي الوزير بفكرة توحيد التعليم في مرحلته الأولى أن نضع تحت نظر معاليه مشروعاً آخر نرى أنه أكثر ملاءمة لحالتنا الراهنة إذ ليس فيه للأوضاع القائمة ونأمل أن يدرس بجانب المشروع الحالي:
ذلك أن يوحد التعليم في المدارس الأولية والإلزامية والابتدائية الحالية على أساس جعل مدة الدراسة فيها ست سنوات كاملة تنتهي في سن الثانية عشرة على أن يكون المنهج خالياً من اللغات الأجنبية التي تبدأ دراستها في مرحلة التعليم الثانوي لمن يستأنف دراسته فيها بعد ذلك، وأن يخصص نصف وقت الدراسة أو أكثر في جميع مدارس المرحلة الأولى للثقافة العامة المشتركة التي يجب أن تجوى مقداراً معيناً من أسس الثقافة كاللغة والدين والحساب الخ، ويترك باقي الوقت لدراسة المنطقة المحلية ليكون تحت تصرف الهيئة التعليمية المشرفة على المنطقة تتولى هي وضع المنهج المحلي اللازم له باتفاق المدرسيين والنظار والمفتشين. ثم يتفرغ التعليم بعد ذلك في المرحلة الثانية إلى فروعه المختلفة بين ثانوي وزراعي وصناعي وتجاري الخ؛ وأعتقد أن الشطر الأول من هذا المشروع كان قد تقدم باقتراحه أو باقتراح قريب منه على الوزارة بعد دراسته دراسة فنية معهد التربية في سنة 1934عند النظر في تنقيح خطط التعليم ومناهجه.
وإني أسأل الله أن يوفق العاملين إلى ما فيه وحدة الأمة والنهوض بثقافتها ورفع مكانها بين الأمم الأرض جميعاً.
عبد الحميد فهمي مطر