مجلة الرسالة/العدد 627/تسوية المنازعات الدولية

مجلة الرسالة/العدد 627/تسوية المنازعات الدولية

مجلة الرسالة - العدد 627
تسوية المنازعات الدولية
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1945



للأستاذ نقولا الحداد

قرأنا بالأمس النص الرسمي لميثاق السلم والأمن فلم نر فيه الضمانة التامة للسلم والأمن، على الرغم من بذل كل مجهود في سان فرنسيسكو.

في هذا الميثاق هيئتان كبريان للحرص على الأمن الدولي: الأولى الجمعية العمومية المؤلفة من جميع الأمم المتحدة التي كانت ممثلة في مؤتمر سان فرنسيسكو. والأخرى مجلس الأمن وهو مؤلف من أحد عشر عضواً، خمسة منهم ذوو كراسي دائمة في المجلس وهم بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وفرنسا والستة الباقون تنتخبهم الجمعية العمومية من سائر الأمم المتحدة الأخرى لمدة سنتين ثم ينتخب غيرهم.

على أن حبل الأمن والسلم في يد هذا المجلس وهو أهم ما قرره المؤتمر ونص عليه في هذا الميثاق. ولذلك نتساءل الآن هل يصون هذا المجلس سلام العالم؟

كان العيب الأكبر في جمعية الأمم السابقة التي تمخضت بها شروط الصلح بعد الحرب الماضية أنها لم تكن مسلحة لكي يمكنها أن تنفذ قراراتها. ولم يُبح من وسائِل التنفيذ سوى وسيلة واحدة وهي التوصية بمقاطعة الدول المعتدية. ومع ذلك كانت هذه الوسيلة أضعف من الضعف لأن العمدة فيها كانت مروءة الدول أعضاء الجمعية. وليس للدول كما نعلم مروءات ولا ضمائر توجب عليها تنفيذ العهود.

وقد امتُحنَت جمعية الأمم وضمائرُ الدول في بعض المواقف فخابت. وكان آخر امتحان لها في قضية اعتداء إيطاليا على الحبشة فحكمت الجمعية بمقاطعة إيطاليا. فما من دولة نفذت هذه المقاطعة اللَّهم إلاَّ إنجلترا لأنها كانت في الحقيقة هي لا جمعية الأمم، خصم إيطاليا، بل كانت هي وحدها جمعية وبقية الأمم الأخرى ذيولاً لها. وأما فرنسا فعكست حكم المقاطعة بأن أقرضت إيطاليا حينئذ عشرين مليون جنيه بدل أن تمتنع عن مساعدتها.

هذا كان أمر جمعية الأمم المرحومة، فما كانت إلا قصبة مرضوضة لا حول لها ولا طول، فما صانت سلاماً ولا حفظت أمناً ولا منعت حرباً. فهل مجلس الأمن الذي وُلِد بالأمس أكثر طاقةً وأفعل صولةً منها في حفظ السلام؟ كان عيب جمعية الأمم المغفور لها أنها كانت عزلاء من السلاح. فهل مجلس الأمن الجديد مولود مسلحاً؟ يستفاد من الفصل السادس، فصل تسوية المنازعات، من مادة 36 إلى مادة 55 أن مجلس الأمن يبذل كل مجهود لفض النزاع بين الدولتين المختصمتين بالطرق السلمية. وما عهدنا نزاعاً أنفض الطرق السلمية إلا نادراً جداً بين دولتين متعادلتين قوة سلاحاً. وأما إذا كانت إحداهما أضعف من الأخرى فلا يجدي إظهار الحق ولا محكمة العدل جدوى في التسوية بينهما سلمياً. فإما أن تستسلم الضعيفة مغلوبة على أمرها مغبونة، أو أنها تدافع عن حقها مستنصرة بدولة أخرى ذات مصلحة.

فهل لمجلس الأمن قوة حربية توقف الدولة المعتدية عن حدودها وتردها عن عدوانها؟

المادة 46 تخول مجلس الأمن أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والبريدية والبرقية واللاسلكية الخ؛ وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول المعتدية.

وهب أن بعض الأمم المتحدة امتنعت عن أن تلبي هذا الطلب (كما حدث في مسالة الحبشة إذ لم تقاطع أي دولة إيطاليا) فما الذي يرغمهما على تلبية الطلب، أتوقيعها على الميثاق؟ فما كان توقيع المواثيق يوماً من الأيام مقدساً محترماً. ما كان إلا قصاصة ورق.

ولمجلس الأمن أن يقرر استخدام القوة وأن يطلب من الأمم المتحدة تقديم القوات المسلحة وفاءً بالالتزامات في مادتي 47 و48. فإذا نكصت بعض الدول عن تقديم المساعدة الحربية فمن يلزمها أن يقوم بتعهداتها؟ وهب أن الدول (أعضاء مجلس الأمن)

اختلفت فيما بينها بشأن تنفيذ خطة المجلس أو قراره ثم تحولت الخصومة الصغرى إلى خصومة كبرى بين جانبي الدول فمن يحسم هذا الخلاف؟

لنفرض مثلا أن رفعت الدولة السورية (وحينما نقول السورية نعني اللبنانية أيضاً) شكوى من فرنسا المعتدية، ورأى مجلس الأمن أن لابد من استعمال القوة ضد فرنسا لأنها لم تذعن. وهب أيضاً أن بعض الدول تحيزت لفرنسا وأصرَّت على هذا التحيز ولم يعد ممكناً صدور قرار من مجلس الأمن، أوانه صدر قرار يستوجب طلب قوات حربية من الدول لإكراه فرنسا على الإذعان ولم تلب بعض الدول الطلب، أفلا يمكن أن يتحول هذا الخلاف في المجلس إلى خلاف كبير بين الدول ويعرضها لحرب هائلة؟

قد تقول هذا فرض بعيد الحدوث لأن الدول تعهدت وهي الآن في ظروف وأحوال تدعها تستحي من نكث عهودها. ولكن بعد سنين أو عشرات السنين يسقط برقع الحياءِ ولا تعود تحترم عهودها. فإذن الفصل السادس من الميثاق لا يضمن السلام (على طول)، أولا يضمنه غداً.

لو كانت نية جميع الدول حسنة وقد خنت من المطامع والمخاوف لكان في إمكانها أن تجعل مجلس الأمن قوة حاسمة لكل خلاف بين الأمم صغيرة وكبيرة.

قد تقول: وكيف ذلك؟

لو قررت الدول المؤتمرة في سان فرنسيسكو أن تضع كل دولة كبيرة وصغيرة على الفور تحت يد مجلس العدل قوات حربية جوية وبرية وبحرية الخ بحيث يفوق مجموع هذه القوات قوة أعظم دولة - كل دولة تقدم بنسبة طاقتها -. ومجلس الأمن يجعل قواد هذه القوات وضباطها من غير جنسها تفادياً للتمرد، وأن يفرق هذه القوات مختلطة في مراكز رئيسية بحيث تكون مستعدة للعمل بسرعة عند الطلب - لو قرر المؤتمر تسليح مجلس الأمن على هذا النحو ونفذ قراره في الحال، إذ يكون أعضاء المؤتمر في حماستهم وإبان شوقهم إلى السلام، لكان مجلس الأمن هذا مجلساً دولياً مسلحاً حقيقة، وكان في إمكانه أن ينفذ قرارات الأكثرية بلا تردد ولا خوف من الشقاق.

ومتى تم للمجلس هذا التسليح العظيم أمكنه أن ينزع سلاح جميع الدول ولا يبقى لها إلا ما هو ضروري لحفظ الأمن الداخلي

على هذا النحو يكون المجلس الدولي مجلس أمن حقيقة، وبه يصان السلام. ولكن ظهر من الميثاق الرسمي للسلم والأمن أن الدول دخلت قاعة المؤتمر وليس في قلوبها صفاء، ولا في ضمائرها نيات طيبة إلى النهاية

لست أتشاءم من مجلس الأمن، هذا الذي تمخض به المؤتمر فهو خطوة أخرى أفضل جداً من جمعية الأمم المرحومة. وإن شبت حرب ثالثة عظمى لا سمح الله بعد عجز مجلس الأمن عن تداركها - وإن بقي يعدها مدنية - فسيكون مجلس الأمن القادم بعدها كما وصفته آنفاً.

وإلى الملتقى.

نقولا حداد