مجلة الرسالة/العدد 635/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 635/البريد الأدبي

مجلة الرسالة - العدد 635
البريد الأدبي
ملاحظات: بتاريخ: 03 - 09 - 1945



حول الترتيب التاريخي للزوميات المعري

قلنا في عدد مضى من الرسالة إن الدكتور عمر فروخ أرسل إلينا كتابا مطولا حول هذا الموضوع يتهم فيه الدكتور عبد الوهاب عزام بكيت وكيت، ثم لخصناه وعلقنا عليه بما رأينا إنه الحق. وفي يقيني أن الدكتور فروخا لو عرف الدكتور عزاما أكثر مما عرف لاستبعد عليه أن يسرق بحثا من بيروت ليقرأه في مهرجان المعري بدمشق. ولكن الدكتور لم يرضه تلخيصنا لكتابه ولا تعليقنا عليه، فبعث إلينا بكتاب آخر يرمينا في مقدمته بالتعصب للدكتور عزام والتستر على (جريمته) والخوف من (نفوذه)، ويوعد بأنه سيطلب حقه من الدكتور عزام ومني بما طلب به المتنبي حقه في بيته المعروف، فرأينا تكذيبا لظنه وتبديدا لوهمه أن ننشر كتابه بنصه. قال عافاه الله بعد (الديباجة):

(طالعت المقالات التي كتبها الدكتور عبد الوهاب عزام عن لزوميات المعري وعن ترتيبها التاريخي في الأجزاء 624 - 625 - 636 من الرسالة الغراء، ولقد لفت نظري أمران:

أولهما: أن الدكتور عزام قال في آخر المقال الثالث: (هذا ما بدا لي في تاريخ اللزوميات وترتيبها، فمن بدا له ما يؤيد رأيي أو ينقضه، فليتفضل مشكورا بالإدلاء برأيه والإبانة عن حجته) ومعنى ذلك إنه أول من فعل ذلك

وثاني الأمرين: أنني وجدت شبهاً عظيماً، بل تطابقا بين الأسس التي أتخذها الدكتور عبد الوهاب عزام لترتيب اللزوميات وبين الأسس التي كنت قد استخرجتها ثم جعلتها أساسا لكتابي (حكيم المعرة) الذي صدر في بيروت في شباط (فبراير) من عام 1944

في هذا الكتاب عنيت بوضع أسس لترتيب اللزوميات، إذ أنني كنت أحاول حل قضية معقدة، هي ما ينسبه بعض المتأدبين، من التناقض إلى حكيم المعرة. وبعد تدبر هذه القضية بدا لي أن ذلك راجع إلى أن ترتيب اللزوميات على حروف الروي ليس الترتيب التاريخي لها مما بسطته في موضعه

واستطعت بعد الدراسة والمقارنة أن أضع أسس ترتيب اللزوميات على خمس قرائن (حكيم المعرة ص24 - 34):

أولا: إشارة المعري نفسه إشارة عامة إلى نظم اللزوميات وترتيبها (ص24 - 25 من حكيم المعرة)

ثانيا: الإشارات التاريخية وأشهرها قصة صالح بن مرداس (26 - 38)

ثالثا: إشارة المعري إلى سني عمره في أثناء نظم اللزوميات (ص28 - 29)

رابعا: الإشارة إلى تقدم سنه من غير أن يذكر السنوات صراحة كأن يتكلم على شبابه وشيبه وملله من الحياة وحبه لمفارقة الدنيا. . . الخ (29 - 30)

خامسا: تطور أسلوبه في نظم اللزوميات من حيث النضج والقوة (ص30 - 31)

وجاء الدكتور عبد الوهاب عزام فسلخ القرائن الأربع وذكرها على التوالي الذي اخترته، بما يعد أن حذف القرينة الخامسة، لأن البحث في الأساليب أصعب من البحث في غيرها. ويدهشك فوق ذلك كله أنني اعتبرت القرينة الأولى (أعني إشارة المعري نفسه إلى نظم اللزوميات وترتيبها) مقدمة لا غير، لأنه لا يجوز أن أنسب إلى نفسي استخراج أساس أشار صاحبه إليه إشارة واضحة. ولقد فعل الدكتور عزام ذلك مثلي تماما، ثم بدأ بالإشارات التاريخية الخ على الترتيب نفسه لم يغير منه شيئا

على أن هذا لا يمكن أن يكون توارد خواطر، لأن الخواطر قد تتوارد في بيت من الشعر أو في رأي أدبي عارض، أما في بحث علمي طويل ذي فصول وفروع وتقسيم واستنتاج وشواهد وأمثلة فأمر مستحيل وخصوصا إذا اتبع المتأخر المتقدم

ولقد كان توارد الخواطر ممكنا في زمن تقطع بين أرجائه الصحاري والمدى البعيد، أما اليوم في عصر السيارات والطيارات والبريد السريع، فأي عذر ينهض بالمتأخر إذ ادعى أن خاطره وخاطر المتقدم قد تواردا؟

بقي على الدكتور عزام أن يدعي إنه لم يطلع على كتابي، وهذا مردود من وجهين:

أول ذينك الوجهين أن كتابي صدر قبل عام ونصف عام من صدور بحثه، وأن الناشر في بيروت قد أرسل نسخ كتابي إلى العالم العربي، وأرسلت أنا إلى ناشر في لندن عددا كبيرا. ولقد نقدت كتابي المجلات، وبعضها أشار إلى هذا الترتيب التاريخي.

وثاني الوجهين أن العالم الحقيقي لا يهجم على عمل مثل هذا إلا بعد أن يتقصى المكاتب ويفتلي الكتب والمجلات، وخصوصا إذا خطر له موضوع ذو خطر وهناك أدلة أخرى على أن الدكتور عبد الوهاب عزام أخذ البحث عني ولم يبدأه بنفسه، منها أن نماذجه التي يدعي إنه استخرجها من اللزوميات لا تسند نظريته المدعاة، فليس كل بيت في ذكر للسن راجعا إلى سن المعري. وكذلك ذكر الدكتور عزام في الإشارات التاريخية أسماء (محمود ومسعود)، وقد ذكرت أنا ذلك ولكن في باب آخر (راجع ص94 من حكيم المعرة) للدلالة على أن عمر الخيام كان شديد التأثر بلزوميات المعري، فيما ذكرت من أدلة ذلك

عمر فروخ

وقد اطلع الدكتور عزام على ما نشرته مجلة (الأديب) وكتبته مجلة (الرسالة)، فأرسل إلينا الكتاب الآتي:

الأستاذ الجليل صاحب الرسالة

السلام عليكم. وبعد، فقد اطلعت في العدد الأخير من مجلة الأديب التي تصدر في بيروت على كلمة عنوانها (إلى الدكتور عبد الوهاب عزام) وتوقيعها (قارئ). وخلاصتها أن هذا القارئ أدرك تشابها بين مقالاتي التي نشرتها في (الرسالة) عن لزوميات المعري وبين بحث في كتاب للدكتور عمر فروخ اسمه (حكيم المعرة). وظن القارئ، وبعض الظن إثم، أني أخذت (الفكرة والترتيب والأدلة والنماذج) من هذا الكتاب

وقد أرسلت إلى مجلة الأديب مبينا أني لم اطلع قط على بحث في هذا الموضوع للدكتور عمر فروخ ولا لغيره قبل كتابة مقالاتي ولا بعدها. ولم استطع أن أتكلم في هذا التشابه بين البحثين حتى أطلع على الكتاب

ثم اطلعت اليوم في الإسكندرية على العدد 631 من الرسالة - وقد فاتني قراءته حين صدوره - على كلمتكم التي نقلتم فيها نبذا من رسالة الدكتور عمر فروخ إليكم، وأبديتم رأيكم في الموضوع

وقد أخذت من هذه الكلمة أن بحث الدكتور عمر الذي وقع التشابه بينه وبين بحثي يرجع إلى ترتيب اللزوميات فحسب.

ومن قرأ بحثي في (الرسالة) يعلم أن موضوعه: متى نظمت اللزوميات وكيف رتبت؟ فهو قسمان: الأول: تحديد الوقت الذي نظم فيه المعري لزومياته؛ والثاني: بيان أن ترتيب اللزوميات على الروي يوافق الترتيب الزماني أولاً. والبحث الأول هو الذي كلفني قراءة اللزوميات كلها واستخراج الحوادث التي ذكرت فيها، والرجال الذين ذكرهم الشاعر وتاريخ هذه الحوادث وهؤلاء الرجال واستقصاء الأبيات التي ذكر فيها المعري سنّه، والتي ذكر فيها سواد شعره ومشيبه. . . الخ، وقد انتهيت إلى أن الكتاب نظم بين سنتي 400 و420 من الهجرة

وأما البحث الثاني المتضمن أن ترتيب اللزوميات غير مساير للتاريخ، فالأمر فيه أمم، والفصل فيه يسبر بعد الفراغ من البحث الأول

فهل يدعي الدكتور عمر التشابه بين كلامي وكلامه في البحث الأول أو في البحث الثاني؟ الذي يؤخذ من الكلمة التي نشرتها الرسالة إنه يجادل فيما يتصل بالترتيب التاريخي وحده، وكل من قرأ بحثي يعلم يقينا أن كلامي في هذا لا يمكن أن يؤخذ إلا من بحثي في القسم الأول، فهو نتيجة محتومة لي، وهو ليس بذي بال بعد البحث الأول، ولا يقتضي الباحث عناء ولا تعمقا، فليس معقولا أن أنقله عن غيري بعد أن فرغت من البحث الأعمق والأشق الذي بينت فيه متى نظمت اللزوميات

ومهما يكن، فإني أعيد ما أرسلته إلى مجلة الأديب، أني إلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمة لم أطلع على بحث لأحد في هذا الموضوع، ولا رأيت كتاب الدكتور فروخ

ولو كان الفصل في ترتيب اللزوميات وتبين أنها ليست مرتبة على التاريخ يعد فتحا في الأدب ما أجزت لنفسي أن أنتحل فيه كلام غيري، وأن أسوم نفسي ما لم تعوده من الاتكال على أبحاث الناس، بله النقل أو السرقة

إن هذا البحث وما هو أعظم منه وأشق وأجدى، ليس عظيما من رجل مثلي يقرأ اللزوميات كلها قراءة فاهم ناقد

وكان خيراً للدكتور عمر ولمن كتب في مجلة الأديب أن يرسل إلي الكتاب ويسألني رأيي، فإن المسارعة إلى اتهام مثلي بنقل كلام الناس لا يليق بالأدباء، ولا يلائم تثبت العلماء

وأرجو أن تنشروا هذه الكلمة مشكورين. والسلام

(الإسكندرية 7 رمضان)

عبد الوهاب عزام

ملاحظة وتصحيح: اطلعت في البريد الأدبي بالرسالة تحت هذا العنوان على نقد للأبيات التي وردت في كتاب (في بيتي) للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، وقد أشار فيه الكاتب إلى أن صدري البيتين الثاني والثالث خارجان عن البحر، وأنهما لا يصحان على وجه من الوجوه. قال: ثم بحثت الأمر لأتأكده فظهر لي ما أدركته أولاً، كذا!

ولما كان الروي هو التاء المكسورة، وكان الوقف لا يصح عليها، لأن (القصر) لا يدخل البحر المجتث، ظهر لي أن في البيت الثالث إقواء، فكلمة (أداه) في البيت لا يصح جرها بحال

وأحب أن أعفي الأستاذ العقاد من الرد على هذا النقد، فقد كان في استطاعة الكاتب أن يرجع إلى هذه الأبيات في ديوان (وحي الأربعين)، ليرى أن الشاعر قد وضع علامة السكون على القافية. . . وكان في حل من وضع هذه الإشارة، لأن القوافي ليست من حركة واحدة. . ويحسن بي أن أطلع القارئ على هذه الأبيات كاملة كما قرأتها في (وحي الأربعين) ليصدر حكمه عليها:

النور سر الحياة ... النور سر النجاة

النور شوق النهى ... النور وحي الصلاة

النور شوق الفتى ... النور شوق الفتاة

المحهْ بالروح لا ... لمح العيون الخواة

ما تبصر العين من ... معناه إلا أداة

هذا سبيل الهدى ... لا ما افتراه الهداة

ويتبين من هذه الأبيات أن وزنها:

مستفعلن فاعلن ... مستفعلن فاعلان

بسكون التاء في القافية، وإذ كانت الموسيقى هي رائد الشاعر في كل ما ينظم، فمن واجب الناقد أن يحلها المحل الأول حين يعرض لهذه الناحية من الكلام، فقد يعن للشاعر أن ينظم على وزن جديد، أو أن يأتي بنظام لم يسبق إليه، وهو بعد صحيح سليم تتقبله الأذن وتستطيبه النفس

فمن الحجر على الشعر والشعراء أن نقول لهم: قفوا عند حدكم، فإن الأقدمين قد وقفوا عند هذا الحد. هذا لغو وجمود لا أحب أن يبتلى به الشعراء في القرن العشرين

والمطلع على أبيات الأستاذ العقاد يجدها سليمة من ناحية الوزن قوية من ناحية الموسيقى فضلا عما بها من المعاني السامية، ولا يطالب الشاعر بأكثر من ذلك

محمد طاهر الجيلاوي