مجلة الرسالة/العدد 635/قرد وحمار

مجلة الرسالة/العدد 635/قرد وحمار

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 09 - 1945



للأستاذ محمود عزت عرفة

كنت أشهد في بعض قرى الصعيد فتى ريفيا يقتاد حمارا أسود قميئاً قد علمه بعض الأضاحيك ولقبه (ظريفا). وكان يومئ إليه فيلتبط بالأرض في سكون، ثم يبدأ يعرض عليه العروض فيقول: تتزوج من جرجا؟ تتزوج من البلينا؟ تتزوج من سوهاج؟ تتزوج من النخيلة؟ تتزوج من أبو تيج؟ تتزوج من أسيوط؟. . . كل هذا والحمار يرفض في إباء، ويؤكد رفضه بهزات من رأسه حاسمة. فإذا عرض عليه الأمنية النفيسة وقال: تتزوج من مصر؟ - وثب من رقدته مرحا خفيفا وهو يهز رأسه علواً وسفلاً علامة القبول!

كنت أعجب بحركات هذا الحمار، لكن لا أعجب بفكرته - وهو صعيدي - من إيثاره بنات مصر على بنات موطنه الصعيد. . . ثم أقول: لا جرم إنه حمار. . .

وأخيرا تحقق لديّ صدق حكمي على عقلية هذا الحمار، إذ قرأت على قرد حاذق حديثه القاضي التنوخي في كتابه (نشوار المحاضرة) رواية عن ابن عباس الذي يحكى إنه (رأى في شارع الخلد قردا معلما يجتمع الناس عليه فيقول له القراد: تشتهي أن تكون بزازاً؟ فيقول: نعم، ويومئ برأسه، فيقول: تشتهي أن تكون عطاراً؟ فيقول: نعم - برأسه - فيعدد الصنائع عليه فيومئ برأسه، فيقول له في آخرها: تشتهي أن تكون وزيراً؟ فيومئ برأسه (لا)، ويصيح ويعدو بين يدي القراد فيضحك الناس

كلا الرجلين يمزح في فعله، ويحاول أن يتفكه ويفكه معه الناس - استدرارا لعطاياهم - باتخاذ أمثال هذه الألاعيب. ولكن للفكاهة المستحبة مظهر من الجد، ومرمى غامض من العبرة والموعظة بدونهما تكون عبثا لا طائل تحته

ونظرية هذا القرد صائبة - أعني نظرية صاحبه - إذا نحن تأملنا منصب الوزير على عهدهما، وما كان يتهدد الوزراء يوم ذاك من خلع وقتل وحبس واستصفاء، فما وجه نظرية حمارنا - أو حمّارنا - في الزواج؟!

الحق أن هذا الفتى الريفي وحماره يعبثان بقدر ما كان الشاطر البغدادي وقرده يجدان؛ وفرق ما بين الأولين والأخيرين هو فرق ما بين المسلمين اليوم وأسلافهم في القرون الخوالي. . . هو فرق ما بيني أنا - عربي القرن الرابع عشر - والتنوحي ناقل القصة وعربي القرن الرابع. . هو فرق ما بين دولة نفضت يدها من المجد أو كادت، ودولة كانت تأخذ من المجد بأوثق أسبابه. فليذهب القراد والحمار جميعا إلى الجحيم، فما كان لهذه المقارنة العابرة بينهما أن ترينني في مستقبل الإسلام والعرب، ولكني مع ذلك رجل مؤمل ومشفق معا، أخاف مثلما أرجو، وأتشاءم لقاء ما أتفاءل. وأحب أن نكون - حتى في مزاحنا - جادين فلا تشغلنا القشور عن تعرف اللباب، أو يصرفنا الغلاف عن تصفح الكتاب. . .

ومن يدري بعد، فلعل قروينا معذور في فعله؟ بل لعله حكيم ثاقب الفكرة، أليس يقدم لنا مزحته الجوفاء، وما تنطوي عليه من فكرة حمقاء، على يدي حمار أسود قميء؟!