مجلة الرسالة/العدد 636/البلاغة العربية

مجلة الرسالة/العدد 636/البلاغة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 09 - 1945



للأستاذ نقولا الحداد

البلاغة في اللغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. والفصاحة هي سلامة الكلام من التنافر والتعقيد ومن الألفاظ المهجورة والوحشية. واللغة العربية لا تختص بهذا التعريف وحدها، بل هو تعريف البلاغة في كل لغة، لأن البلاغة عمل عقلي أكثر مما هي أداة كلامية. وهي منطق أكثر مما هي فن تعبير. بل هي فلسفة أكثر مما هي قاعدة بيان

إذن فأركانها صحة العقل وصفاء الفكرة وجمال الذوق واتساع المعرفة وطاعة الكلم للسان والقلم. فإذا اجتمعت هذه في القائل أو الكاتب في أية لغة كان كلامه بليغاً

أما صحة العقل فأساس المنطق لتطبيق القول على المعنى المراد بغية إقناع السامع أو القارئ بصواب القول وارتياح النفس إليه

وأما صفاء الفكرة فأساس البيان لأنه لا يمكن أن تقيم بناء بيان على فكرة مضطربة مقلقلة، ولا يمكن أن يفهم السامع أو القارئ ماذا يعني القائل بكلامه المضعضع. ولا يمكن أن يتم الاتصال بينهما على وثيقة

وجمال الذوق لابد منه لتبليغ الكلام البليغ إلى ذهن القارئ أو السامع أو إغرائه بمعناه وتغذية العقل بمعرفته. فإذا خلا البيان من الذوق الجميل كان منفراً. وإذا غنى به كان جذاباً ساحراً. وإن من البيان لسحراً

والمعرفة مادة الكلام. هي الجواهر التي يصاغ منها الكلام البليغ. فالكاتب الذي يكتب في موضوع بضاعته فيه قليلة أو ضئيلة أو سقيمة لا يصوغ إلا فقاقيع زبد لا تلبث أن تذهب أمام استكناه معناها ذهاب الرغاوة مع الريح. يجب أن يلم الكاتب إلماما كبيراً بما يكتب لكي يستطيب القارئ بلاغته وإلا مله لأول فقرة ونبذه

بقي أنه لابد للكاتب أو المتكلم أن يكون قائماً على كتب اللغة وان تكون الكلم الفصاح في متناول يده يختار منها أليقها لمكانها في الكلام وأوقعها في المسامع وأدمثها للأذهان، ويجب أن يعلم الكاتب أن لكل مقام مقالا وأن لكل قوم كلاما موموقا وأن لكل زمان ألفاظا مأنوسة. فما أقبح أن يخاطب المتكلم أو الكاتب أناساً بألفاظ غريبة عنهم أو ناشزة في مسامعهم أو بعبارات معقدة تستكد أذهانهم هذه بعض أوليات البلاغة. وقد تبسط فيها الأستاذ البليغ أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة في كتابه (دفاع عن البلاغة)، ومباحثه في هذا الكتاب طريفة؛ فهو يعطي للبلاغة صفة الفلسفة ويكتب فيها كفيلسوف مركبا في فصل آلة البلاغة، ومحللا في فصل الذوق، ومركباً ومحللا معاً في فصل الأسلوب. وهو الفصل الذي أفاض فيه بتبيان صناعة القلم من جميع وجوهها. ولا بدع أن تكون البلاغة ضرباً من الفلسفة، لأن المعنى واللفظ متلازمان ملتحمان، الثاني صورة للأول، والأول نتاج العقل، فبراعة الكاتب تظهر في استطاعته أن يلائم المادة بالعقل وأن يلبس المعنى الثوب اللفظي الأنيق اللائق على قدره لا أضيق ولا أوسع

ولأن البلاغة ضرب من الفلسفة فهي في رأي الأستاذ الزيات كسائر الفنون طبيعية موهوبة لا صناعة مكسوبة. ولعله تطرف في هذه العقيدة أو غالى في قصرها على الفن؛ لأن هناك ضرباً من الكلام مكان الفن فيه قليل أو عديم. إذا كتبنا عن سر القنبلة الذرية لا نجد موضعاً للفن إلا إذا كتبنا عن تأثيرها في الحرب أو الاجتماع. يكفي أن نحسن كشف السر وبسطه من الناحية العلمية لكي نجلوه للقارئ جيداً. فالبلاغة في هذا المجال صناعة مكسوبة أكثر مما هي فن موهوب. وفي كلتا الحالتين لا غنى عن القواعد للإيضاح والاجترار من اللبس

إن تطبيق اللفظ على المعنى هو غاية البلاغة القصوى سواء كانت فنا أو صناعة. والأستاذ الزيات قد أجاد كل الإجادة في فلسفة البلاغة وضرب بكل سهم في مذاهبها. فهو إذن نبراس الهدى لأهل البراعة.

في حين أن ظهر كتاب (دفاع عن البلاغة) ظهر كتاب (البلاغة العصرية واللغة العربية) للأستاذ سلامة موسى. وهو كتاب طريف المباحث أيضاً. لا أظن أحداً خاض فيهما قبله أو سبقه إليها. هو فلسفة الكلام أو الكلمات. أو لك أن تقول هو فلسفة تطبيق اللفظ على المعنى بمقتضى حاجة العصر. العصر يتغير والمعاني تستجد. فبالأحرى أن تتغير الألفاظ وان تستجد. وبالأحرى أن تلاحق الأقلام هذا التجدد والتجدد ضربة لازب للتطور. ولا يحدث تطور إلا إذا لم يعزل القديم إلى (الانتكخانة) المتحف ويؤتي بالجديد. فقطار العمران اليوم غير قطار البادية منذ قرون. وطائرة هذا القرن غير الأطيار التي كنا نحسدها على ملكية الجو. فلكل زمن تفكيره وتعبيره. ولا مناص من تغيير التعبير إذا تطور التفكير.

نحن اليوم في جيش لجب من الأدوات والآلات. ولا غنى لنا عن أسماء لها انظر كم أداة في الأوتومبيل وفي المطبعة ولا سيما مطبعة الروتاتيف وفي الباخرة والبارجة والقاطرة الخ. لكل هذه الأدوات أسماء وضعها لها مخترعو الأدوات. ولم يكن عند أسلافنا لا أوتوموبيل ولا مطبعة ولا بارجة ولا قاطرة. إذاً فليس في لغتنا أسماء لهذه الأدوات. فإذا بحثنا في لغتنا عن لفظة تليق للاوتوموبيل كسيارة مثلا فنكون قد غيرنا معنى السيارة القديمة كما أننا غيرنا معنى القطار القديم. فالتغيير لا بد منه للتطور ولذلك بعد الجديد عن القديم وصار لكن زمار لغته.

إذا كنا كلما استجد معنى استعرنا له لفظاً في القديم التبس جديدنا بقديمنا ولاسيما إذا كان المعنى القديم نفسه قد وضع على الرف.

اللولب في السدم اللولبية أو الحلزونية الشكل يستعمل بدل البرغي، هذا جديد وذاك قديم ولكن هذا درج على الألسن وذاك أهمل. وللبرغي حامولة. فإذا سألنا اللغوي أن يأتينا بلفظ عربي للحامولة فماذا يختار.

أجل لغتنا غنية بالكلم. غنية جداً. ولكنها كانت لغة العرب منذ عرشين أو أربعين قرناً فلم تعد تسعنا الآن. لغتنا غنية بالكلمات الصالحة للأدب والشعر ولكنها فقيرة جداً بالكلمات الصالحة للعلوم الحديثة كالكيمياء والبيولوجيا وما تفرغ منها والصالحة للفنون الآلية. فإذا أصررنا على اختيار لفظ لكل ما جد في هذه وهو لا يحصى بالألوف بل بمئات كنا نفصل أثواب المعاني القديمة القليلة ألوفا من الملابس للمعاني الجديدة. وهو مستحيل لأننا نرى حينئذ القديم والجديد كليهما عاريين.

إذاً فلابد من أن نقتبس الكلمات الأجنبية الجديدة للأشياء التي اقتبسناها. ويكفي أن نطوعها للصياغة العربية ما أمكن. فنقتبس كلمة الأسبيرين كما أخذنا الأسبيرين من الغرب. ونقبل كلمة ياقة التي درجت على ألسنتنا لأن كلمة طوق لا تقوم مقامها لأنها تلتبس بالقلادة.

أعني لابد من توسيع صدر اللغة لقبول بعض الكلمات الأجنبية التي جدت لأشياء جديدة لكي تجاري روح العصر. وإذا أخذنا البحث في لغتنا عن كل كلمة قديمة لكل معنى أو شيء جديد كنا لا نزال نلتفت إلى الوراء ونتمسك بأهداب القديم ونصر على البقاء حيث كان السلفاء. إذاً فلا نلوم الغربيين إذا استغلوا تأخرنا هذا.

هذا شيء من وحي كتاب الأستاذ سلامة موسى ولا يمكن استيفاء جميع مباحثه إلا إذا نقلنا الكتاب برمته إلى هذه العجالة فخير للقارئ الذي تطيب له هذه الأبحاث أن يطالع الكتاب نفسه

أوافق الأستاذ سلامة على مشروع تبسيط قواعد اللغة العربية لكي نقتصد بالوقت والجهد في دراستها ونأمن الخطأ في استعمالها لأنها كثيرة متشعبة ويستغرق وقتاً طويلا في حفظها. ولا يمكن أن يدرس معها الكثير من علوم العصر وفنونه. يمكن تبسيطها واختصارها جداً من غير أن يتلثم التعبير بها. وإلا نفر العدد الأكبر من طلابها منها كما هو حادث اليوم.

ولكني لا أوافق الأستاذ على تنقيح الحروف العربية ولا إبدال الحروف اللاتينية بها. فحروفنا أفضل من كل حرف أجنبي يبدل به لها. لأنها في القرون التي مرت انصقلت وصارت كأنها الخط المختزل. نعم إن لكل حرف صورتين أو ثلاثة. ولكن هذه الصور لا تجعل الحروف أزيد من 150 حرفاً. ومن يتعلم 28 حرفاً يستطيع أن يتعلم 150 كما تعلمناها وما عانينا وتعلمها الأجانب وما تذمروا.

بقيت مسألة الحركات التي يتخذها دعاة الحرف اللاتيني سبباً لا بدال الحروف. فهذه يمكن الاستغناء عنها في كثير من مواقفها. ففي الأفعال الثلاثية لا لزوم لها إلا على عين الفعل ماضياً ومضارعاً. ويستغني عنها في جميع مشتقات الأفعال الرباعية والخماسية والسداسية ومصادرها، ولا حاجة لها إلا في اسم المفعول منها لأنها كلها معلومة النطق عند من تعلمها. وهناك كثير من الصيغ القياسية يستغني فيها عن الحركات.

وأما أن نستعمل الأحرف الصوتية اللاتينية بدلها في استعمال الحرف اللاتيني فنزيد الكتابة تطويلا وتعقيداً لأننا نحتاج إلى ثلاثة أحرف صوتية بدل الحركات علاوة على أحرفها. فلأجل فعل ضرب نضطر أن نستعمل ستة أحرف. ولا محل هنا للتوسع في هذا الموضوع وإنما لدى البحث الدقيق نجد أن استعمال الحرف اللاتيني لا يحل لنا مشكلة بل يزيد المشكلة تعقيداً.

نقولا الحداد