مجلة الرسالة/العدد 636/الحياة الأدبية في الحجاز
مجلة الرسالة/العدد 636/الحياة الأدبية في الحجاز
نهضة الشعر
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
سمع هؤلاء الشعراء هذه الصيحة التي صاح بها أدباء المهجر في وجه التقليد فاستجابوا لها لأنهم وجدوا دعوة إلى الصراحة والتعبير عن النفس في وضوح وجلاء؛ والعربي أقرب الناس إلى هذه الصراحة، كما وجدوا فيها خروجاً على التقليد الذي قعد بهم عن الرقي الزمن الطويل، ولهذا صاح كثير منهم في الحجاز في وجه التقليد ودعوا إلى مثل هذه الدعوة التي دعا إليها جبران فقال أحدهم: (بعض من شبابنا الأدباء وبعض من قراء (الكتب القديمة الجامدة) يقرض القطع الشعرية البديعة الناصعة، ناصعة والحق يقال. ولكن ماذا يضمنها من الأفكار؟
ينظمها في الخمريات وفي الغزل وفي المديح وفي الحماسة وفي الحكمة، وكل هذه من الأفكار الميتة التي دفنت مع عصور. . . فلا تصلح لنا. . .
وقال: (أمامنا الوطن، أمامنا العادات والأخلاق، أمامنا الحرية بأنواعها، أمامنا الشرق الكسول، أمامنا التغني بأمجاد الشرق، أمامنا العرب بحالتهم السياسية، أمامنا الغرب باختراعاته)
هذا هو الروح الجديد المتوثب الذي سرى في شباب المدرسة الحديثة في الحجاز، ولعل القارئ يدرك التشابه بين هذا الروح واتجاه أوباء المهجر، بل لعله مدرك التشابه في الأسلوبين وطريقتهما.
ولما كان أدباء المهجر أحراراً في كل شيء، متمردين على القيود القديمة والأغلال المتوارثة، فقد بدأ هذا التحرر في القافية وطريقة الوزن الشعري والموضوعات والمعاني والأخيلة، ومن ثم تابعهم شعراء الحجاز المجددون في كل هذا: فالكثرة الغامرة من قصائدهم لا تتبع قافية واحدة، والمربعات والمخمسات والدويبت والموشحات تفوق عندهم القصائد وتربى عليها. ونحن نسوق هنا مثلا من الطرق التي يتبعونها في قافيتهم. فمما جاء من ذلك مناجاة (لحسن فقي) يناجي فيها القمر ومنها:
حسبي من الدنيا الحقيرة أن أراك لدى المساء
تلقى بنورك في القلوب كبلسم يزجي الشفاء
فأعود بالذكرى إلى عهد اللذاذة والهناء
وأبث ما يجد الجنان
حسبي من الدنيا بقاؤك ساطعاً فوق الهضاب
مترنحاً من نشوة الحسن المسيطر والشهاب
متطلعاً من عرشك العالي إلى أسرى العذاب
ترنو إليهم في حنان
بل إن الشاعر هنا لا يريد أن يعترف بشطري البيت فساقه جملة كما يفعل شعراء المهجر أيضاً.
ومن الطرائق التي يتبعونها في القافية أن يغير الشاعر القافية في كل بيت، ولكنه يذيله بكلمة متحدة القافية مع الكلمات الأخرى وفي هذا النوع يقول الشاعر (عمر عرب) في قطعة عنوانها (عصر الشباب).
حدثيني عن الصبا والشباب ... عن زمان الهناء بين الصحاب
حدثيني
حدثيني عن الهوى يا مهاتي ... إن هذا الحديث يحيي رفاتي
حدثيني
ويقول:
لست أسلو هواك يا هند يوما ... لا ولم أخش في عذابك لوما
صدقيني
ذكريني بذلك العهد هند ... كيف نلنا الآمال والعيش رغد
ذكريني
وهكذا يحاول شعراء المدرسة الحديثة أن يتخلصوا من قيود القافية؛ حتى ليسوق إليك بعضهم كلاما يخيل إليك بادئ الأمر أنه نثر، فإذا أطلت النظر فيه وجدته شعرا ونثرا؛ وقد التزم في بعضه الوزن وأطلق الآخر حراً دون قيد، ومن ذلك كلمة للأديب (عزيز ضياء) عنوانها (عيد) يقول فيها بعد كلام طويل وصف فيه مغيب الشمس قبلة ليلة العيد. . .
ثم لما ابتلعها لحدها وغيبها دهرها
صاح في الروض طير
لقد ماتت ذكاء
فكان يوم قديم قد مر وكان شهر قديم قد انقضى
وجن جنون السحاب الحزين
فناح نواحا يثير الحنين
وراح يناجي الربى والحزون
يمزق فوق الربى وجهه
ويهرق فوق الثرى دمعه
ولم يرث قلب لتلك الدموع
ففاض المحب بأنفاسه
وراء الجبال وراء الحبيب. . . الخ
فلعلك مدرك بعد هذا أن الأديب هنا قد جمع بين الشعر المنظوم والشعر المنثور وأن الفقرة التي أولها (وجن جنون السحاب الحزين) شعر موزون من بحر المتقارب ولكن الأديب لم يلتزم فيه قافية متكررة. على أنك واجد في بقية القطعة تحرراً من الوزن والقافية معاً.
ويجب أن يستقر في أذهاننا أن تقليد الحجازيين المتئدين منهم والمتوثبين تقليد قوي لا تغني فيه شخصياتهم وإنما يقلدون غيرهم في الطرائق والمناهج ويصورون بعد ذلك عواطفهم وبيئتهم، فهم متأثرون بهذه البيئة أشد التأثر: متأثرون بطبيعة أرضها وعادات أهلها وآمالها وعقائدها.
والشاعر إذا شعر تجد في ثنايا شعره كل هذه الاتجاهات واضحة جلية:
يقول معالي الدكتور هيكل باشا: (ثم إن الأديب يتأثر دائما بالبيئة التي تحيط به كما يتأثر بأحداث الزمان، وإذا كانت هذه الأحداث قد بعثته في الحجاز، حتى جعلت أهله يتطلعون إلى غيرهم من الأمم المجاورة لهم، فإن البيئة العربية الصحيحة التي لم تتغير، قد بقي لها أثرها في هذا الأدب، شأن كل بيئة في أية أمة من الأمم، ولعل أثر البيئة الطبيعية أكثر وضوحا في شعر أدباء الحجاز منه في نثرهم. .)
ونحن إذا أردنا أن نلتمس الدليل على ذلك وجدناه واضحاً جلياً، فهم مع اطلاعهم على الآداب الأخرى لم ينسوا أن يصفوا جبالهم وهضابهم وما ينبت في أرضهم من أثل وأراك، فعبد الوهاب آشي يقول:
بلاد حبتها الطبيعة ما ... يحبب للقلب أدوارها
جبال تناطح جون السحاب ... وتوحي إلى النفس أفكارها
تنائف تمرح فيها الوحوش ... تساجل في الدوح أطيارها
ومشتبك الأثل في غابها ... كما جارة عانقت جارها
إذا الليل أرخى ستائره ... أرتك الكواكب أنوارها
وفي الأبيات الآتية ما يصور للقارئ ناحية من نواحي الحياة بالجزيرة حيث يقدم استعراض عام للجيوش، فتبدو الخيل صاهلة والإبل ترغو والأعلام خافقة، وقد قيلت في الاستعراض الذي أقيم احتفالا بنجاة جلالة الملك ابن السعود من حادث المطاف 1353 هجرية:
في موكب (العرضة الكبرى) وقد لعبت ... فيها الرماح وقامت ترقص القضب
والخيل تصهل والأعلام خافقة ... والأسد تزأر والآفاق تصطخب
والإبل ترغى وأصوات البنادق ... كالرعد المدمدم تروي رجعها السحب
ولما كان اتصالهم بالثقافة الحديثة اتصال الدائب المجد، اتصال الذي لا يترك كتابا ظهر في عالم التأليف حتى يأتي عليه، لما كان هذا فقد رأيناهم يعالجون الموضوعات النفسية ويأتون ببعض من المعاني الفلسفية التي تتصل بالروح والحياة والغرائز البشرية، فأحمد قنديل يناجي الحياة في قصيدة طويلة جاء فيها:
أنا بين ماضي المنير وحاضري الد ... اجي وتحت غمامة المستقبل
متفائل متشائم في فكري الد ... امي عراك هائل لا ينجلي
أبداً أظل برحلتي كالهائم الد ... اعي إليك بحيرة وتأمل
لا تصطفين سوى محب حام حو ... لك هائم متعزز لا يستكين ولثمت فاك فكان خمري اللمى حلو الرحيق
لكن نشدت الطهر فيك فما وجدت له عبوق
إلى أن يقول:
من أنت؟ بل قولي بحقك: من أنا؟ فأنا الصديق
المكره الصادي الفؤاد، أنا الأسير أو الرفيق
أنا من ولدت مزوداً بهواك يجري في العروق
سأظل حولك ساخراً دهشا بذياك البريق
متصابياً أسقي الرضا حيناً وأشوي بالحريق
حتى إذا انكشفت ستارتك الصفيقة في الضيق
سأكون ويلك مع ضحاياك الرقود بذي الشقوق
وأعود في كنف الخلود أو السما روحا طليق
وقد اتفقت كلمة شعراء الحجاز من المدرستين على أن يطرقوا من موضوعات الشعر ما يلامس الحياة الواقعة، ويتصل بآمالهم ومآربهم، فهم يتناولون الموضوعات القومية والاجتماعية التي يحتاجون إليها في مجتمعهم؛ فالشيخ محمد سرور الصبان يقول في الوطن:
أنا لا أزال شقي حب ... ك هائماً في كل واد
زعم العواذل أنني ... أسلو واجنح للرقاد
كذبوا وحقك لست أ ... قدر أن أعيش بلا فؤاد
ولسوف أصبر للمصا ... ئب والكوارث والبعاد
حتى أراك ممتعاً ... بالعز ما بين البلاد
ويقول الأستاذ أحمد العربي في قصيدة له عنوانها (أيها العيد)
أيها الموسرون رفقا وعطفاً ... وحناناً بالبائس المحزون
ربما بات جاركم طاويا جو ... عا بتم تشكون بشم البطون
ربما ظل طيلة العيد يستخفي - من الصحب قابعاً كالسجين
يتوارى من سوء منظره الم ... زري ومن حاله الكريه المهين أي فضل للعيد يستأثر الم ... ثرون فيه بالطالع الميمون؟!
والفقير الكئيب يرجع منه ... بنصيب المرزأ المغبون؟!
وشعراء الحجاز منذ أن تفتحت أمامهم نواحي النهضة الحديثة يعالجون بشعرهم الموضوعات السياسية ويرون أن النهضة لن تكون إلا إذا تعاون العرب جميعاً في أقطار الأرض. وفيما يلي أبيات للأستاذ الغزاوي يخاطب فيها مصر:
يا مصر أنت وقد دأبت منارة ... للمهتدين وسعيك المترسم
يا مصر ما أولى بنيك بقومهم ... فعلام يوغرك الخلاف المبهم
يا مصر قد أغضبت عمن ليلهم ... فيك السهاد وفي جمالك تيموا
يا مصر يا أم الحضارة والنهى ... مهلا فحبك في الجوانح مدعم
يا مطمح الأمل العتيد وعزة الماضي ... ضنى المجيد وما أظل ويقدم
يا ربة الأهرام والمجد الذي ... ما زال في أمم البسيطة يكرم
إلى أن يقول:
ردي على تحيتي فلا متى ... قلب عليك مع العتاب مقسم
ويقول الأستاذ عواد من قصيدة يصف فيها جندي الديمقراطية في ميادين القتال:
يستشير المجد في عمل ... هائل المغزى يعظمه
حيث موسيقا الخلود إذا ... طوحت بالجبن تحطمه
والصدى كالصوت صاعقة ... والصفوف السود تزحمه
يسأل الأقدار هل يده ... تغسل العدوان أو دمه؟
فإذا بالكون ليل أسى ... تتهاوى فيه أنجمه
وإذ الأصداء قائلة: ... قول صدق لا تجمجمه
أيها التاريخ ذا بطل ... فعله للخلد مسلمه
ومن الأغراض التي نالت حظا من الرقي (الغزل) فقد اتجه الشعراء فيه إلى ذكر الهوى والشوق وتوجع الصبابة وفي الأبيات الآتية وهي (لمحمد حسن فقي) ما يدل على صدق العاطفة وتدفق الشعور:
لا أنت يا قلب بالسالي فتهجره ... ولا الوصال بميسور ولا داني عش هكذا خافقا يا قلب مكتئبا ... فليس حزنك بعد اليوم بالفاني
أواه! إن جحيم الحب يصهرني ... فما الذي بجحيم الحب أصلاني؟!
لا آخذ الله من أصمي بمقلته ... قلبي وغادرني نهبا لأشجاني
إليه ابعث أتاني مؤججة ... ومنه أقبس أشعاري وألحاني
وفيه ألتذ بالبلوى وأحمدها ... إن كان يرضيه تعذبني وهجراني
وليس عجيبا أن يجيد العربي ذكر الهوى والغرام؛ فهو عفيف لم تلوثه المدنية بآثامها، ولم يسلس قياد المرأة له حتى تنطفئ جذوة غرامة وتحبو حدة حبه. فلا تكاد فتاة المدن في الحجاز تتجاوز عهد الطفولة حتى تحتجب عن الأنظار ويضرب الحجاب بينها وبين الشمال، ويصبح من المحال أن يلتقي شاب بفتاة أو أن يختلس منها نظرة عابرة.
وفي الشباب الحجازي عاطفة متقدة، أملتها عليه طبيعة هذه البلاد المتقشفة. فهو إذا تحدث عن الهوى كان حديثه حديث من حدث شهواته، فخرجت أبياته زفرات وآهات ملتهبة. قال الأستاذ حمزة شحاته:
بعد صفو الهوى وطيب الوفاق ... عز حتى السلام عند التلاقي
يا معافى من داء قلبي وحزني ... وسليما من حرقتي واشتياقي
هل تمثلت ثورة اليأس في وجهي ... وهول الشقاء في إطراقي
أي سهم به اخترقت فؤادي ... حين سددتها إلى أعماقي
إذ تهاديت مبدلا نظرة العطف ... بأخرى قليلة الإشراق
مسرعا في المسير تنتهب الخطو ... فهل كنت مشفقا من لحاقي
وتهيأت للسلام ولم تفع ... ل فأغريت بي فضول الرفاق الخ
أما سوق المدح في الشعر الحجازي فهي نافقة رائجة، ولهذا الغرض شعراء من المدرسة المتئدة قد أجادوا فيه وأكثروا، ولعل الذي جعلهم يجيدون ويطيلون ما وجدوه في جلالة ابن السعود من معان تستأهل المدح وتستحق الإطراء والثناء؛ فهو الذي أمن البلاد بعد خوفها، وهو الذي بعث الحياة في نواحيها فشاد دور العلم واستحث الهمم للنهوض، وهو الكريم الذي يولي الهبات وهو الشجاع الذي أسس الملك على أساس من القوة.
ولا يقتصر المادحون على مدح الملك وإنما يمدحون أبناءه الأمجاد فيجدون عندهم من الحفاوة والتكريم ما يرضي نفوسهم ويحملهم على المزيد. قال الغزاوي يمدح جلالة الملك بعد الحلف الذي أبرم بين الحجاز واليمن:
وأنت الذي أعلى بك الله صرحها ... وأرشدها للعرف بعد التناكر
فأما بنوك الصيد فالدهر شاهدي ... لديك بما قد قلدوا من مفاخر
أصاب ولي العهد أبعد غاية ... تسامت فأعيت بالثناكل شاكر
وقال أيضاً في قصيدة طويلة يهنئ بها سمو الأمير فيصل بعودته من رحلة له في أوربة سنة 1351 هجرية:
بدر تم يتجلى أم فلق ... أم شعور فاض فاستهوى الحدق
أم هو الفيصل ألقى ضوءه ... يغمر الشعب ويستبقي الرمق
أيها القادم من أقصى الورى ... قد ملأت اليوم بالبشر الفلق
قد شهدت الشيخ في حبوته ... والفتى الناشئ بالحب فهق
إلى أن يقول:
فإذا ما قلت شعبي مخلص ... لمليكي قالت الدنيا صدق
أي أمن نرتجيه ومنى ... ونعيم فوق ما فينا بسق
ولا ضير علينا بعد الذي فصلناه في باب الشعر أن نقرر أن الشعر الحجازي قد تقدم في هذه الفترة القصيرة: في أغراضه ومعانيه واستطاع أن ينأى عن التلاعب بالألفاظ وألوان الزينة. ولكن ذلك لا يمنعنا أن نقول، إن الحجاز مهد الأدب شعره ونثره لا زال يتطلب من شعرائه المزيد وبخاصة فيما يتصل بقوة الأساليب ورصانتها؛ فإن الكثير منهم مع إجادته لا يهتم أحيانا بجزالة الأسلوب ورصفه شأنه في ذلك شأن شعراء المهجر أولئك الذين يقول في أدبهم الأستاذ العقاد: (وبين محتويات هذه المجموعة (مجموعة من أدبهم) ما يسمو معناه إلى درجة رفيعة في البلاغة والذكاء وفيها من الابتداع ما يقل مثله بين آيات أدباء الغرب العصريين ولا يؤخذ عليها إلا ما يؤخذ عادة على كتاب العربية في أمريكا: تساهل في قواعد اللغة، وضعف في أساليب التعبير بها، وما عدا ذلك فطرفة تستحق الثناء)
أحمد أبو بكر إبراهيم