مجلة الرسالة/العدد 637/القبطان الأرضيان والإسكيمو
مجلة الرسالة/العدد 637/القبطان الأرضيان والإسكيمو
للأديب محمد وحيد الدين المعري
الإنسان وفطرة الاكتشاف
خلق الإنسان بفطرته وغريزته محباً للاطلاع والتنقيب، وهذه الفطرة والغريزة تنشآن لديه منذ ولادته، فإذا رأى الطفل شيئاً نراه يسعى لمعرفة كنهه ومحتوياته؛ فإن كان مثلا ألعوبة آلية يسعى ليطلع على أسرارها، وكثيراً ما يكسرها ليرى السبب الذي جعلها تقوم ببعض الحركات أو تحدث بعض الأصوات. . . وهذه الغريزة ضرورية للإنسان إذ لولاها لعاش عمره ينظر إلى الطبيعة نظرة في الحيوانات لا يفكر في أمرها بل ولا فيما يختص بذاته، ولو بقي على هذا الوضع لعاش حياته عيشة بهيمية يندفع للقيام ببعض الحركات أو الأعمال الضرورية كالطعام والشراب والنوم والخوف والدفاع عن النفس وغير ذلك بدافع خارجي لا علاقة لتفكيره فيه كالجوع والعطش والنعاس والألم وغيره، إذاً فالإنسان عاقل، وعقله دفعه للتفكير، وتفكيره دعاه للاطلاع والتنقيب والاكتشاف والاختراع، لذلك فكر بادئ ذي بدء في نفسه ثم فيما جاوره من الأشياء وفيما رآه قريبا منه وكذلك فقد تأمل في هذه الأرض التي يعيش عليها وباقي المخلوقات كالكواكب والنجوم وغيرها.
العرب وكروية الأرض:
فكر الإنسان في هذه الأرض التي يعيش عليها وينتقل فيها ثم طاف بها إلى مسافات بعيدة عله يصل إلى آخرها ولكن عبثاً ما حاول، فأينما سار وجد الطريق أمامه مفتوحة إن كان براً أو كان بحراً فاعتقد بلا نهائيتها وبأنها مسطحة لا أول لها ولا آخر، وبقيت أمامه هذه العقبة الكأداء زمناً طويلا طلسما مجهولاً ولغزاً صعباً لا يستطيع حلهما. وجاء الإسلام بكتابه المجيد فنقض كثيراً من النظريات البالية التي استصعب حلها زمناً طويلا فقال: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب). ثم ازدهر مجد العرب وأسسوا مدينتهم الزاهرة وقام فيهم العلماء المتعددون، ودرسوا ما وضع السالفون من النظريات الفلسفية ووافقوا على ما ساير العقل ونقضوا كثيراً من النظريات الأخرى التي تخالفه، وساير دينهم العلم والعقل جنباً إلى جنب، فأسسوا مدينة خاصة بهم تختلف ع المدنيات وطبعوها بطابعهم الخاص واستطاعوا أن يثبتوا في العصر العباسي فساد الكثير من النظريات كنظرية انبساط الأرض ولا نهائيتها، وقالوا إن الأرض كرة مستديرة تسبح في الهواء شان باقي الكواكب والنجوم المنثورة في الفضاء. وأمر الخليفة المأمون ببناء مرصد فلكي فوق جبل قاسيون في دمشق، وبقيت آثاره حتى دخول الخلفاء إلى سوريا عام 1941، إذ خربته القنابل أثناء ضرب المراكز العسكرية فوق هذا الجبل، كما أمر بعض الرياضيين بحساب طول محيط الأرض، وقاس هذا المسافة الواقعة بين عاصمة الملك ببغداد ومصيف الخلفاء - الرقة - واستنتج منها طول المحيط. وأنكر أقوام وعلماء آخرون صحة هذه النظرية، فقال بعضهم ببطلانها وانبساط الأرض التي تنتهي شمالا بجبال (قاف)، تلكم الجبال التي كثر حديثهم عنها، ولعلهم يقصدون بها جبال (قاقفاسيا)، لأنها وقفت أمامهم كالحصن المنيع تحول دون أطماعهم في الفتوحات الشمالية لارتفاعها أو لكثرة الهوام والحيوانات المتوحشة فيها
وفتح العرب الأندلس وأسسوا فيها مدينتهم الزاهرة التي ضاهت مدينتهم في الشرق، وأخذ عنهم الغرب العلوم والفنون، فاستنارت أفكارهم بعدما كانت في ظلمة دامسة، وقام منهم الفلاسفة الكثيرون بعضهم يدعي كرويتها والآخر ينكره، وقاسوا في سبيل ذلك مر العذاب، لأن ذلك كان ينافي التعاليم الكنسية التي تؤمن ببسطها، وحبطت الفكرة زمناً طويلا، وحكم على الكثيرين بالموت جزاء لمروقهم من الدين، ولكن بعض الشباب آمنوا بما آمن به أساتذتهم العرب بكرويتها وقاموا بالدعاية الواسعة لها، وكان على رأسهم كريستوف كولومبس الذي استطاع أن يقنع الملك فرديناند وزوجته الملكة إيزابيلا بما مناهما من الفتوحات العظيمة التي ترفع شان مملكتهما الفتية وبالسيطرة على طريق الهند التي يسيطر عليها أعداؤهما المسلمون فيما إذا لاقى مشروعه النجاح. فأقدم هذان الملكان على تجهيزه بما يلزمه من السفن وتزويده بالمؤن والرجال من المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد طمعاً في إعلاء اسمها في الوقت الذي كان فيه الاعتقاد السائد بأن هذه الطريق البحرية الذاهبة إلى الغرب ستؤدي حتما إلى جهنم حيث تنام الشمس في مهدها. وبعد جهد وعناء وصل كريستوف الهند المزعومة وسماها (جزائر الهند الشرقية)، وعاد منها موقراً بالهدايا الغريبة والنفائس النادرة من حلي وذهب وديكه هندية وإنسان أحمر وغيرها مما لاشى العقائد الفاسدة البالية، ثم وشى الوشاة عند الملكين بكريسوتف، فزج في السجن حيث قضى نحبه. وذهب رحالة إلى هذه الهند يدعى أمريكو حيث قام بالتجول في ربوعها وأثبت أن هذه البلاد ليست سوى عالم جديد لم يكن معروفاً من قبل فسميت بأسمه أمريكا، وقام ماجلان برحلته الاستكشافية الشهيرة فطاف حول العالم ذاهباً من الغرب آيباً من الشرق، عندها تلاشت نظرية انبساط الأرض وذهبت إلى الأبد
قامت الدول تتسابق في الاكتشاف والاستيلاء على البلاد والجزر المجهولة، حتى كادوا يأتون عليها كلها، فعمدوا إلى اكتشاف القطبين الأرضيين الشمالي والجنوبي، ولاقوا في سبيلهما الأهوال لشدة الصقيع وهبوط درجة الحرارة إلى ما لا يحتمله الجسم البشري حتى وفقوا إلى ذلك في أواخر العصر المنصرم.
اكتشاف القطبين الشمالي والجنوبي
لما كان القطب الشمالي قريباً من البلاد المتمدنة كان غاية المستكشفين وهدف الدول الكبرى التي أحبت أن تستأثر بالفخر دون غيرها، فهبت تتسابق إليه ولاقت في سبيله من المشاق والمتاعب ما لا يوصف. ابتدأت الرحلات منذ نهاية القرن السادس عشر، وبعد جهد وعناء كبيرين وعلى يد الأميرال الإنكليزي (روبرجان له ميزوريه (المعروف بـ - ماك - المولود سنة 1007 - 1873) تم اكتشاف الطريق الأول الشمالي الغربي (بين خليج هدسن , ومضيق بيرنغ بين سنة 1850 و 1854م. وعلى يد الرائد الرحالة الطبيعي السويدي نلس آدولف إريك (المعروف بـ - نورد انشولد ? المولود في هيلسينغفورس 1832 - 1901) تم اكتشاف الطريق الثاني الشمالي الشرقي بين سنة 1878 و 1879م. وفي هذا القرن بدأ العلماء بتشكيل بعثات علمية غايتها اكتشاف القطبين توسيعاً لعلم تقويم البلدان (الجغرافيا) فأرسلت إنكلترا بعثات اكتشفت بعض الجزر القطبية شمال كندا، ثم كثرت الهيئات التي تقصد القطبين إلى أن خرج الدكتور (فريد جوف نانسن الرحالة الطبيعي (المولود في ستورفرون - 1861 - 1930) مع اثني عشر رجلا في سفينة سماها (فرام صنعت خصيصاً لهذه الغاية، فسار أولاً في الطريق الشمالي الشرقي واشترى من سواحل سيبيريا عدداً من كلاب الجليد وسار نحو الشمالي حتى بلغ 84 , 4ْ حيث اضطر إلى قضاء فصل الشتاء؛ ثم ترك سفينته وواصل السير مع أحد رفاقه مشياً على الأقدام تصحبها الزحافات والكلاب وبعض الآلات الفنية حتى بلغا عرض 86 , 13ْ ثم رجعا حتى وصلا أرض (فرانسوا جوزيف) حيث قضيا فصل الشتاء؛ وهناك التقيا بسائح إنكليزي اسمه (جاكسون) فتعرفا إليه وركبا معه في سفينته حتى وصلا بلاد النرويج، أما سفينة فرام فقد عادت بعد أن تخلصت من الجليد الذي كان محيطاً بها. وفي سنة 1899 سافر الدوق (ده زابرزو الإيطالي فدخل أرض فرنسوا جوزيف وسار فيها بالزحافات حتى وصل عرض 86. 33ْ متقدما نانسي بعشرين دقيقة أي ما يعادل 37. 037 كيلو مترا. وفي سنة 1905 سافر الضابط الأمريكي (بياري (المولود في كريسون سبرينغ سنة 1856 - 1920) نحو القطب مارا ببحر بافن إلى أن وصل إلى شمالي غروتلنده فنظم هناك بعثة مؤلفة من أمريكيين وأقزام سار بهم ومعهم الكلاب والزحافات مدة شهر كامل، ثم تقدمهم بخمسة من أشجع رجاله حتى وصل القطب في مايو 1909 ورفع العلم الأمريكي. وفحص تلك الجهات فوجدها بحراً تكسوه الثلوج عمقه 3000 متر. وأهم الأراضي التي اكتشفت في هذا القطب هي جزر فرنسيوا جوزيف، وزامبل الجديدة، وسيبتزيوغ في شمالي أوربا، وجزر سيبريا الجديدة ورانحل في شمالي آسيا، وأراضي غروئنلنده وبافن غرانت والبرنس دوكال والملك غليوم وفيكتوريا وآلبيروبانكس وملفيل وباري في شمال أمريكا.
أما القطب الجنوبي فكان الكابتن (كوك الإنكليزي أول من اجتاز مدار القطب الجنوبي أثناء بحثه عن قارة جنوبية فوصل سنة 1774 إلى عرض 71. 10ْ حيث منعه الجليد عن التقدم. ثم أرسلت روسيا بعثة برئاسة (بلنغهاوزن في أوائل القرن التاسع عشر فاجتازت مدار القطب الجنوبي واكتشفت أرض الاسكندر الأول (باسم القيصر) وفي سنة 1838 اكتشف (دومون دروفيل ' الفرنسي أرض لويس فيليب (باسم ملك فرنسا) وبعد سنتين اكتشف أرض آدي وفي سنة 1840 اكتشف (جمس روس الإنكليزي أرض فيكتوريا ذات البراكين المتعددة ووصل بعد سنتين إلى عرض 78. 10ْ. وفي سنة 1910 سافر من إنكلترا (سكوت وشاكلتون واكتشفا أرض إدوار السنابع وواصلا السير بالزحافات إلى عرض 82. 17ْ حيث مكثا يستكشفان ثلاث سنوات. وفي سنة 1910 سافر (آمولدسن (المولود في بورج - في النرويج سنة 1872 - 1928) في سفينة اسمها (نانسن) نحو الجنوب مخترقاً بحر روس؛ وقد اضطر إلى أن يقيم في كوخ خشبي فوق أرض جليدية مدة الشتاء؛ ثم أخذ أربع زحافات وكلابا ومؤنا تكفيه أربعة أشهر واتجه نحو القطب إلى أن وصله في ديسمبر سنة 1911. وفحص تلك الجهات فوجدها أراضي جبلية بركانية ارتفاعها 3000 متر وهي اشد برد من المنطقة الشمالية تهب عليها الرياح الغربية القارصة وينزل فيها الثلج أكثر أيام السنة حتى لوحظ أنه نزل فيها أكثر من 200 يوماً في السنة. وأهم الأراضي التي اكتشفت في هذا القطب هي أراضي الاسكندر الأول وغراهام ولويس فيليب وجزر جوانفيل وآنفرس وشتلاند الجنوبية وأوركارد الجنوبية - جنوب أمريكا، وأراضي آندربي جنوب أفريقيا، وأراضي آديلي وفيكتوريا وإدوار السابع جنوب أستراليا
الأقزام الإسكيمو يطلق هذا الاسم على الأقوام التي تقطن منطقتي القطبين الشمالي والجنوبي. ومعنى كلمة (اسكيمو) في اللغات الغربية (آكل اللحم النيء) ويسمون أنفسهم بالرجال وتسميهم بالأقزام لقصر أجسامهم التي لا تتجاوز الستين سنتيمترا، وهم ابدن ذوو عضلات قوية وسواعد مفتولة وأرجل غليظة معوجة، لونهم أسمر ورؤوسهم كبيرة مستديرة مغطاة بشعر أسود غليظ وأنوفهم عريضة وعيونهم سوداء صغيرة وأفواههم واسعة وشفاههم غليظة في داخلها أسنان بيضاء لامعة وجلودهم ناعمة الملمس، ولباس الرجل شبيه بلباس المرأة؛ لذا كان التمييز بينهما صعباً. والفرق بينهما أن النساء يمشطن شعورهن. ثم يعقدهن تيجانا والرجال يدعونها على طبيعتها ولكنهم يقصون الغرة كي لا تحجب العيون.
بيوت الإسكيمو: في بعض البلاد مثل شمالي سيبيريا وجنوب غربي غروئنلدنه تبني قبائل الإسكيمو بيوتا من الحجر والطين، أما في الأصقاع القطبية فلتعذر وجود هاتين المادتين فانهم يسكنون بيوتا من الثلج تتسع لثلاثة أو أربعة أشخاص تقام جدرانها على جانب حفرة من الأرض ذات باب صغير يضطر الداخل إليها أن يحبو على أربعة، وهي معتمة تتصبب بللا من حرارة ذبالات المصابيح التي يشع منها قبس ضئيل من النور توقد بزيت الحيتان وشحوم الدببة، ولذا كانت كريهة الرائحة لا يستطيع الإنسان البقاء فيها لقذارتها ولكثرة الأكوام اللحمية المتجمدة المكدسة فيها، ولكونهم يبولون فيها ويضعون الجلود وما يصطادونه بها. وبفضل التضافر والتعاون بين عائلات هؤلاء الأقوام فإن أكبر قصر يمكن أن يشاد بسويعات قليلة، فترى قوما ينشرون الجليد وآخرون يجمعون شتات النشارة وقطع الثلوج الصغيرة، والبناء يتناول الحجارة ويضعها في المكان المخصص لها ويثبتها بهذه النشارة بدلا من الطين ولا تلبث بعد أن تتعرض للصقيع قليلا أن تصبح قطعة واحدة. وهذه البيوت عندما تكون جديدة تبقى جميلة ومغرية بلونها الرخامي الفاخر ثم لا تلبث بعد قليل من سكناها حتى تصبح أنتن من أختها.
والأقزام لا يعرفون الزراعة ولا الصناعة اللهم إلا فيما ينحصر فيما يصطادونه من الحيوانات البرية والبحرية، يأكلون لحما طريا من الحيتان المتنوعة وعجول البحر والفوك والمورس وأنواع مختلفة من الأسماك، فتراهم جثاة على ركبهم وجذوعهم مائلة إلى الأمام لا يبدون حراكا إلا من أيديهم النهمة وأمامهم طست هائل ملؤه قطع كبيرة من اللحم يقبض كل منهم بيديه وأسنانه القاطعة قطعاً كبيرة من اللحم يعالجها حتى يقطعها ولا يكاد يلتهمها حتى تسرع يداه إلى قطعة غيرها. ومما يؤثر عن طعامهم هذا أنه لا يعتبر صالحا للأكل إلا بعد أن يكدس بعضه على بعض مدة طويلة من الزمن ريثما يتفسخ وتظهر رائحته المنتنة الشهية وفي هذه الحال ينشر الحرارة الكافية في الجسم أكثر مما لو كان طريا.
والصيد هو عملهم الأول الذي يتوقف عليه مدار معيشتهم واكتساؤهم بالألبسة الفرائية المتنوعة؛ ولهم فيه فنون وحيل لا يضارعهم فيها إنسان آخر. وكيفيته أن يأتي الصياد (وكثيراً ما يكون طفلا صغيراً لم يتجاوز الخامسة أو السادسة من العمر) ويحفر بحريته الطويلة المسنبة المربوطة من أسفلها بحبل طويل الجليد الساتر تحت سطح البحر ولا يجهد نفسه كثيراً حتى يبلغ الماء فيبدأ بتوسيع الحفرة ويقف بجانبها وقفة الهر على أبواب حجر الفأر حتى إذا ما سمع صوت سباحة الطريدة انتصب قائما ورفع بيده إلى الأعلى وسدد السهم نحوها حتى إذا ما مرت قذفها قذفة قوية تخترق أضلاعها، وهناك تقع الواقعة الكبرى فالحيوان يجذب الصياد تارة والصياد يجذبه أخرى، وكثيراً ما يتغلب الحيوان عليه فيجذبه نحو الحفرة، وعندها يأخذ في الصياح الذي يدوي في الآفاق فيتراكض القوم رجالا ونساء لنجدته، ولا يكادون يخرجون الفريسة خارج الحفرة حتى يستل كل منهم مديته ويغرسها في جلد الفريسة وهي حية دلالة على مشاركته إياهم في صيدها. وهذه العملية تخوله حق المشاركة في لحمها فيقطع قطعة كبيرة منها ويقذفها في فيه وبعد مضغ طويل يبتلعها ثم يربطونها بحبالهم ويسحبونها حتى يصلوا إلى بيوتهم فيقتسموها. وإذا جاء الشتاء وجمد الماء صادفوا عجول البحر وقد أحدثت في الجليد ثغراً وطلعت تستنشق الهواء فيصوبون إليها حرابهم ويرمونها وقد يترقبون ظهورها من هذه الثغرات حتى إذا ما خرجت اقتنصوها. وكذلك يصطادون الطيور المائية المختلفة ويقتلون ذوات الفراء من الثعالب والدببة القطبية البيضاء إلا أن هذه تقطع قلوبهم من الرعب لشراستها.
التجارة عند الأقزام محدودة تقتصر على بيع جلود الحيوانات والفراء والعظام وعاج المورس؛ ويبيعون هذه المحاصيل إلى البلاد المجاورة كسواحل أمريكا الشمالية وروسيا وسيبيريا وهي تدر عليهم أرباحا طائلة يشترون بها ما يلزمهم من المواد الأولية كالحبوب والمقددات والسكر والشاي والقهوة والكاكاو وغير ذلك من المواد التي لا تتأثر بطول العهد، والألبسة الصوفية والقطنية الجاهزة وبعض الآلات الحديثة كالحاكي والألاعيب الصبيانية وغيرها. ويندر تعاطيهم التجارة فيما بينهم لعدم وجود ضرورة للمبادلة. وينقلون هذه المتاجر من والى البلاد المتعددة بواسطة الزاحفات في الأصقاع المتجمدة والزوارق في البحار المائعة. ويعودون أولادهم منذ نعومة أظفارهم على الأسفار والأعمال الشاقة فهم يضعون القوارب الصغيرة من جلد المورس وعظام الحيوانات في أيام الصيف ويسابقون بها الريح في جريها حتى إذا ما وصلوا البر سحبوها معهم وتركوا عندها نفراً منهم يحرسها، وكذلك الزحافات التي تجرها الكلاب فوق الأراضي المتجمدة.
انقطاع الأقزام في بلادهم النائية عن العالم المتمدن، وانزواؤهم في الأصقاع الجامدة وتعذر الانتقال بين بعضها وبعض إلى مسافات بعيدة بالسرعة التي تقتضيها الحياة العصرية، وعدم سلوكهم في الارتزاق مسلك الأمم الباقية بتبادل المحصولات الزراعية والحيوانية والمعدنية وغيرها مما قد يوجد في قسم من البلاد ويندر في غيرها لعدم حاجتهم إلى ذلك ولتساوي أراضيهم في منتجاتها التي تنحصر في صيد الحيوانات البحرية والبرية والاكتساء بجلودها والتقوت بلحومها، جعلهم يقنعون بما رزقهم الله ولا يطمعون في الحصول على ما في أيدي الغير من بلاد ومتاجر أو سلع وغيرها، وجعل منهم الأمة العاملة المجدة التي تسعى للحصول على قوتها الضروري بهمة لا تعرف الكلل دون الاعتماد على سواعد الآخرين، لذلك لا يعرفون رابطة قومية أو دينية ولا تجمعهم عصبية أو جنسية، هذا التفكك القومي نراه ظاهراً حتى بين أفراد الأسرة الواحدة فإذا بلغ أحد أفرادها سن الكبر أو أصيب بمرض أو عاهة تمنعه من القيام ببعض الأعمال الضرورية بحيث يصبح عالة على غيره حق للأولاد والأفراد الآخرين أن يأخذوا هذا المسكين إلى مكان بعيد مرتفع ثم يجردونه من لباسه ويتركونه عرضة للرياح القارسة إلى أن يموت. وليس هناك قيود عائلية أو زوجية قوية كما بين باقي الأمم، بل هي شكلية من حيث المأوى والاشتراك في الأعمال المنزلية وتربية الصغار وأعمال الصيد وغيرها. والغريزة الجنسية يمكن أن تقضي بين أي فرد من أفراد العائلة أو غيرها، بين الجار وجارته وبين الأخ وزوجة أخيه والأخ وأخته حتى بين الأب وابنته والولد وأمه. ويمكن أن يجري هذا العمل بحضور الزوج الأصيل وعلى مرأى منه دون أن يبدي أي اهتمام (بشرط أن يأذن بذلك) إلا أن هذه الأعمال البهيمية آخذة في الزوال بعد اختلاطهم بالأقوام المتمدنة وخاصة بعدما توافدت عليهم البعثات الدينية التبشيرية. وبعد أن صاروا يسافرون لبيع متاجرهم إلى غروتنلندة وشمال أمريكا وآسيا وهم آخذون في الرقي والتمدن تدريجا.
أما لغتهم فإنها ضيقة محدودة بحدود المناطق التي يتجولون فيها فهي قليلة الكلمات كثيرة المعاني، تفيد الكلمة الواحدة منها معنى عشر كلمات أو أكثر من اللغات الأخرى. لذا وضعت في جملة اللغات الجامدة التي يحق أن تكون مثلها الأعلى في الجمود، وهم أميون ولا كتابة للغتهم
طبائعهم وعاداتهم: إن القزم بعضلاته القوية وساعديه المفتولين وساقيه الأعوجين يستطيع بكل سهولة أن يصعد أشهق الجبال دون أي جهد أو كثير عناء، فيقذف بحبله على صخرة عالية حتى إذا ما علق بها جربه مراراً، فشده بقوة وتعلق به، فإذا تأكد من ثباته لف طرفه على ساقه وصعد عليه بسرعة، فلا تكاد تراه في أسفل الوادي حتى تراه يتراكض فوق قمة الجبل، ثم ينزل ويضرب حبله حتى يسقط فيأخذه وينصرف. وهم ذوو شجاعة وصبر ورأي سديد ونفوس أبية وقلوب رحيمة شفيقة يكرمون الضيف ويؤثرونه على أنفسهم. وهم فطريون يميلون إلى النكتة واللهو الضحك والفكاهة، فيخزون بعضهم ويثرثرون ويسحبون الزحافات إلى الخلف أثناء مسيرها ويقهقهون، أما الكذب والمكر والخداع والبغض والضغينة، فلا أثر لها لديهم ألبته، وهم يحبون استماع الحاكي التي يعيدونها كلما انتهت مراراً، ويجلسون في بيوتهم الجليدية المعتمة إلى جانب بعضهم وبين أيديهم الجلود والعظام والشحوم، فهنا امرأة تلين نعل زوجها المتقلص من شدة البرد بدهنه بالشحم والشمع وبشده بأسنانها وتساعده بلبسه وشده على ساقه؛ وهنا أخرى تعهدت المصباح تنظفه وتمده بالشحوم، وثالثة تنظف ولدها وتمشطه بمشط مؤلف من عظم الفوك وشعر الدب ثم تبيد القمل الناتج عنه بأسنانها ثم تلحس جسمه وتدهنه بالشحوم، وأخرى تنظف وتلين الفراء وتصنع الحراب العظيمة للصيد والدفاع عن النفس ضد الحيوانات المفترسة. وهناك زوجة تمد زوجها بالطعام كلما نفد من فيه وهو مستلق على ظهره. ومما يؤثر عنهم أنهم يحيون بعضهم بحك أنوفهم ببعضها ويقال أن هذه العادة المضحكة أصبحت لا تشاهد إلا عند الأقوام النائية.
(حلب)
محمد وحيد الدين المعري