مجلة الرسالة/العدد 637/رسالة لبنان خلال العصور

مجلة الرسالة/العدد 637/رسالة لبنان خلال العصور

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 09 - 1945



للأستاذ توفيق حسن الشرتوني

لا جدال في أن موقع لبنان الجغرافي يجعل منه بلداً متعدد الرسالات. فهو قائم في جبهة الشرق الأدنى على مفرق الطرق بين الشرق والغرب. تمتد سواحله المستطيلة على شاطئ هذا البحر الأبيض المتوسط، بحر الحضارات والمدنيات العريقة التي تعاقبت على الجنس البشري منذ فجر التاريخ.

وهذا يعد بالحق من أجمل بقاع الأرض، خلعت عليه الطبيعة أبهى الحلل، وكست ربوعه بمختلف المحاسن والمغريات، فأضفت على جباله الشامخة روعة الجمال والجلال، تكلل نواصيها لآلئ البرد وبريق الثلج، وتجلل آكامها نواتي الصخور وبواسق الشجر، وتتفجر في جنباتها انهار وجداول تتدفق باللجين المصفى وتنساب بين الصخور والمروج في أودية رهيبة أخاذة كثيرة التعاريج فتانة الصور تبهر العين وتسحر اللب، وتأخذ بمجامع القلب.

ولبنان فوق ذلك، بلد معتدل المناخ طيب الهواء والماء، يتسربل بأروع المشاهد في مختلف فصوله: صيفه روح للب وراح للقلب، وخريفه بهجة للنفس وغبطة لها، وشتاؤه شلال زاخر وثلج مندوف باهر، وربيعه رمل مخضوض ورجاء عابق بالشذا، ومدنه وقراه جنان متنوعة الأشكال، بعضها قائم على الشواطئ يهدهدها البحر ويداعبها بكره وفره. وبعضها منتشر بين السفوح والتلال انتشار النجوم في الفضاء تحيطها هالة من الرياض الغناء المثقلة بأزكى الأثمار وأندى الأزهار.

كأن العناية الربانية أبدعته درة يتيمة في جبين المشرق وجعلته قبلة للمصطافين ومحطاً لرحال الرواد والمتزلجين.

أما آثاره القديمة فترجع إلى أقدم العهود، وكلها تدل على الدور العظيم الذي لعبه لبنان في مجرى التاريخ البشري، وتعبر بأجلى بيان عن الرسالة الإنسانية البارزة التي يحملها بين جوانحه وينشرها على توالي الأجيال في أصقاع المعمور.

وقد كانت أولى رسالاته في عصر الظلام المطبق رسالة الدعوة إلى قدح زناد الفكر وتشغيل الذهن لأجل تمييز الإنسان عن الحيوان وتبديل حياته الوحشية بحياة أقل همجية وأكثر ائتلافاً. فأبدع أبناؤه في العصر الحجري في اختراع أداتهم الصوانية وفي كهوفهم وستر عريهم وجمع شتات شملهم.

وكانوا السباقين أيضاً في عهدهم الفينيقي إلى وضع أول حجر في بنيان الحضارة الراهنة. فهم أول من اخترع حروف الهجاء ونشروا رسالتها بين الأمم، وحملوا مشعلها الساطع في متون البحار ومجاهل البوادي والقفار، فخلقوا بها العلم خلقاً، وأسسوا بها للمدنية أساساً مكيناً.

وهم أيضاً أول من أنشئوا السفن ومخروا عباب اليم، فربطوا العالم القديم برباط تقايض السلع والمتاجر وتبادل الأفكار والآراء، وتقارب الشعوب بعضها إلى بعض بالصلات السياسية والاجتماعية وغيرها.

وكانت مدن لبنان من أمهات مدن العالم في العهد القديم، تصدر أرجوانها وأصباغها ونتاج صناعها الحاذقين كما تصدر آدابها ومعارفها إلى مختلف أنحاء الأرض.

فتاريخ صيدا وصور وجبيل حافل بالعظائم. وقد أنشأ لبنان أيضاً في عهده الفينيقي عدة مستعمرات في أفريقيا وجنوبي أوربا، غير أنه كان يرمي من إنشائها إلى توطيد أسس التجارة وتعزيز تبادل المنافع بين الأمم، لا إلى الفتح والاستئثار بحرية الآخرين كما تفعل أمم اليوم. فلبنان لم يكن في عهد من العهود دولة محتاجة قائمة على السيف والمدفع والقوة الغاشمة بل كان ولم يزل بلداً مسالماً حاملا رسالة العلم والأدب ناشراً لواء الصناعة والتجارة في كل صقع وناد.

وفي العهد الروماني لبث لبنان محافظاً على رسالته الأدبية فكانت بيروت عاصمته اليوم تلقب بمدينة الشرائع والنواقيس يؤمها الطلاب من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية الفسيحة الأرجاء. وفي العصر البيزنطي ثار لبنان على الجور والظلم وسجل أبناؤه الأشاوس في تاريخ الحرية الإنسانية صفحة مجيدة حتى أنهم لقبوا بالمردة لشدة تمردهم وقوة شكيمتهم وانتقامهم.

وفي أوائل العهد العربي دخل لبنان أفخاذ من بعض القبائل العربية ومعظمهم يدينون بالنصرانية ونشروا بين ظهرانية لغة الضاد، فاعتنقها أهل لبنان عامة لأنها شقيقة لغتهم الآرامية السريانية تقرب منها حروفاً وصوراً، ولأنهم أيضاً يمتون بأنسابهم السامية إلى تلك القبائل التي أنزلوها بينهم على الرحب والسعة. فاستعرب لبنان سهلا وجبلا مندفعاً لا مرغماً. وأصبحت العربية لغته الوحيدة. أما السريانية فانكمشت ضمن جدران الكنائس والمعابد، تستعمل في بعض الطقوس الدينية كما تستعمل اللاتينية في الغرب.

وكان لبنان في خلال الحكم العربي ملتقى الشرق والغرب، وصلة وصل بين أممهما في عهد البيزنطيين والصليبيين. فاجتمعت فيه الحضارتان وتعانق الدينان دين الإنجيل ودين القرآن.

ولما انقرضت دولة العرب وخلفهم العثمانيون في الحكم دانت لهم البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها إلا لبنان فظل وحده محتفظاً باستقلاله الداخلي يحكمه أمراؤه ومقدموه. وبقيت اللغة العربية الشريفة زاهية زاهرة ضمن جدران أدياره ومعابده وفي ظلال خلواته ومساجده، لم تتسرب إليها العجمة والرطانة كما تسربت إليها بين اقحاح العرب أنفسهم، حتى الحجاز واليمن وهما منبع العروبة ومعقلها لم تسلم لغتهما من حوشي التركية وغريب ألفاظها.

وقد بلغ لبنان في عهد الأمير الكبير فخر الدين المعنى مكانة رفيعة، فهابه السلطاني القمائي وخطب وده بعض ملوك الفرنجة وأكبروا شأنه وشأن وطنه الصغير فتبادل معهم الرسل والهدايا وحالفهم محالفة الند للند، وزار إيطاليا فقوبل مقابلة أصحاب التيجان. واختلط بسكانها واستوعب حضارتهم. ثم آب إلى وطنه يعمل على تمكن الصلات الروحية والمادية بين الشرق والغرب، فأوغر صدر الترك عليه وأصلوه حرباً ضروساً أقضت مضجعه وأبادت أحلامه وأمانيه. فاستسلم مرغماً إليهم وقضى نحبه شهيداً في عاصمتهم.

وحذا خلفاؤه المعنيون والشهابيون حذوه في العناية بلغة الضاد، لغة الوحي والنبوة. فلم تصب بالتشويه ولم تفقد نقاء أسلوبها وصفاء بيانها، لأن اللغة التركية لم يسعدها الحظ طوال الحكم العثماني في بلاد العرب بأن تخطو خطوة في لبنان أو تعبر قدما. بل ظلت خارج حدوده عاجزة عن اجتياحه. وظل لبنان مضطلعاً أيضاً برسالته الإنسانية المجيدة رسالة تتبادل المنافع بين الشرق والغرب وتمازج حضارتيهما.

وقد شعر العالم اليوم بعد طول المحن والتجارب أن رقي البشر وسلامهم لا يأتيان بدون تزاوج الحضارتين وتواؤم الثقافتين.

وعاد لبنان إلى سابق عزه وازدهاره في عهد الأمير بشير الكبير حليف عاهل مصر الأكبر محمد علي باشا رأس الأسرة العلوية الملكية سعيداً في وادي النيل.

فوقف الأمير بجانب إبراهيم باشا في حملته المشهورة على ربوع الشام، وأمده بالرجال والمؤن، فازدادت العلاقات الودية بين الكنانة ولبنان وتمكنت الصلات الأدبية والمادية بين شعبيهما تمكناً وثيقاً. والصلات بين القطرين الشقيقين قديمة العهد ترجع بجذورها البعيدة إلى الفراعنة والفينيقيين، غير أنها بعثت بعثاً جديداً في زمن هذين العاهلين الكبيرين.

وقد استقدم محمد علي باشا الكبير بعض الأسر اللبنانية إلى مصر لإنشاء صناعة الحرير وغيرها. ثم شرع أحرار اللبنانيين من ذلك العهد يهبطون مصر زرافات ووحدانا فيلقون من أسرتها المالكة كل عون وتشجيع وفي شعبها المضياف كل عطف وترحاب. فاشتغلوا في حقل الصحافة والأدب ونشر لواء العلم، وكانوا المجلين في هذا المضمار يشهد لهم كبار رجالات هذا القطر الشقيق وصفوة علمائه وأدبائه البارزين. وبلغوا في حقل الزراعة والتجارة والصناعة مبلغاً مرموقاً وفي ميادين المهن الحرة والوظائف الحكومية منزلة سامية. فخدموا مصر خدمة صادقة منزهة عن الهوى.

ولما انطوى حكم الأمراء في لبنان بعد الحوادث المشؤومة عام 1860 صغر حجمه وانكمش في جباله من جراء النظام الجديد الذي أعده له الداهية العثماني فؤاد باشا بالاتفاق مع أقطاب الدول الأوربية الكبرى. فضاق على سكانه في عهد المتصرفين فكثرت هجرتهم إلى مصر لقربها من وطنهم وقديم صلاتهم بها. فأصبحوا فيها جالية وافرة العدد تنعم بالثروتين، ثروة الأدب وثروة النسب.

ثم شرع اللبنانيون يهاجرون إلى العالم الجديد وذلك منذ سبعين عاما على وجه التقريب، فنزلوا في شتى أقطاره مجاهدين في سبيل الحياة، ورأس ما لهم شباب وثاب، وذهن وقاد، وعزم قدَْ من جلاميد جبالهم وشوامخ ارزهم، فلم يلبثوا طويلا حتى كثر عدد جالياتهم في مختلف الجمهوريات الأمريكية، وبلغوا فيها شأواً لا يستهان به في عالمي الصناعة والتجارة، ونبغوا في المهن الحرة وفي حقل السياسة والعلم والاجتماع، وفي إجادة لغات الأمم التي نزلوا بين ظهرانيها. وانشأوا الصحف والمجلات في لغتهم العربية وكانوا وما برحوا في طليعة الحاملين لواء التجديد بين أدبائها والناشرين كنوزها في أقطار المعمور.

وهبطوا أفريقيا وامتدوا في أصقاعها النائية امتداد النيل في أرجاء الكنانة. وجابوا أوروبا وأرجاء الشرق وسروا في أقاصي الأرض مجاهدين سريان الدم في الشرايين. فأصبحوا خارج بلادهم أوفر عدداً وثروة، وأعز نفوذاً وجاهاً، وأرقى أدباً وعلماً منهم في بلادهم.

فانشطر لبنان شطرين، لبنان المغترب المنتشر تحت كل سماء، ولبنان المقيم الرابض في بطون أوديته ومشارف جباله.

ولا أغالي إذا قلت إن لبنان المغترب فد سجل صفحة مجيدة في التاريخ الحديث، فأظهر أبناؤه المشتتون في بقاع الأرض أنهم أعلام في كل علم، أكفاء في كل فن، أقطاب في كل صناعة، وانهم متى فسح لهم المجال يجارون أرقى الأمم في جليل المآثر وغرر الأعمال.

وقد برهنوا في هذه الحرب أيضاً أنهم شعب مقدام حي جدير بالتقدير والإعجاب لم يتلكئوا عن القيام بواجبهم نحو الحرية التي يقدسونها والديموقراطية التي يتعشقونها. فتجندوا بالألوف في صفوف الحلفاء، وابدوا في ساحات الحرب شجاعة وبأساً وفي مصانع الأسلحة والمختبرات ذكاء وعلماً، فهم في هذه الحرب قد حاربوا في كل الجبهات متطوعين في جحافل الأمم المتحدة بين الإنكليز والفرنسيين والكنديين والأمريكيين والأستراليين والنيوزلنديين والهنود والأفريقيين وغيرهم. لقد صح فيهم المثل العربي القائل: في كل وأد البنات أثر من ثعلبة. أجل في كل جيش من جيوش الحلفاء مغرزة من لبنان تساهم في احقاق الحق وإزهاق الباطل، كما أن في كل قطر من أقطار المعمور تقع العين على جالية لبنانية عزيزة الجانب جليلة المفاخر.

ولم ينس المهاجرون وطنهم لبنان، فهم يساهمون على الدوام في مساعدة أهله وتدبير عمرانه. فلهم في كل بقعة من بقاعه آثار مخلدة ومكرمات لا تحصى. لقد أقالوا عثرته وانتشلوا أبناءه من وعثاء الفاقة والجهل، وشيدوا في مختلف مدنه وقراه اجمل المنازل وأفخم القصور، فأصبح لبنان بفضلهم بلداً ديمقراطياً عامراً، لا أمية في أهله ولا أرستقراطية مستأثرة في ربوعه.

أما لبنان المقيم فهو على الرغم من رقيه الأدبي والعلمي وتقدمه الصناعي والتجاري لا يزال دون لبنان المغترب تقدماً وطموحاً، لضيق نطاقه، وضآلة حجمه، وعدم اتساعه لاستثمار شتى القوى والمؤهلات الكافية في صدور أبنائه، ولارتمائه أيضاً في أحضان الطائفية واشتغاله بالسياسة.

فدستور لبنان المعمول به حتى اليوم ما برح مؤسساً على الطائفية البغيضة. فالمقاعد النيابية والوزارات والوظائف الحكومية كلها موزعة على الطوائف حسب تعدادها كأن لبنان شركة استثمارية يتقاسم ريعها المساهمون لا وطناً موحداً مجموع الكلمة، يعمل بنوه لإعلاء شأنه وإنماء موارده ويحكمه منهم من يستحق الحكم وينوب عنهم من يستأهل النيابة دون نظر إلى المذهب الذي يدين به والطائفة التي ينتمي إليها.

أما السياسة فهي داء العالم أجمع لا علة لبنان وحده، غير أنها أمست اليوم متفشية بين سكانه تفشياً ينذر بأوخم العواقب؛ ولبنان بلد صغير لا يتسع لميدانها ولا يتحمل مشاكلها وآفاتها. والسياسة بؤرة فساد ما دخلت أمة إلا هتكت حجابها، وما ملكت شعباً إلا فرقته شيعاً تتنافر وأحزاباً تتقاذف وتتباغض.

إن رسالة لبنان الموروثة هي غير رسالة السياسة أو رسالة التمسك بأهداف الطائفية. هي رسالة عالمية صرفة، تشمل العلم والعمران، وتستهدف الحضارة المتصلة بالمادة والروح المشعة في جوانح الشرق والغرب، المنبعثة في الوجدان الحي في الإنسان، لا من الشيطان المتحفز في غريزته.

فليس للبنان المقيم أي مستقبل مجيد بدون نبذ السياسة والطائفية معاً وبدون اهتدائه إلى حكومة رشيدة تعمل في حقل العلم والعمران دون سواهما.

فلبنان في الشرق كسويسرا في الغرب بلد اصطياف واستشفاء. ووطن علم وثقافة، يحتاج إلى تحريج جباله، وتجميل مدنه وقراه، وتعبيد طرقه، وتوفير الري في بقاعه، وتصميم الفنادق الحديثة الطراز في مصايفه، ونشر العلم في ربوعه.

وهو بلد عربي الوجه واللسان، غربي الفكر والثقافة يرتبط بالشرق بروحانيته وعروبته ويتصل بالغرب بعلومه وفنونه.

وما أجمل هذا الاتصال والارتباط حيال الوحدة العالمية التي ينشدها الإنسانيون ويحلمون بتحقيقها!

توفيق حسن الشرتوني