مجلة الرسالة/العدد 64/ الشخصية
مجلة الرسالة/العدد 64/ الشخصية
3 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الأبراشي
المفتش بوزارة المعارف
العناصر الرئيسية التي تتكون منها الشخصية القوية:
تكلمنا فيما مضى عن الشخصية وماهيتها، وقلنا أنها قد توهب بالفطرة، وقد تكتسب بالتربية الحق، وبينا أن الناس يختلفون في شخصياتهم كما يختلفون في ذكائهم وميولهم الفطرية، وذكرنا من العناصر الرئيسية المكونة للشخصية القوية ثلاثة عناصر وهي: الجاذبية، والنشاط العقلي، والمشاركة الوجدانية. واليوم نتكلم عن العنصر الرابع وهو الشجاعة فنقول:
ربما كانت الشجاعة أهم عنصر من عناصر الشخصية القوية في أوقات الرخاء والشدة على السواء، ولكن ما الشجاعة؟ الشجاعة قوة بها يتمكن الإنسان من السيطرة على قواه مع ضبط نفسه وقت الخطر الذي يهدده، سواء أكان ذلك الخطر حقيقيا أو وهميا.
وكما أن الشجاعة فضيلة في الجندي والملاح فكذلك هي فضيلة في غيرهما من بني الإنسان وهي خير مقياس يقاس به الشخص في أوقات الشدة حيث يتطلب الثبات أو الأقدام. وبهذا المقياس يمكن وضع الشخص في مرتبته الخاصة بين الشجعان أو الجبناء وبين العظماء أو العاديين.
وقد قيل، وقيل حقا، أن الشجاعة تتوقف على القوة الجسمية والعصبية والعقلية والخلقية التي لدى الإنسان. وأن المدنية الحاضرة قد قللت من الشجاعة يبن الأفراد، فقد صرح أحد النظار السابقين لمدرسة (أيتون) الإنجليزية المشهورة بأنه رأى غلاما قد دخلت في عينه ذبابه، فحاولت أمه وأخواته الثلاث إخراجها بغير جدوى، ولم يكن الأمر بحاجة إلى أكثر من يتحمل الولد الألم دقيقة واحدة، ولكنه لم يتحمل الألم دقيقة - إن كانت هناك آلام. فأخذ في عربة إلى طبيب في مدينة تبعد خمسة أميال عن القرية. كل هذا من أجل شئ يسير كان في استطاعة أي فرد من الأسرة أن يقوم به بسهولة.
هذه حكاية عن شبان الأمس وأمهات الأمس بإنجلترا. أما اليوم فتجد الأمهات والآباء يغرسون الشجاعة، وخلق الرجولة في
نفوسأبنائهم من الصغر، ويعودونهم الصبر، وضبط النفس
وكتمان الشعور، وتحمل الألم من الطفولة الأولى. وبهذه
الوسيلة يبثون الشجاعة فيهم. ولا يظهر الخلق المتين ولا تبدو
الشخصية القوية إلا بهذا النوع من الشجاعة، وهو القدرة على
احتمال الآلام. وان من يستطيع أن يحتمل خمس دقائق اكثر
من غيره يمكنه أن يفوز بالنجاح والنصر، سواء أكان جنديا أم
قائدا، متعلماً أم معلماً، غنياً أم فقيراً. وبالشجاعة يظهر الفرق
الكبير بين الشخصية القوية والشخصية الضعيفة. والآن نريد
أن نبين مظاهر الشجاعة وأثرها في النجاح في العمل وفي
الحياة الاجتماعية فنقول: مظاهر الشجاعة:
أولاً: الشجاعة في ضبط النفس، وذلك بأن تقف موقفا طبيعيا بكل شجاعة عند مقابلة الرؤساء أو عند الظهور أمام مجتمع لإلقاء محاضرة أو الاشتراك في مناضرة، أو التعبير عن رأي، أو الدفاع عن مبدأ أو عقيدة، بحيث لا نرتعد أو نضطرب، ونظهر بأحسن مظهرفي حديثنا وإلقائنا ونبرهن بأعمالنا وآرائنا بكل لطف وأدب. وإذا لم يكن لدى الإنسان قدرة على إظهار مقدرته بالعمل وضبط النفس فقد تضيع منه الفرصة الذهبية التي قد لا تصادفه مرة أخرى. وكثيرا ما تضيع الفرصة من الشخص، ثم يندب سؤ حظه، ويشكو الظروف والمقادير، مع انه لم يكن في حاجة إلى أكثر من الشجاعة في انتهاز الفرصة حين سنوحها. ولا سبب يدعو الإنسان إلى الخوف من أبناء جنسه. وقد يكون الخوف مبنيا على وهم لا أساس له. وإذا وثق المتكلم من نفسه، وعرف ما يريد أن يقوله، وعرف كيف يعبر عن خواطره، وكيف يبرهن على نظريته بالعقل والمنطق، فأنه يستطيع أن يطمئن إلى نفسه، ويمسك بزمامها، ويقابل من يشاء، ويخاطب من يريد، ما دام متحليا بالأدب، واثقا من نفسه، وكان عقله مرتبا وأفكاره منطقية، بحيث لا يتسرع في ذكر شئ يدل على عقل مضطرب، أو روح قلق، ولا يتظاهر بما ليس فيه. وإذا وفقت مما تريد أن تقوله فهذا وحده كاف لأن تؤثر في نفوس سامعيك، وتنظر إليهم وتقابلهم بكل قلبك وجها لوجه، وتجعل قلبك وروحك في إثبات ما تريد أثباته، أو نفي ما تريد نفيه، فتتكلم بقلبك لا بلسانك. ولا شئ يبرهن على الشجاعة ويخضد شوكتهااكثر من الهلع؛ فحيثما وجد وجد الألم، والقلق النفسي، وتعب الضمير، واضطراب العقل، فتضطرب شخصية الإنسان. ولأن كان الخوف ثمنا ندفعه في سبيل المحافظة على الحياة فالإفراط فيه عيب من العيوب الإنسانية التي يجب تهذيبها، والتي تقضي بأن يفكر الإنسان في الشيء وفي نتائجه.
وبجانب المخاوف التي تلحق الشخص في حاضره، وتحيط به من وقت لآخر، مخاوف وهمية يتوهمها، ويتخيل حدوثها في المستقبل، فيقلق باله، ويضطرب فكره، وتضعف شخصيته. وكثيرا ما تكون هذه الأوهام المخيفة المبنية على غير أساس، وندر أن تقع. وكم إغتممنا لتوقع مصائب لم تحدث، ولن تحدث. وتكثر هذه المخاوف عادة لدى الشخصيات الضعيفة. أما ذوو الشخصيات القوية فلا يكثرون من الهموم من غير ما سبب، ولأقل سبب، بل يستقبلون الحياة كما هي، ويواجهونها بما فيها من مسرات وأحزان، وسعادة وشقاء على السواء، يبتسمون بهدؤ حتى في مواطن البكاء، ويصبرون في مواقف البأساء. هؤلاء جديرين بالنجاح في الحياة لشدة ثقتهم بالله.
والحياة مملوءة بالحوادث والمصائب، والعجائب والغرائب. ولا يستطيع الإنسان أن يعرف ما ينتظره في الغد من المقادير، وقد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فيفاجأ الإنسان بأشياء ما كان ينتظرها، كمرض أو فقد مال أو خسارة. فبهذه وبكثير أمثالها من الحوادث تختبر رجولتنا، ويعرف معدن الرجولة فينا، وبالروح التي نقابل فيها هذه الحوادث تظهر شخصيتنا أو تستتر. ولا تظهر الرجال إلا عند الشدائد والمصاعب. وبما أن النجاح في الحياة ليس من السهل فيجب أن يتعلم الإنسان كيف يبتسم في الأيام المظلمة، كما يبتسم عند المسرات في أيام السعادة والهناءة. وينبغي أن يتعود الشجاعة والاحتفاظ بقواه عند الملمات حتى يكتسب إعجاب رفقائه وأحترامهم، ويثبت ثبات الطود في مهب الرياح. وليس من الشجاعة أن تكثر من شكوى الحياة والظروف والأيام، فشكوى سوء الحال لن تغير ما حدث، بل تذهب بنظرة العقل، وقوة القلب، وأن الفرق من الخذلان والهزيمة يؤدي إلى الهزيمة، وقوة الأمل في النجاح مع التشجيع والمثابرة تحفظ روح الإنسان وهمته، وتبعث فيه كثيراً من الرجاء في الفوز، وبخاصة إذا عمل بعقله وقلبه ويده، وأن الاعتراف بالنقص فضيلة، والعمل على علاجه شجاعة. فنحن في حاجة إلى الشجاعة التي بها نستطيع مواجهة المخاوف ومقابلتها بكل ثبات وصبر وتفكير حتى نتغلب على مصاعب الحياة، ونقلل من الخوف الذي يهدم الرجولة من أساسها، ويقتل الشخصية في مهدها.
وأن أعظم انتصار في الحياة هو الانتصار على النفس
بضبطها وكبح جماحها، والتغلب عليها. وليست الشجاعة في
أن تنتصر على سبع مفترس فحسب، ولكن الشجاعة في أن
تسيطر على نفسك التي بين جنبيك. وأرقى مظاهر الشجاعة
الصبر والتحمل عند القدرة. ثانياً: هناك مظهر آخر للشجاعة
يتبين في التغلب على الصعاب التي تعترض الإنسان في
الحياة، وإصلاح الأخطاء التي تمر بنا سواء أكانت الأخطاء
منسوبة إلينا أو منسوبة إلى غيرنا. وهناك كثير من المصاعب
التي يمكن التخلص منها بقليل من الشجاعة والحزم والثبات؛
وكثيراً ما يكون الجبن سبباً في الفشل وعدم النجاح في العمل.
وكما تكون الشجاعة في الأقدام على الشيء تكون في الأحجام
عند تحقيق التهلكة. ولا تقل الشجاعة في الأحجام والتريث حينئذ عن الشجاعة في الأقدام.
وممن كانوا مثلاً للشجاعة واقتحام المخاطر بين العرب خالد أبن الوليد: ومن أقواله: لقد لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة أو رمية، ثم هاأنذا أموات على فراشي حتف أنفي، فلا نامت أعين الجبناء.
ثالثاً: تظهر الشجاعة في الإجابة وفي إبداء الرأي: ومن
الشجاعة أن يجيب الإنسان بكل أمانة وإخلاص عما يسأل،
وأن يبدي رأيه بكل صراحة، ويدافع عنه من غير تغيير
الحقائق، ومن غير اضطرار إلى الإنكار أو ذكر نصف
الحقيقة خوفاً من أن تظهر بنفسه الحقيقة كما هي، وإذا اعترفنا
بكل إخلاص أننا فعلنا كذا، ولم نسمع رواية كذا، أو لم نقرأ
كتاب كذا، أو أننا لا نحب فلاناً فقد يعجب المستمع العادي،
ولكننا لو ذكرنا السبب بطل العجب. وهذا أفضل من تشويه
الحقائق بالتغيير والزخرفة وتضليل الغير. وهناك أسئلة
شخصية تدل على تطفل السائل، وتدخله في شئون غيره، فمثل
هذه الأسئلة يجب أن تحارب برفضالإجابة عنها بكل أدب،
عقابا لذلك المتطفل؟
محمد عطية الأبراشي