مجلة الرسالة/العدد 65/الشريف الإدريسي

مجلة الرسالة/العدد 65/الشريف الإدريسي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1934


2 - الشريف الإدريسي

يضع اقدم وأصح خريطة جغرافية للدنيا القديمة

للأستاذ محمد عبد الله ماضي

عضو بعثة تخليد الإمام محمد عبدة بألمانيا

7 - الإدريسي يضع خريطة بناء على نظريته السابقة.

وبناء على نظرية الإدريسي التي شرحناها وضع خريطته العالمية هذه، فهي تمثل القسم المعمور من الكرة الأرضية وهو القسم الشمالي منها كما قدمنا. هذا القسم يشمل القارات الثلاثة: أفريقية الشمالية في الجهة اليمنى العليا (الجنوب الغربي)، أوربا في الجهة اليمنى السفلى (الشمال الغربي) يفصل بينهما بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط)، واسيا في النصف الشرقي تشمل جميع الجهة اليسرى. وأمريكا طبعا لم تكن عرفت بعد، وكذلك هذا التقسيم إلى القارات الثلاث لم يكن معروفا لدى العرب على الإطلاق، وإنما كانوا يقسمون الكرة الأرضية إلى الأقاليم السبعة من الجنوب إلى الشمال، ثم كل إقليم إلى عشرة أقسام من الغرب إلى الشرق، وفوق هذا كانوا يقسمونها إلى الدول والممالك التي كانت معروفة في ذلك الوقت.

8 - الأقاليم السبعة وخطوط العرض.

والأقاليم السبعة كانت عند قدماء اليونان عبارة عن خطوط أفقية تبتدئ من خط الاستواء نحو الشمال وتحدد النقط التي تتم فيها زيادة النهار نصف ساعة على طوله في المنطقة السابقة من جهة الجنوب، ثم استعمل العرب الأقاليم وأرادوا منها المناطق التي تقع بين هذه الخطوط، وتلك المناطق لم تكن متساوية عندهم. أما الإدريسي فانه أراد من الأقاليم السبعة التي قسم خريطته إليها هذهالمناطق التي كانت معروفة عند العرب، ولكنها عنده متساوية المقدار إذا استثنينا الإقليم الأول الذي يمتد إلى درجة 23 شمال خط الاستواء؛ فالأقاليم الستة الباقية يشمل كل منها ست درجات من درجات العرض، وعليه فالإقليم الثاني من 24 - 29، والثالث من 30 - 35 والرابع من 36 - 41، والخامس من 42 - 47، والسادس من 48 - 53، والسابع من 54 - 59. ولما كانت نظرية الإدريسي إن المسكون من جهة الشمال هو لغاية درجة 63 فقط، لان المنطقة التي تقع بعد ذلك شديدة البرودة ومغمورة بالثلوج فهي غير صالحة للسكنى والعمران. لما كانت هذه نظريته أضاف إلى الإقليم السابع الذي ينتهي بدرجة 59 أربع درجات أخرى من جهة الشمال من 60 - 63 وبذلك يتم الجزء المعمور من الأرض. ومما يذكر للإدريسي بالإعجاب والفخر انه حاول بتقسيمه الأرض إلى الأقاليم السبعة إثبات درجات العرض وتحديدها، وانه افلح في محاولته هذه إلى حد بعيد يجعل علماء الاختصاص في الوقت الحديث يطأطئون الرأس له إعجابا وتقديرا. أبتدأ الإدريسي بإثبات درجات العرض من درجة 28 إلى درجة 63 على التوالي، والدرجات التي أثبتها توافق الدرجات الحقيقية تمام الموافقة في جميع البحار وفي معظم اليابسة حيث توفرت لديه الأسباب أمكنه إجراء المقاييس الصحيحة؛ وفي بعض جهات قليلة من اليابسة حيث لم تتم لديه الأسباب تختلف الدرجات التي أثبتها عن الدرجات الحقيقية اختلافا بسيطا. فمثلا وضع الإدريسي مدينة (كلمار) ببلاد السويد عند درجة 56 , 3 وهي تقع عند درجة 56 , 5، وجعل الدانيمرك ابتداء من 54 , 5 إلى 58 والصحيح أنها من درجة 54 إلى 57 , 5، وجعل إنكلترا من 52 - 58 بدلا من 50 - 58 , 5، وهذا طبعا فرق بسيط في جهات قليلة دعا إلى ارتكابه عدم توفر الأسباب كما تقدمنا، ولم تنقصه عناية الإدريسي ودقته. أضاف الإدريسي إلى القسم الشمالي من الكرة الأرضية جزءا بسيطا من القسم الجنوبي إلى درجة 16 جنوب خط الاستواء، هذا الجزء الذي تقع فيه منابع النيل، وبين عليه منابع النيل بشكل واضح يدل على مقدار براعته العلمية، ومد الساحل الشرقي لأفريقيا نحو الشرق وجعله حدا للمحيط الهندي من جهة الجنوب، وطبعا لم يلق هذا الجزء عناية الإدريسي لخلوه من السكان وعدم صلاحيته لذلك طبقا لنظريته التي شرحناها. كذلك لم يثبت الإدريسي درجات العرض إلى درجة 28 شمال خط الاستواء، وإنما اكتفى بوضع أرقام بجانب أسماء البلاد التي تقع في هذه المنطقة. ولما كانت هذه الأرقام لا تتطابق مع درجات العرض للبلاد الموضوعة بجوارها وإنما تختلف عنها اختلافا كبيرا فإننا نستطيع أن نفهم السر في أن العلامة الإدريسي لم يثبت هنا درجات العرض متوالية كما فعل بعد تلك المنطقة، بل اكتفى بوضع الأرقام التي وصلت إليه في مواضعها كما اخبر بها.

9 - التقسيم الثاني (تقسيم كل من الأقاليم السبعة إلى عشرة

أقسام).

وبعد هذا قسم الإدريسي كلا من الأقاليم السبعة إلى عشرة أقسام متساوية من جهة الغرب إلى جهة الشرق، فالإقليم الأول يبتدئ من القسم الأول غربا إلى العاشر شرقا، والثاني من الحادي عشر إلى العشرين، وهكذا إلى الإقليم السابع الذي يبتدئ بالحادي والستين وينتهي بالسبعين. وعليه فأول الأقسام السبعين يوجد في الجهة العليا من الغرب، وآخرها في الجهة السفلى من الشرق. بحث الأستاذ (ميللر) هذا التقسيم الثاني فتبين له كما ذكر أن الإدريسي لم يرد به إثبات درجات الطول، وان الباحث لخريطته والقارئ لكتابه نزهة المشتاق لا يستطيع اخذ ذلك منهما، فضلا عن أن هذا التقسيم يختلف اختلافا كبيرا عن درجات الطول. لهذا أريد أنا هنا أن افرض أن الإدريسي اتخذ هذا التقسيم الثاني تسهيلا للقيام بالمهمة ورسم الخريطة لا غير.

10 - البحار السبعة.

وبعد هذا نريد أن نتكلم على البحار السبعة التي ضمنها الإدريسي خريطته، وهي شي آخر غير البحر المحيط أو بحر الظلمات الذي يحيط بالكرة الأرضية.

(1) البحر الشامي أو الرومي (البحر الأبيض المتوسط) الذي يتفرع من بحر الظلمات الغربي ويمتد نحو الشرق.

(2) خليج البندقية (بحر الادرياتيك).

(3) خليج النطاس (البحر الأسود) وهذان يتفرعان من بحر الروم.

(4) البحر القزويني أو بحر الخزر وهو بحر داخلي غير متصل بالمحيط الأعظم.

(5) بحر الهند (المحيط الهندي) وهو يحتوي على ثلثمائة جزيرة يستمد ماءه من بحر الظلمات الشرقي.

(6) البحر الفارسي.

(7) بحر السويس أو بحر القلزم (البحر الأحمر) وكل من هذين يتفرع من بحر الهند.

11 - الإدريسي يسير في وصفه للكرة الأرضية بناء على التقسيم الثاني.

هذه البحار السبعة تخترق الأقاليم السبعة بحسب مواقعها، ولقد وصفها الإدريسي وصفا مسهبا دقيقا ووصف جزرها والبلاد التي تقع عليها إلى غير ذلك في كتابه نزهة المشتاق عند كلامه على الأقاليم السبعين التي شرحناها في التقسيم الثاني. فانه اتخذ في طريقة وصفه للكرة الأرضية أن أبتدأ بوصف القسم الأول من الإقليم الأول متدرجا نحو الشرق إلى العاشر، ثم عاد إلى القسم الأول من الإقليم الثاني متدرجا إلى العشرين، وهكذا سار في طريقه إلى أن تم الكلام على القسم الأخير من الكرة وهو القسم السبعون، وعند كلامه عن كل قسم منها حدده وبين موقعه، وتكلم عن مدنه وجباله وبحاره وأنهاره وعن كل ما يحتويه من ماء ويابس، وعن الدول التي تشغله وعن سكانه وجنسياتهم وعاداتهم وعما يعيش فيه من حيوان وما ينبت فيه من نبات، مبينا كثيرا من خواص ذلك. طبيعية وطبية إلى آخر ما ضمنه نزهة المشتاق من الشرح المسهب والملاحظات الدقيقة.

12 - مصير المائدة الفضية واثر خريطة الإدريسي الذي

تركته في علم الجغرافيا ورسم الخرط.

شرحنا كيف وضع الإدريسي خريطته وكيف ألف شرحها، ولقد تم حفر المائدة الفضية ورسم الخريطة وتأليف الكتاب ونشرهما واختيار الأسماء لهما بأمر رجار الثاني في يناير سنة 1154 كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وبعد إتمام هذا العمل الجليل بستة أسابيع عاجلت المنية رجار الثاني، ولكن ولله الحمد بعد أن استراح ضميره ووصل إلى حل ما استعصى عليه السنين الطوال، وبعد أن قدم للعالم والعلم على يد الإدريسي خدمة من اجل الخدمات في التاريخ، ولعله يشوق القراء الآن أن يعلموا مصير المائدة الفضية وماذا فعل الله بها وان كان مصيرا يوجب الأسف ويثير العبرة، ففي سنة 116. ميلادية بعد وفاة رجار الثاني بست سنوات وفي عهد ابنه (فلهلم) هاجم الثوار القصر الملكي واقتحموه وكان أشنع أعمالهم التي لم تكن موجهة إلى الأسرة النورمانية فقط، وإنما قد ارتكبت - علم الثوار أو لم يعلموا - ضد العلم والعالم اجمع. كان أشنع هذه الأعمال انهم كسروا هذه المائدة واقتسموها فيما بينهم وما هي حقا إلا ثورة، والثورات لا عقل لها، تم هذا الجرم على مرأى ومسمع من الإدريسي الذي بذل مع مليكه من الجهد ما استغرق السنين الطوال وما كلفهما كثيرا من التضحيات، حتى ابرزا عملهما القيم للوجود، والذي كان يستطيع اكثر من غيره أن يقدر قيمة عمله العلمي والفني. لم يبق بعد هذا إلا خريطة الحائط وخريطة الكتاب الموزعة في السبعين قطعة التي هي أقسام الأقاليم السبعين كما ذكرنا. انتشرت هذه الخريطة فيما بعد اشد الانتشار وأعمه، وتركت أثرا واضحا في المؤلفات والخرائط الجغرافية التالية لهذا العصر في الشرق والغرب، وظلت مع شرحها مئات السنين المرجع الوحيد لعلماء الجغرافيا من العرب والافرنج، ومعينهم الذي يستمدون منه معلوماتهم. ولقد ذكر الأستاذ ميللر بعض أسماء المؤلفات التي يظهر فيها اثر خريطة الإدريسي وكتابه بوضوح عند أول نظرة، منها كتاب الجغرافيا لابن زيد المولود بغرناطة سنة 1214 والمتوفى بتونس سنة 1274 ومنها خرائط مارينو زانوتو التي وضعها (بطرس فيسكونتي في سنة 1318 - 1320م. والتي انتشرت في جميع أنحاء أوروبة. إلى آخر ما عدد من أسماء المؤلفين والمؤلفات التي قد يكون لنا أن نكتفي منها بما ذكرنا.

يتبع

محمد عبد الله ماضي