مجلة الرسالة/العدد 65/حركات الشباب

مجلة الرسالة/العدد 65/حركات الشباب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1934



خواصها وأثرها في بناء أوربا الجديد

للأستاذ محمد عبد الله عنان

من أهم الظواهر التي يمتاز بها المجتمع الأوربي الجديد، أن الشباب يقوم في بنائه وتوجيهه بأعظم قسط؛ وقد هلكت زهرة الشباب الأوربي القديم في الحرب، وخلفها شباب جديد حائر يتخبط في غمار المتاعب والأزمات العديدة التي خلفتها الحرب؛ ولكن الحركات والانقلابات السياسية العنيفة التي تمخض عنها العهد الجديد أفسحت للشباب مجالاً كبيراً للعمل، وأسبغت عليه كثيراً من النفوذ والسلطان، وخصته في بناء الدولة الجديدة والمجتمع الجديد بأعظم قسط. ويلاحظ أن هذا التطور قد بدأ في أواخر الحرب ذاتها؛ حيث قامت الثورة البلشفية في روسيا وحطمت صرح المجتمع القديم كله، ولبثت منذ قيامها تعمل بجد ومثابرة على خلق جيل جديد وشباب جديد يضطرم بالمبادئ والمثل الجديدة ويكون لها في المستقبل عماداً وسياجاً، ثم قامت الثورة الفاشستية في إيطاليا بعد نهاية الحرب بأعوام قلائل، وأدركت ما للشباب من أهمية في بناء المستقبل، فأقبلت عليه واجتهدت في حشده وتنظيمه وتدريبه، وطبعته بطابعها القوي فاصبح من طلائعها وجندها المخلصين؛ وأخيراً قامت الثورة الوطنية الاشتراكية في ألمانيا (الثورة الهتلرية) وكان قوامها منذ البداية ذلك الشباب البائس الذي دفعته خيبة الأمل إلى أحضان التطرف والى لواء أولئك الذين يعدونه بالعمل ورفاهة العيش في ظل دولة جديدة يكون الشباب فيها كل شيء؛ ويستأثر بكل شيء، وفي تركيا الكمالية يشغل الشباب في المجتمع التركي الجديد اعظم مكانة، ويعلق عليه زعماء الثورة الكمالية اعظم الآمال، وقد حذت الثورة التركية حذو الثورة البلشفية والثورة الفاشستية في حشد الشباب وتدريبه وطبعه بالمبادئ والمثل الجديدة، وفي معظم الأمم الأوربية الأخرى مثل إسبانيا وفرنسا وبولونيا يجتمع الشباب حول المثل الجديدة، ويحاول أن يشق طريقه إلى بناء دولة جديدة ومجتمع جديد يكون له فيهما ما يطمح إليه من السلطان والنفوذ. وحتى في إنكلترا التي عرف شعبها بالروية والاتزان إزاء الآراء والتطورات الجديدة يبدي الشباب الإنكليزي ميلاً كبيراً إلى التطور، ولا يأبى تأييد الشيوعية والفاشستية إلى حد ما.

ونلاحظ أيضاً أن الشباب اشد ما يكون تطوراً ونفوذاً في بناء الدولة الجديدة والمجتمع الجديد في ظل حركات الطغيان، كالبلشفية والفاشستية والوطنية الاشتراكية الألمانية. ذلك أن هذه النظم الطاغية تقوم على القوة والعنف وتحتاج أولاً إلى السواعد الفتية توازنها وتحقق لها ما شاءت من ضروب العنف والإرهاب، فإذا ما استقرت بفضل هذه السواعد القوية والأذهان الملتهبة الطامحة، اضطرت أن تفسح لها مجال النشاط والعمل تحت إشرافها ووحيها، وان توليها من النفوذ والمكانة ما يحقق بعض أطماعها، على أنها لأتقنع بحشد الشباب الناضج المكتمل، لأنها لا تأمن تطوره وانقلابه، فتعمد إلى الشباب الفتى تبث إليه تعاليمها، وتدربه على أساليبها؛ ولا تفر الأحداث والأطفال، لأنها ترى فيهم أجيالاً متعاقبة من الشباب الذي ترى أن تخلد زعامتها على يده؛ ولذلك نراها تخضع نظم التعليم والتربية لصولتها، وتطارد حرية التفكير والرأي بكل ما وسعت من ضروب العنف والشدة حتى لا تفضح مثلها ووسائلها، وحتى لا يلقى الشباب الذي تستعبده وتذله لغاياتها من النور والضياء ما يهديه إلى الحقيقة ويدفعه إلى تحطيم ذلك النير الوحشي الذي تضعه في أعناقه. وتلجأ هذه الحكومات الطاغية دائما إلى حشد الشباب في جماعات شبه عسكرية، تحت أسماء وصفات مختلفة، وتعنى عناية خاصة بتنمية الميول العسكرية والرياضية في نفسه، لتعوده أولاً على الطاعة العمياء، ثم لتحكم قيادته وتوجيهه بواسطة رياسة متدرجة مباشرة؛ وقد استطاعت الفاشستية الإيطالية أن تحشد حولها بهذه الوسيلة ملايين الشباب والأحداث، وحذت حذوها الوطنية الاشتراكية في ألمانيا فجندت الملايين باسم فرق الهجوم والحرس الأسمر، وجيش العمل، والشباب الهتلري وغيرها. ويتخذ الطغيان، الوطنية والغايات القومية ستارا لهذه الحركات؛ وقد يحقق بالفعل كثيرا من الغايات القومية المحلية أو القريبة المدى، ولكنه يعمل دائما بروح حزبي عميق، ويؤثر المبادئ والغايات الحزبية على غيرها، ويخضع الدولة لسلطان الحزبية، كما فعلت الفاشستية في إيطاليا والهتلرية في ألمانيا.

وتثير حركات الشباب اليوم في أوربا كثيرا من الاهتمام، ولا سيما بعد أن أصبحت عماد انقلابات خطيرة في نظم القارة ومجتمعاتها القديمة، وأضحت عاملا قويا في حياة أوربا السياسية. هل توجد بين حركات الشباب في مختلف البلدان خواص مشتركة؟ وما هي هذه الخواص المميزة وما علاقتها بالتطور الاجتماعي والسياسي في كل بلد؟ وهل تحفز الشباب في جميع البلدان آمال وغايات مشتركة؟ هذه الأسئلة وما إليها تثير كثيرا من البحث والجدل. وقد ظهرت في الأعوام الأخيرة عدة كتب ومباحث هامة بأقلام جماعة من كبار الباحثين والساسة عن حركات الشباب الأوربية وخواصها وآثارها، ومن اشهر هذه الدراسات وأحدثها كتاب بقلم الكاتب الفرنسي ايليا ايرنبور عنوانه (اليوم الثاني من أيام الخلق) وفيه يدرس حركات الشباب في روسيا السوفيتية، ويستعرض خواصها وتطوراتها بطريقةروائية، وفي رأيه إن الشباب الروسي إنما هو شعب جديد، يفيض بمادة جديدة تستنفد اليوم في مرحلة التوطيد الاشتراكي، كل قواه بملء الحرية؛ وان الماركسية (الشيوعية) قد انسابت إلى دمه، واصبح يتذوق الأوضاع التي تقررها، وأنها قد أسبغت عليه بالأخص صفتين: الأولى عاطفة التضامن البشري الذي دعا إليه من قبل سولوسييف، وتولستوي، ودستويفسكي؛ والثانية هي الثقة التي لا حد لها بالعقل والمنطق وما يترتب عليهما من الطموح المستمر إلى النور، واستعمال القوة المفكرة، ونبذ الخرافات القديمة. ومن هذه الدراسات أيضاً كتاب الدكتور جريندل عن حركات الشباب الألماني وعنوانه: (رسالة الجيل الفتي) وقد ظهر قبل قيام الطغيان الهتلري في ألمانيا، ولكنه لا يزال مرجعا في موضوعه. ويصف الدكتور جريندل الشباب الألماني بأنه (وطني) يخاصم الشيوعية اشد الخصومة، وانه يطمح إلى إقامة (اشتراكية ألمانية) تضع حدا لمساوئ النظام الرأسمالي وتقضي على الشيوعية أتم قضاء، وتوفق بين مصالح جميع الطبقات والأفراد. ويمتاز الشباب الألماني بصفة خاصة، هي انه يعتبر نفسه ذا قيمة في نفسه، ولا يكتفي بان يعتبر ذخر المستقبل كما هو الشان في معظم الامم؛ فليس الشباب في نظره حالة نضوج ينتهي عملها بعد حين، ولكنها حالة نضوج تام تترك ورائها كل الأجيال السالفة والقادمة، وهي ذات قيمة في نفسها تتمتع بأعظم الخلال؛ وإذا كان الشباب يتكون في الأمم الأخرى على مثل الرجل الناضج، فانه يرى في ألمانيا أنه أتم نضوجاً وأوفر قيمة من الرجل الكامل. وليس أدل على ذلك من (حركة الشباب) الألمانية الشهيرة التي استطاعت أن تنشئ ثقافة شباب حق لها كل مميزاتها، ولها مثلها الأعلى الخاص؛ ومن المعروف أن الطموح الألماني إلى المثل الأعلى، الذي غدا منذ الفيلسوف (كانت) ظاهرة الحياة العقلية الألمانية، هو مصدر هذه النزعة التي تدفع الشباب الألماني إلى الأمام، فهو يتقدم في سبيله لا يقعده شيً من الاعتبارات العملية التي تسحق الرجل الناضج، وهو لا يعبأ بالمصاعب الخارجية، بل يتحرى الغايات البعيدة دون النظر إلى الحقائق، وهذا الطموح الحر إلى المثل الأعلى هو الذي خلق الشباب الألماني.

هذا عن الدراسة الخاصة لحركات الشباب، وقد صدرت كتب وبحوث عديدة عن الفاشستية وأثرها في تكوين الشباب الإيطالي. وهناك بحوث عامة عن حركات الشباب الأوربي، منها كتاب لرنيه دبوي والكساندر مرك عنوانه (أوربا الفتاة) وكتاب لارنوداندييه عنوانه (الثورة المحتومة) وكلها تدور حول تنظيم أوربا الجديد من الوجهتين السياسية والاجتماعية، وحول تطور المجتمع الأوربي القديم، وفشل الديمقراطية في حشد الشباب، وخصومة الشباب للنظم الرأسمالية والشيوعية معا. وسر هذه النزعة نحو النظم الاقتصادية القائمة، هو أن معظم شباب ما بعد الحرب من اسر فقيرة ومتوسطة؛ وهو يشعر بأنه ضحية إغراق النظم الرأسمالية في استثمار الطبقات العاملة، ويشهد من جهة أخرى أخطار الشيوعية ووسائلها المخربة، فهو يرغب عن النظامين، ويطمح إلى نوع من الاشتراكية المعتدلة؛ وأحياناً يرى مثله الأعلى في الفاشستية، وأحياناً في الاشتراكية الوطنية؛ غير أن الفاشستية والاشتراكية الوطنية لم تتمخضا بعد عن مثل هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي ينشده الشباب. ومن الغريب أن هذه الحركات الطاغية قد استطاعت أن تستعبد هذا الشباب الطموح المتوثب وأحيانا بالوعود الخلابة، أحياناً بالمنح المتواضعة في ميدان الكسب والعمل، ولكنها تعمد بنوع خاص إلى كسبه بالملق، فتصوره دائما بأنه كل شي في حياة البلاد، وانه صاحب السلطان المطلق في شئونها، وتمنحه من اجل ذلك بعض المناصب الرئيسية، ثم تسيره من ورائها وفق مشيتها، مصوره إياه بأنه هو الذي يقود نفسه بنفسه، على يد زعمائه الشبان.

ومن الحق أن نقول إن هذه الحركات الطاغية - الفاشستية والوطنية الاشتراكية والكمالية - كان لها مع ذلك في تكوين الشباب من بعض النواحي الخلقية والقومية آثار حسنة، تدعو أحياناً إلى الإعجاب، فهي فضلا عن العناية بتكوينه من الوجهة الرياضية والعسكرية، والسهر بذلك على رعايته الجسمية والصحية، تعني عناية خاصة بصقل رجولته وتقوية خلاله ومبادئه الأخلاقية، وتعويده على الحياة الخشنة العملية، وتدريبه على احتمال المشاق، والاعتماد على النفس، فهي تنشئه من هذه الناحية نشأة إسبارطية حسنة؛ وأما من الوجهة القومية فان لها كل الفضل في جعله جنديا متحمسا من جنود الوطن، فهي تحشده باسم الوطن أولاً وتذكي في نفسه حب الوطن وكل ما يتصل به، تاريخه وماضيه، ومدينته، وربوعه، وخواصه، ثم تبعث إليه حب المثل القومية التي تجيش بها الزعامة السياسية وتدخره لتحقيقها، وتذكي في نفسه العزة القومية إلى أقصى حدودها؛ وتحميه من أخطار المبادئ الشيوعية والثورية الهدامة، أو بعبارة أخرى تتخذه درعا لحمايتها منها. ولا يستطيع منصف أن ينكر ما لهذه التربية الأخلاقية والقومية من المزايا البديعة. على أن هذه الحركات تذهب أحياناً إلى حدود بعيدة، وتركب متن الإغراق في تصوير العواطف والغايات القومية، ففي ألمانيا مثلا تبث الاشتراكية الوطنية في نفوس الشباب نزعة قومية مغرقة تذهب إلى حد الأحقاد الجنسية؛ وشعار الاشتراكية الوطنية (الهتلرية) في هذه الناحية أن الجنس الألماني هو خير الأجناس البشرية، وانه يتفوق عليها جميعا بمواهبه وخواصه، وتستتر الوطنية الاشتراكية وراء التفرقة بين الأجناس الآرية والسامية، وتعلم الشباب والشعب الألماني جميعا أن الجنس الآري (ويجب أن نقرا دائما الجنس الألماني) هو اجدر الأجناس بإنشاء المدنيات، وان الشعوب السامية والآسيوية كلها شعوب هدامة للحضارة يجب أن تستعبد وان تستغل لمصلحة المدنية الآرية والجنس الآري؛ وتنظر الشبيبة الألمانية اليوم إلى جميع أمم العالم من عل وتتوغل في الأحلام المغرقة، وكان من آثار هذه المبادئ المغرقة التي تبثها زعامة محدثة متطرفة لا تتمتع بشي من المواهب الممتازة أن وقعت تلك الحوادث والمناظر الدموية المثيرة في ألمانيا باسم خصومة السامية ومطاردة اليهودية؛ ومن الأسف أن هذه المبادئ المغرقة تهيمن اليوم على الثقافة الألمانية كلها. وقد شهدنا بأنفسنا آثار الفاشستية في إيطاليا واثار الثورة الكمالية في تركيا، فأما في إيطاليا فان الفاشستية تغذي العاطفة القومية بقوة، ولكن في نوع من الرزانة وحسن التوجيه. وقد تحمل الشبيبة الإيطالية بعيدا في كبريائها وأحلامها، بل تذهب أحياناً إلى حد التعصب والخشونة. ولكنها لم تذهب قط إلى تلك الحدود المغرقة التي انتهت إليها الوطنية الاشتراكية في ألمانيا. وتتجه الشبيبة الإيطالية اليوم ببصرها إلى ماضي إيطاليا المجيد، إلى مجد روما ومجد القياصرة، فتتصور بعث الدولة الرومانية بكثير من حدودها وأملاكها القديمة، وتتجه أيضا إلى إحياء الفضائل والخلال الرومانية القديمة؛ وهي اليوم افضل مما كانت عليه بكثير من حيث الأخلاق والهمم والثقافة. وأما في تركيا فان العاطفة القومية تبلغ بالشباب حد التعصب الأعمى، ومع أن الشبيبة التركية لا تتمتع بدرجة محترمة من التعليم والثقافة، فإنها مع ذلك شديدةالكبرياء والغطرسة تتصور أنها سيدة الشباب في العالم كله، وأنها على حداثة عهدها بالمدنية الأوربية وضالة ثقافتها تضارع أرقى شباب أوربا ذكاء وثقافة ومدنية، وليس هذا بغريب في بلد يدعي زعماؤه انه هو مهد الحضارات البشرية، وان لغته (أي التركية) هي اصل اللغات البشرية، ويحسبون أن ما اسبغ على تركيا الجمهورية في أعوامها القلائل من قشور المدنية الأوربية يكفي لوضعها إلى جانب اعظم الأمم رقيا وحضارة.

هذا وأما عن حركات الشباب في الأمم الإسلامية والعربية فلا نستطيع أن نبسط القول، ومن الأسف انه لم تنتظم في أممنا الإسلامية والعربية حركات منظمة قوية من الشبيبة. نعم قام الشباب في مصر وفي البلدان العربية بحركات متقطعة، واشتركوا في الحركات القومية، وكان لهم فيها يوم قيامها اكبر الأثر. ولكن هذا العمل القومي لم يكن منظما ولا مستمرا، ولم تدعمه من الناحية الأخرى تلك المزايا القومية والأخلاقية التي ننشدها. ومن الأسف أيضاً أن شباب الشرق يتأثر من آن لآخر بنزعات الشبيبة الأوربية، فيحاول أن يقلدها تقليدا أعمى. مثال ذلك ما أذيع من أن شباب بعض البلدان العربية يحاول أن يقتبس من مبادئ الحركة الهتلرية، مع أن الحركة الهتلرية هي من اشد الحركات الحديثة نزعة إلى الاستعمار، وابلغها عداوة للحرية، واشدها احتقارا للأمم الشرقية؛ فمن الواجب على شبابنا أن يسترشد في حركاته وأمانيه بالظروف المحلية والغايات القومية قبل كل شي، ومن الواجب أن يعمل ولكن في روية واستنارة؛ ومن الواجب أن يسترشد دائما بمحن الوطن وماضيه المجيد في تغذية العاطفة القومية، وأن يكون شعاره العمل الرزين المنظم في سبيل الأماني القومية.

محمد عبد الله عنان المحامي