مجلة الرسالة/العدد 65/صفحة من التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 65/صفحة من التاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1934



روح مصر

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

دع من شاء يتغنى بفرنسا وما في فرنسا، ودع من شاء يتغنى بإنجلترة وما في انجلترة؛ دع هؤلاء جميعا يعنفون مصر وما في مصر وينكرون ماضيها، فما نحن منهم في شئ. وليس في الأمر علينا من مضاضة إلا ألم الساعة نشعر به كلما وقعت أعيننا عفوا أو قصدا على كلمة لبعض هؤلاء؛ حتى إذا مرت الساعة لم يبق من اثر لكلمتهم إلا كما يبقى من اثر قول الولد العاق في نفوس أهله، فان الحب يغلب الكراهة، وسعة صدر الوالد لا يدوم معها الغل ولا تبقى عليها الحفيظة. ثم لن تكون إلا أعوام فتنضج العقول الفجة، ويتسع الأفق الضيق، ويغزر المحيط الضحل، فيعود هؤلاء جميعاً إلى تقديس مصر ومعرفة روحها، وإعطائها ما يجب لها من الإجلال.

وأما نحن فما بنا ولله الحمد غير مصر وحب مصر، والإعجاب بها والإشفاق عليها: نعجب بما فيها من جليل، ونشفق على ما بها من عليل أو ضعيف. ليس في القلب نحوها موضع لغير عاطفتي الحب والإشفاق. هذه كلمة نفرج بها عن النفس مما تحسه، إذ كثر في هذه الأيام حديث الزراية بمصر من قوم لا نجد في نفوسنا ميلاً إلا للدعاء لهم بالتوفيق إلى ما هو خير من ذلك واكرم.

ولنعد إلى الماضي نقلب فيه صفحة من صفحات تاريخ مصر، لنرى أن روحها كان أبداً روح الكريم الأبي، ولو علا تلك الصفحة صدا القدم، أو غشاء الوهم.

لا حاجة بنا إلى أن نعود إلى أيام الفراعنة، أو إلى أيام مجد الدول الإسلامية التي كان فيها لمصر ذلك الروح المتوثب القوي، بل نعود إلى أيام القرن الثامن عشر الذي يصفه بعض المؤرخين بالظلمة والانحطاط، ولم يتورعوا أن يتهموه بأقسى التهم وأشنعها، وتعدوا فيه الوصف الشنيع إلى السب المقذع حتى في التسمية، فلا يعرفونه إلا باسم (عصر المماليك) كأننا بهم يعيرون حكامه بأنهم كانوا في أول أمرهم يشترون بالمال. وأنا إذا عدنا إلى ذلك العصر لم نجدروح مصر خفيا، بل نراه واضحا مجلواً على عهده من الكرم والأباء: لئن كان حكام مصر الأسبقون يشترون فيأول حياتهم بالمال، فقد كانوا رجالأ طالما ذادوا ع حوض مصر، وحملوا ذمارها. ولقد كانوا يفاخرون بمصريتهم ويعتزون بها، ويسمون أنفسهم منتسبين إليها، فكانوا يعرفون أنفسهم باسم (الأمراء المصريون) وما أجدرنا نحن اليوم أن نسميهم بذلك الاسم ونتجنب تلك منذ أيام إبراهيم ورضوان، ومن جاء بعدهما مثل علي بك الكبير ومحمد بك أبى الذهب. وشهد أهل مصر في أيام هذين الحاكمين الضعيفين تغيرا في نظام الحكم ونمط السياسة، وأخذت شوكة الدولة تتجه نحو جوانب الناس تخزهم وتؤذيهم وتفسد عليهم أحوال حياتهم، وما كان عهدهم بشوكة الدولة أن تكون أداة أذى لهم. فان الأمراء المصريين كانوا منذ القدم إذا تشاحنوا كان تشاحنهم فيما بينهم، وإذا اعتدى بعضهم فإنما كان يعتدي على بعض، وإذا غصبوا مالا أو سفكوا دما فإنما كان الحزب الغالب منهم يغصب مال الحزب المغلوب، ويسفك المنتصرون منهم دماء اتباع الحزب المخذول. وقديما تشاحن الأحزاب على الحكم وتنافسوا على السلطة، وما كان بأهل مصر باس من ذلك، إذ كانوا في كل هذه الحركات بمعزل عن الأذى. دماؤهم محفوظة، وأموالهم محرمة، وأعراضهم مقدسة؛ وأما منذ تولى أمر الحكم إبراهيم ومراد، فقد تغيرت الحال، وخرقت الحدود، وإذا بجنود الدولة تعسف بالناس، وتنتهك حرماتهم، فلم يرضهم ذلك، بل احتجوا وشكوا، ثم تحركوا واضطربوا، وكان اضطرابهم ذلك، قبل أن يتحرك شعب فرنسا في ثورته الكبرى بنحو أربع سنوات.

قال صاحب (عجائب الآثار) في حوادث سنة مائتين وألف للهجرة: أي في سنة ألف وسبع مائة وخمسة التسمية الجائرة التي رددها من قبل أعداء مصر ظلماً منهم وعدوانا. فقد ألصقت بهم هذه التسمية منذ أطلقها عليهم فرنجة الحملة الفرنسية الذين جاءوا إلى مصر لينزعوها من أيديهم ويحلوا محلهم في حكم البلاد، فكانوا يحاولون في كل مناسبة أن يشهروا بهم ويحملوا عليهم، بغية أن يفسدوا عليهم قلوب أهل مصر. ولهذا حبب إليهم أن يسموهم باسم (المماليك) وان ينعتوهم بأشنع النعوت، ويتهموه بأبشع التهم.

أما نحن فما أحرانا أن ننظر لأنفسنا بأعين مجردة عن الهوى، وان ننظر إلى صفحة تاريخهم بغير حقد ولا كراهة، فما كانوا بأهل لذلك، وما كان حكمهم إلا كسائر حكم الدول التي تعاقبت على مصر في مختلف العصور. فلقد تعاقب في عهدهم حكم العدل والظلم، وأختلف في زمانهم زهو النصر، وذلة القهر - وأي عصر في التاريخ قد خلا من مثل هذا التقلب والاختلاف؟ وكان شعب مصر في مدتهم يزن الدولة، فيرى ما فيها من حسنة وسيئة، فإذا رأى الحسنة غالبة، غفره السيئة في سبيلها، وهو في ذلك مثل سائر الشعوب المتمدينة المستقرة، لا تستخفهالحوادث إلى العنف ضناً بالسلام والطمأنينة،

غير أن ذلك الشعب الوديع كان يرى أحيانا من الحكام من لا يستحق عطفه ولا إجلاله، فكان عند ذلك يرفض الاعتداء بإباء العازم على عدم الاستكانة. وما اكثر الآيات الدالة على هذا لمن أراد النظر لنفسه، ومن لم يتلق وحيه عن أساطير الكارهين الكاشحين.

ولي أمر الحكم في مصر في أواخر القرن الثامن عشر أميران من اضعف من ولي أمر الحكم فيها، وهما مراد وابراهيم. فكان حكمهما في مصر أشبه شئ بالمرض يعتري جسم الشاب الناشئ؛ وتهدم في أيامهما ما بناه أكابر الأمراء السالفين قبلهم وثمانين للميلاد ما يأتي:

(وفي صبيحة (يوم الجمعة) ثارت جماعة من أهالي الحسينية بسبب ما حصل في أمسه من حسين بك (تابع مراد بك) وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول. والتف عليهم جماعة من أوباش العامة والجعيدية، وبأيديهم نبابيت ومساوق، وذهبوا إلى الشيخ الدردير، فونسهم وساعدهم بالكلام وقال لهم: أنا معكم، فخرجوا من نواحي الجامع وقفلوا أبوابه، وصعد منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول، وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة، وأغلقوا الحوانيت، وقال لهم الشيخ الدردير: (في غد نجمع أهالي الأطراف والحاران وبولاق مصر القديمة، واركب معهم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم) فلما كان بعد المغرب حضر سليم اغا مستحفظان، ومحمد كتخدا ارنؤد الجلفي كتخدا إبراهيم بك وجلسوا في الغورية، ثم ذهبوا إلى الشيخ الدردير وتكلموا معه، وخافوا من تضاعف الحالة، وقالوا للشيخ: (أ. كتب لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون) واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانصرفوا، وركب الشيخ في صبحها إلى إبراهيمبك أرسل إلى حسين بك فأحضره بالمجلس وكلمه في ذلك. .) ولم يقف الأمر عند حدود القاهرة، بل اشترك أهل الأقاليم في ذلك، فلم تمض السنة نفسها حتى تحركت مدينة طنطا في أيام مولد وليها المشهور السيد البدوي، وكان الشيخ الدردير على راس الحركة هذه المرة أيضاً.

قال صاحب تاريخ (عجائب الآثار):

(فذهبوا (أي أهل طنطا) إلى الشيخ الدردير، وكان هناك بقصد الزيارة، وشكوا إليه ما حل بهم، فأمر الشيخ بعض اتباعه بالذهاب إلى (الكاشف الظالم) فامتنع الجماعة من مخاطبة ذلك الكاشف، فركب الشيخ بنفسه وتبعه جماعة كثيرة من العامة، فلما وصل إلى خيمة كتخدا الكاشف دعاه فحضر إليه والشيخ راكب على بغلته، فكلمه ووبخه وقال له: (انتم ما تخافون من الله) ففي أثناء كلام الشيخ لكتخدا الكاشف هجم على الكتخدا رجل من عامة الناس وضربه بنبوت، فلما عاين خدامه ضرب سيدهم هجموا على العامة بنبابيتهم وعصيهم، وقبضوا على السيد احمد الضاني تابع الشيخ وضربوه عدة نبابيت، وهاجت الناس على بعضهم، ووقع النهب في الخيم وفي البلد، فنهبت عدة دكاكين، وأسرع الشيخ بالرجوع إلى محله. . . ثم حضر كاشف المنوفية وهو من جماعة إبراهيم بك الكبير وحضر إلى كاشف الغربية وأخذوا وحضر به إلى الشيخ، واخذوا بخاطره وصالحوه ونادوا بالأمان. . . ولما رجع الشيخ الدردير إلى منزله حضر إليه إبراهيم بك الوالي واخذ بخاطره أيضاً، وكذلك إبراهيم بك الكبير، وكتخدا الجاويشية.)

غير أن الحوادث السياسية التي وقعت في ذلك الوقت حالت دون استمرار سعى أهل مصر نحو إصلاح نظام الحكم بأنفسهم، وذلك أن السلطان أرسل عند ذلك جيشاً لمعاقبة المفسدين في زعمه. فانخدع أهل مصر وتركوا ما كانوا فيه من مسعى ظناً منهم أن السلطان كفيل لهم بإزالة المظالم وإصلاح الأمور. وبقى جيش السلطان في مصر قليلاً، ثم دعته الدواعي إلى مغادرة البلاد فعاد الأمر إلى ما كان عليه من عبث مراد واتباعه، وعاد الناس يفكرون في الدفاع عن أنفسهم والتحرك لإزالة العسف، وأضحت مصر والجو فيها مكفهر، والقلوب غير مستقرة، والشعب متحفز، وأهل الدولة في وجل وترقب.

قال صاحب (عجائب الآثار) في وصف هذه الأيام:

(وركب إبراهيم بك الكبير في ذلك اليوم وذهب إلى الشيخ البكري وعيد عليه، ثم إلى الشيخ العروسي، والشيخ الدردير، وصار يحكي لهم، وتصاغر في نفسه جداً، وأوصاهم على المحافظة وكف الرعية عن أمر يحدثونه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت، فانه كان يخاف جداً.) ثم أراد الله مرة أخرى أن يحول دون تمام تلك النهضة، إذ لم تلبث البلاد أن شهدت طلائع الحملة الفرنسية، فكان في تلك الحملة المشئومة آخر قضاء على حركة مصر في القرن الثامن عشر.

أمن الحق أن يقول قائل مع هذا إن أهل مصر ظلوا منذ القدم على الاستكانة والخضوع للمظالم؟

محمد فريد أبو حديد