مجلة الرسالة/العدد 652/أمي. . .!
مجلة الرسالة/العدد 652/أمي. . .!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
ترجع ذاكرتي الآن سبعا وثلاثين سنة وأنا في ساعة من ساعات الذكرى إلى الصورة الأولى من وجه باسم يطالعني مع الصبح كل يوم يوقظني من النوم، ويهدهدني في فراش الطفولة بكلمات مقصوصة مضغوطة في تنغيم قليل وتمطيط ومعابثة، فلا ألبث أن أستيقظ لذلك الوجه الراعي الواحد الذي ما كنت أعرف غيره بعد في دنياي يومئذ.
تلك هي الإلتماعة الأولى التي أدركت بها وجودي وابتدأت روحي على نورها الضئيل تدخل رحاب الدنيا وتستفيق من ذهول الطفولة.
وتلك هي الصورة الأولى للدنيا في نفسي: وجه صبيح باسم راحم يطالعني مع نور الصبح الندي الجميل، ويعابثني بيد رحيمة رفيقة. . .
وكذلك تدخل الدنيا إلى وعي الطفولة في إطار من الحب والرحمة والحنان والابتسام. . .
وكذلك كانت الأمومة السفير الأول من الله للنفس البشرية يرسله إلى الوافد المولود يرحب به على عتبات الوجود، ثم يدخل به في ترحاب داخل العتبات. . ألم يقل (أنا الرحمن وأنت الرحم).
ومازال هذا الوجه يرعاني بعينيه حتى أغمضتهما بيدي الإغماضة الأخيرة في مساء الجمعة الحادي عشر من ذي الحجة الماضي، بعد أن انطفأ فيهما نور الحياة، فوضعت ذلك الوجه في ذلك القبر الذي ضرحنا له فيه.
ومنذ أن شببت عن الطوق ومضيت في طريقي إلى الاكتمال وبلوغ الأشد، ومضت هي في طريقها إلى الذبول والأفول تيقظت لهذا اليقظة الكبرى وأدركتها بالفكرة كما أدركتها قبل بالإلهام، وعرفت موضعها مني وموضعي منها كروح انبثقت من روحها وجسم كون من جسمها وصار حبي إياها ينمو ويشتعل بذلك اللهيب الأبيض الدافئ اللذيذ الذي ينضج القلب ويهيئه للحب الأكبر الذي تعمر أسراره جوانب الكون الجميل.
صار حُبيها أوسع محراب أقف فيه لأشهد منه الكون في أروع صورة من صوره ذات التهاويل والتعاجيب! وكنت أحس حركة قلبي حين يكون في جوارها فأستلمه بكفي من فرط الشعور به وشدة الحركة فيه. . . أقول حقاً أيها القارئ ولا ألعب بألفاظ وقد أتيح لي من إدراك أمي بفكري الكامل ما لم يتح لي من إدراك أبي رحمه الله، فقد توفي منذ سبعة عشر عاماً، قبل أن يدخل على من إرهاف الحس وتوفز الشعور بالحياة وعجبها ما دخل! ولذلك اكتفيت من رثائه يومئذ بدموع يوحدها مع أنه كصورة من أحق صور العلماء بالتسجيل والبيان لعمق روحه وفكره - وحسبك من رجل كان يستحي من نفسه!
أما أمي فقد أنسأ الله لي في أجلها حتى أدركتها الإدراك الكامل، فكانت منبعاً فياضاً من ينابيع الشعر في نفسي. وقد كتبت عنها مرات خطراتي اليومية، وأدركت منها أن الأمومة هي منبع الخير والرحمة والحب والبر الذي في الدنيا وليس الخير كما يتوهم (نيتشه) فلسفة الضعف ووسيلة الضعفاء والعبيد إلى خديعة الأقوياء والسادة ليتوقوا به بطشهم ونكالهم، وإنما الخير والبر والرحمة هي فيض الأمومة على أبنائها في أسرتها الصغيرة ومن الأسرة الصغيرة انتقل ذلك الفيض إلى الأسرة البشرية الكبيرة في الأمة والأمم.
فلولا الأم لاستمر اقتتال الأخوة على الطعام والمقتنيات كما يقتتلون ويتنازعون أول دخولهم الحياة، ولكنها لا تزال توصي الأخ بأخيه وتحببه فيه وتربط ما بينهما حتى يشبا ويجدا طعم الدم الواحد في قلبيهما ويذكرا الجذع الواحد الذي تفرعا منه، ثم يتسع معنى الرحم بتفرع الأسرة حتى تصير قبيلة ثم أمة وهكذا.
فليس منبع الخير هو الضعف كما يفلسف (نيتشه) نبي النازية الكاذب الذي تأثرت الهتلرية وإضرابها بفلسفته وصدرت عنها في حرب البطن وخيلاء القوة، وإنما منبعها قوة الأمومة الصبور الحاملة أمانتها في جلد ورضا وغبطة ورحمة، وأعظم بها أمانة! لأنها أثقل تبعة وأعظم رسالة!
كتبت عن أمي في سجل خطراتي في 13 - 8 - 1939:
(هذه أمي! هذه أمي العجوز الجليلة، تكلمني وأنا لا أستمع لأحاديثها لأني مشغول بالتفكير فيها وعلاقتي بها، ونهايتها. . .
ما أبسطها قضية إذا نظرت إلى سطوح الأشياء بدون تفكر في الأسس والنسب التي قامت عليها! وهي أم ككل الأمهات الكثيرات، والدات الحيوان والأنسان، لا تستحق الشعر والفلسفة، ولا تستلزم أكثر من السعي عليها والطاعة لها والبر بها كما يحدث الدين. . . ولكنها عند الفكر محراب مسحور لا تستطيع أن تفلت من بين يديه إلا بخيال وخبال! أننا عْمُىُ الأفكار، نمر على أشياء الله بالنظرة الخاطفة والخطرة العابرة بدون أن نؤدي صلاة الفكر.
ووالله! إني حين أجرد أمي من معنى الأمومة الشائع وألبسها ثوب الطبيعة، أشعر لها بشعور هو أعظم وأجل من الحب المبذول للأمهات. . . ولقد أورثني البعد عنها ثلاث سنين، وأنا بالعراق، الفكر كمعنى مجرد من ملابسات المادة. . . وإذا نظرت إليها وتذكرت أن في صدرها وحدة أعظم مكان يحفظ لي الحب الفدائي الرحيم، وأنه المكان الوحيد الذي نجا من أن يكون فيه شر لي، أحسست الدموع تطفر إلى عيني حادرة في غفلة منها هي. . . بل أحسست أن رحمة الله تنظر إلى من عينيها، وأنه لا بد من سجود!
فإذا حدثتني عن شيء من تاريخها وتاريخ أبي معها وتاريخي في دمها ونفسها وآمالها وفصالي منها واعتمادي عليها. . . انهدم كل كياني الفكري حينذاك، وشعرت بدوار من الحيرة والدهشة لإخراج الله رب الحياة لهذه العجائب والحيوات، وأمسكت بيديها، وهي لا تدري السر، وقبلتهما؛ لأني لا أستطيع أن أصنع في أبراد غلتي وإحساسي بها غير ذلك!
كلا! لن تذهب هذه المعاني العلوية إلى التراب أيها المجانين الملحدون المنكرون لبعث!
لابد أن تحيا هذه المعاني ونحيا لها لندركها في دار الشرح والتفسير لكل ألغاز الحياة!
كلا! لن يضرب الله بين قلبي وقلبها وقلب أبي ويفضل بيننا إلى الأبد، فلا نرى ونحس تلك العجائب التي في عالم القلوب!
إنه تبذير أن تضيع هذه المعاني الكريمة بدون رجعة، وما كان الله من المبذرين!
لو علمت أنه لا لقاء بين الأحباء الذاهبين لظللت عاكفاً على قبريهما أخاطب سر قلبيهما كما يخاطب الوثني الأصنام.
إننا سائرون إلى الله نافخ روحه في أجسامنا ومشوقنا إلى أسراره. . .
وما أجمل أن أنهي حالتي الوجدانية هذه بالصلاة مع والدتي لله مصدر وجودنا، ومنه وإليه مصيرنا!
(إن حياتها تدبر، وحياتي تقبل. وإنني صرت أكبر منها حجما وأكثر علماً. إن بريق عينيها ينطفئ وأسنانها تتساقط وشعرها يشتعل شيباً وجلدها يتجعد، وهيكلها يضعف. . . والحيات تسترد آلاتها منها، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، إنها لا تدرك هذه المعاني التي أدركها.
والحمد لله على الجهل في هذا الموضع! والويل لي حين أبلغ مبلغها من العمر بفكري وشعري!
إنها صورة الطبيعة وتلخيص أعمالها. وإن الطبيعة امرأة! تلد وتدور دورتها الأبدية ولكنها تتجدد! أما بنات حواء فذاهبات إلى غير رجعة في رحاب هذه الطبيعة التي نراها.
ولكن الإنسان المؤمن حينما يرفع بصره إلى الله الحي الدائم الحياة، القوى الدائم القوة ينسى فناءه وفناء أبويه، بل يرحب بذلك الفناء في سبيل الرجوع إلى مصدر الحياة والقرب منه والعيش معه حياة الدوام!
ما أروحك على القلوب أيتها الكلمة التي يتمثل فيها كل العجز الإنساني: إنا لله! وأنا إليه راجعون!
من وجهها عرفت الأزل، ومن وجهي عرفت هي الأبد! كانت صلتي الباقية بماضي في أصلاب آبائي، وظللت وفياً لعشها كبيضة عقيم أو كفرخ عاجز الجناحين).
هكذا كتبت عنها وكنت أستلمها وأستوحي وجودها. . . وهاهو ذا وجهها يطالعني بعد موتها مغمض العينين ينظر لي من فوق سرير الموت ومن أعماق ظلمات القبر، فأشعر لمفارقتها أن حياتي انشطرت أو أني كغصن غاب عنه جذعه الذي يربطه بالأرض ويمده من إمداد المجهول.
ما هو كفاء رحمة قلبك لي وقلبي لك من الألفاظ يا أماه! أي لفظ وأي فكر يترجم عن السر الذي بيني وبينك! إنه الأمومة والبنوة! إنه كل منابع الرحمة والبر والإخلاص. . . أإلى النسيان والفناء ذلك كله؟ كذبوا يا ذات الفداء والتضحية. . . لقد ورثتماني: أنت وأبي الحياة والإيمان فأديتما واجبكما كاملا غير منقوص:
وكنت مثالا للأمومة الفطرية المعقولة الملهمة التي لا تفسد ولا تدلل لعطف عكسي. . . ومثالا للعمل الدائب، والشركة الأمينة، والعشرة المنصفة والسهر الدائم على ما استخلفت عليه. . .
لا تأويل عندك يصرفك عن الواجب ويقعدك عنه مهما كانت المشقة فيه.
براءة فطرة وصدق وتصديق وإلهام نافذ لمواقف الخلق السليم. . .
ثقافة شعبية أمية من القرية والمدينة، فيها التجربة والحكمة والمثل، وتتوجها خلاصة من الروح الديني العميق الفطري وإقبال دائم على الله في جميع الظروف.
كان تأثيرها فيّ تأثير الروح في الروح بالسلوك والصراحة والصرامة في مواضع الجد، أما تأثير أبي فكان تأثير التوجيه الصامت والأدب الحي والقلم الجليل والوجه الوقور.
حين قرأت في أذنها بعد ما فاضت روحها ما حضرني من القرآن والدعاء. . . وحين ألصقت يدي بعد وفاتها بخديها الباردتين اللذين سرت فيهما برودة الموت في منتصف ليلة الوفاة كما كنت أفعل دائماً وهي في الحياة. . .
وحين نزلت قبرها وضرحتها فيه كما كانت الوصاة بجوار قبر أبي، وجلست بين القبرين. . .
وحين أمر بسريرها خالياً من جسدها الذي كان ملء نفسي وفكري. . .
وحين أرى ثيابها يعمرها شبحها، وأتذكرها تمر بالمنزل حجرة حجرة كطيف رحمة. . .
وحين أقرأ مدونة محفوظات أمثالها وحكمها الكثيرة العجيبة التي كانت تستشهد بها كأحسن منطق في منطق العامية المصرية نقلا عن عمتها الحاجة (شركس) الصالحة التي لم تنجب وكان همها العبادة والتوجيه لشابات العائلة.
وحين أرى البقية القليلة من لداوتها وصديقاتها اللائى من طراز كاد يفنى. . .
بل حين أرى عجوزاً مثلها في أي مكان. . .
حين هذا كله شعرت وأشعر أنها خلفت لقلبي ذخيرة قيمة من الحزن الثمين الذين يقتات منه في أزمات القحط الروحي.
عبد المنعم خلاف