مجلة الرسالة/العدد 652/مقاطعة الصهيونية. . .

مجلة الرسالة/العدد 652/مقاطعة الصهيونية. . .

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1945


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

قررت جامعة الدول العربية مقاطعة الصهيونية، أو إنتاجها على الأصح، وكان القرار بالإجماع، وليس للجامعة أداة تنفيذية، وإنما أداتها الحكومات الداخلة فيها، فكل حكومة تنفذ قرار الجامعة، بوسائلها الخاصة، التي تسمح بها قوانينها ونظمها وأحوالها، والوسائل ميسرة وعديدة، منها على سبيل المثال الحواجز الجمركية التي يمكن أن تقام في وجه الصادرات الصهيونية من فلسطين لمنعها من دخول البلاد العربية؛ ومنها كذلك منع إصدار المواد اللازمة للصناعات الصهيونية، إلى فلسطين، مثل الرمل من سورية، فإنه يدخل في صناعة الزجاج ولا غنى بها عنه؛ ولا خسارة على سورية من هذا المنع، لأنه يسعها أن تصدره إلى مصر، وفيها كما هو معلوم، صناعة عظيمة للزجاج، ومثل الأبقار العراقية التي يستوردها الصهيونيون، وينتفعون بلحمها وجلودها، فإن بمصر حاجة إليها، الخ الخ.

والأمر، كما قلنا مرة من قبل، في هذا الموضع من الرسالة، يحتاج إلى تنظيم - تنظيم أمر المقاطعة، وتنظيم التعاون بين الدول العربية لسد النقص وتعويض الخسارة، في البداية.

ونقول (في البداية) لأن الإنتاج الصهيوني كان قد غزا الأسواق العربية مغتنماً فرصة الحرب وانقطاع الواردات الأوربية أو قلتها، وشراء مادة من السوق أيسر مطلباً من صنعها، ولكن الحرب وضعت أوزارها، وزالت الصعوبات التي كانت مقتضيات الحرب قد أقامتها في طريق التبادل التجاري بين البلاد العربية، ففي وسع كل بلد أن يستورد من البلاد الأخرى ما ينقصه ويحتاج إليه، للاستهلاك أو للصناعة، وأحر بهذا أن يساعد على قيام صناعات شتى كانت متعذرة في أيام الحرب، وفي هذا خير كثير للبلاد العربية، حتى بغض النظر عن الصهيونية ومكافحتها، وإنها لفرصة ينبغي أن تغتنم، فإن في كل بلد من بلادنا العربية موارد وخيرات عظيمة، وقد لا تكون كل دولة من دولنا قادرة بمفردها على استغلال هذه الموارد الطبيعية على خير وجه، ولكن الأمر يكون أيسر وأقرب منالا إذا تعاونت على ذلك فيما بينها، فتفوز بالحُسنيين: تكفي نفسها حاجاتها وتمنع أن تضطر إلى وَكْل هذا الاستغلال للأجانب الذين يخرجون بالخير كله، ولا يخرج أهل البلاد بأكثر من أجرة الأجير وهذا الاستغلال يقتضي تأليف الشركات القوية مالياً وفنياً، وليس يعوز بلادنا العربية المال، ولكنه قد يعوزها الفن أو الخبرة إلى حد ما، ولا ضير من الاستعانة بخبراء من أوربة أو أمريكا حتى يوجد من العرب من يحل محلهم ويقوم مقامهم، أو يغني غناءهم. ومن السهل أن تحفظ كثرة الأسهم في كل شركة تؤلف لمثل هذا الغرض للبلد الذي يراد استثمار مورد من موارده، حتى لا يكون هناك غبن على أحد، وحتى لا يستأثر بلد دون آخر بالخير كله والربح أجمعه

وهذا أمر يطول، لأنه يستوجب درساً دقيقاً، وتدبيرا محكماً، ومن أجل هذا ينبغي الشروع فيه من الآن، ليتسنى أن تؤتي ثمرته بأسرع ما يمكن، قبل أن تعود الأحوال التجارية العالمية إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وحينئذ يخشى أن تغرق الواردات الأجنبية أسواقنا، وتهجم علينا رءوس الأموال الأجنبية، فتستولي على الميدان قبل أن نستطيع أن نضع فيه قدماً.

وقد زعم الصهيونيون أن المقاطعة لن تنجح، وتحدث بهذا أحد الأمريكيين من أنصارهم المخدوعين بالدعاية الصهيونية، ولعله لا يعرف أين موقع فلسطين من الأرض، وردنا على ذلك أن الصهيونية حديثة في الشرق العربي، وقد طرأت عليه بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يكن لها ولا لصناعاتها قبل ذلك وجود، وكانت البلاد العربية قاطبة تعيش في رغد وخفض، ولم تكن تشعر أن بها حاجة إلى هذه الصناعات الصهيونية. والذي كان من قبل لا يتعذر أن يكون من بعد.

وإذا كانت الصهيونية تنتج بعض ما لا تنتجه بلادنا، أو ما يتيسر لها إنتاجه، فإنه ليس بمعدوم النظير في العالم، وقد انتهت الحرب ففي وسع البلاد استيراد ما هو خير من المصانع الغربية. وعلى أن ما استطاعه الصهيونيون لا يتعذر مثله في مصر والشام والعراق، وما نظن بأمريكا التي تسرف في تأييد الصهيونية، وبريطانيا التي لا يعدم فيها القوم أنصاراً لقضيتهم الظالمة، إلا أنهما يسرهما أن يقبل العرب على إنتاجهما ويزهدوا فيما يعرضه الصهيونيون. ونحسب أن هذا من البدائه التي لا تحتاج إلى بيان.

والمقاطعة كما قلنا مراراً، هي أمضى سلاح في مكافحة الصهيونية، وذلك لأسباب:

الأول: أنه لا فلاح لدولة يسبق قيامَها الخرابُ الاقتصادي، فإذا تبين الصهيونيون أن المقاطعة تنتهي بهم إلى الخراب، فلا شك في أنهم سينفضون أيديهم من أمر هذه الدولة المقضي عليها. ولقد كان شر ما حاق بهم في ألمانيا على عهد هتلر أنه اضطرهم أن يعيش بعضهم على بعض، وحرّم عليهم أن تكون لهم صلة ما بالشعب الألماني، فلم يطيقوا هذا. وراحوا يثيرون على هتلر ثائرة العالم كله. وإذا نجحت المقاطعة فسيؤول بهم الحال إلى مثل هذا. وما جاءوا إلى فلسطين ليعيش بعضهم على بعض، بل ليعيشوا على العرب جميعاً

الثاني: أن الصناعات التي أقاموها في فلسطين مقصود بها أن تغزو أسواق الشرق الأوسط الذي صرح زعماؤهم في المؤتمر الصهيوني بلندن أنه مجال حيوي لهم. فالمقاطعة مؤداها أن تبور هذه الصناعات.

الثالث: أن هذه الصناعات الصهيونية باهظة التكاليف، وخسارة القوم محققة لا شك فيها، ولكنهم احتملوا الخسارة، وراحوا يسدون العجز من التبرعات التي ترد عليهم في كل عام من أقطار الأرض جميعاً - حتى من مصر فأن لهم فيها وكالات أو هيئات تخدم الصهيونية سراً لا جهراً. وقد فضحها الله وكشف سترها يوم ذهب محام يهودي من مصر إلى تل أبيب وخطب هناك ودعا إلى محاربة قيام الجامعة العربية في لندن، ونشرت صحف الصهيونيين هذه الخطبة أو خلاصتها ونقلتها جريدة الدفاع وقرأتها، فنبهت إلى هذا واحتججت عليه فاضطر المحامي أن ينفي أنه قال هذا.

والصهيونيون يصبرون على هذه الخسارة وفي مرجوهم أن ينجح سعيهم فتقوم دولتهم وتفتح الأسواق في وجهها وحينئذ يتسنى أن تثبت الصناعات على قاعدة اقتصادية سليمة. ولا نحتاج أن نقول أن المقاطعة تحول دون ذلك.

غير أن المقاطعة لا ينبغي أن يقتصر الأمر فيها على ما تتخذه الحكومات من التدابير، فإن على الأمة العربية واجب المساعدة، والتعاون بين الحكومة والشعب هو الذي يحقق الغاية ويكفل النجاح. وقد نضطر من جراء ذلك إلى الصبر إلى حين على نقص بعض المواد، ولكنا تعودنا هذا الصبر ووطنا أنفسنا عليه في سنوات الحرب، وما زلنا صابرين، فلن يضيرنا أن نصبر ونتشدد سنة أخرى أو بعض سنة، وعلى أننا لن نُحرم شيئاً جوهرياً أو له قيمة كبيرة، فإن كل ما يصنعه الصهيونيون في فلسطين مما يسهل الاستغناء عنه.

وقد استبشرت بنزول المرأة العربية في فلسطين وسورية إلى الميدان، فإن عليها المعول في نجاح المقاطعة الشعبية، فعسى أن تقتدي بها المرأة العربية في كل بلد آخر. والله الموفق.

إبراهيم عبد القادر المازني